هل التشريعات الدينية مطلقة أبدية؟ … بقلم: عمرو عبد الرحمن

النصوص الكلية الأخلاقية تظل باقية لتعبر عن جوهر الدين، رغم تعرضها للتحجيم الفقهي عبر أدوات كالنسخ وعموم اللفظ، بينما التشريع يعكس الاجتماع في زمان ومكان معينين.

بقلم/ عمرو عبد الرحمن

280709377_5758375077522788_4038074696299373968_n2 هل التشريعات الدينية مطلقة أبدية؟ ... بقلم: عمرو عبد الرحمن

هل العبودية هي إرادة الله؟
لم تجد الفلسفة اليونانية في مبدأ العبودية تناقضاً مع الأخلاق، واعتبرها أرسطو ظاهرة منسجمة مع الطبيعة والعقل. اليهودية تعاملت معها كأمر واقع مباح لكن قصرتها على غير اليهود، بينما لا يجوز استرقاق العِبري إلا إذا سرق وعجز عن تعويض من سرقة، ويتم عتقه إجبارياً بعد مدة أقصاها ست سنوات.
المسيحية ورغم فلسفة المحبة لم تؤد إلى تحرير العبيد ولم تتضمن النهي عن العبودية، ربما متأثرة بالواقع الروماني الذي نشأت فيه.

في الإسلام توجه النص كان للتخفيف من آثار العبودية وتقليص وجودها، لكنها لم تخلق رؤية مختلفة على مستوى الموقف من العبودية، فقد تعامل معها النص كأمر واقع، بينما الفقه يجيب على السؤال بالتأسيس لشرعية العبودية استناداً للإقرار الإلهي بوجودها.

وهنا عبد الجواد ياسين يفرق بين مفهوم إرادة الله الشارعة، وإرادة الله الخالقة، وأن الله لا يقر العبودية بإرادته الشارعة، لأنها ضد الأخلاق والمساواة بين الناس وهما من أهم أسس الدين، بينما العبودية موجودة بإرادته الخالقة مثل القتل والظلم، أشياء موجودة في الواقع بسبب البشر رغم النهي الإلهي عنها.

منحت النصوص للفقه فرصة لتكريس ثقافة الرق وإنتاج مجموعة من الأحكام المتعلقة بالمعاشرة والزواج والزنا.
فمثلاً لا يوجد ملك يمين للمرأة، ولا يجوز لها معاشرة عبدها، وعندما قامت امرأة بذلك في زمن عمر استشار في رجمها الصحابة فلم يوافقوه، فقرر منعها من الزواج وأمر العبد ألا يقربها!
كما يجوز معاشرة الإماء حتى لو كن متزوجات، وتأسيساً لذلك ذهب الفقهاء إلى أن السبي يفسخ عقد الزواج للمرأة.

أباح الإسلام زواج الحر من الأمة لكن ذلك لم يكن مُفضلاً، وطبقاً للرازي أحد الشافعية فالسبب أن أبناء الأمة سيولدون عبيداً مثلها، وأن الأمة سيكون لسيدها سلطة عليها فيمكن أن يمنعها ويحبسها، حتى لو أرادها زوجها، وأن سيدها يمكنه بيعها وإرسالها إلى مكانٍ بعيد.
وضع الفقه يده على العوار الذي سيحدث هنا وبدلاً من معالجة سببه وهو العبودية، قرر تقليص فرص الأمة في الزواج!

هل ظلم الإسلام المرأة فيما يتعلق بالمواريث؟أحكام المواريث نموذجاً لحوار النص مع الواقع
إجمالاً وافقت أحكام التوريث في القرآن ما جرى عليه العرف في الجاهلية. فظل التوريث إما عن طريق الدم أو الولاء، والولاء إما عن طريق العتق أو العهد مع إعطاء الأمر لمسة إسلامية في صورة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كبديل للحلف في الجاهلية.
لكن القرآن خالف أعراف الميراث الجاهلية في عدة أحكام كما في توريث البنات والزوجات والصغار، وإعطاء ذوي القربى واليتامى والمساكين من غير الورثة عند حضور القسمة.

يرى الكاتب أن الموافقة والخلاف هنا وجهان لعملة واحدة، هو حوار مع الواقع وتشريع منه وله. ولو اختلف المجتمع لاختلفت التشريعات.

“للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا” (النساء – 7).
يبدو جلياً أن الآية جاءت لاستنكار وضع حالي، وترسيخ مبدأ أن النساء لهم حق في الإرث كما للرجال.
اعتبر الرازي الآية خطوة توضح التدرج في إرساء القواعد، بشكل عام قبل التفصيل، بينما اعتبرها القرطبي تمهيد للوصول للحكم النهائي الذي كان جاهزاً قبل كل شيء.

الآية “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” (النساء – 11)، نزلت بعد شكوى امرأة توفى زوجها وأخذ أولاد عمه أمواله بدون أن يعطوا منه شيئاً لها أو لبناته، فاشتكت المرأة للرسول، فنزلت الآية ودفعوا المال لها ولبناتها.

فإذا نظرنا لأحكام المواريث في زمنها، حينما كان يتم حرمان أي فرد غير قادر على القتال من الميراث، وخصوصاً النساء والصغار، سنجد أنها كانت منصفة جداً، المشكلة تنتج عند النظر إليها في زماننا وهي تشتبك مع واقع مختلف، وظروف مختلفة، ووضع مختلف تماماً للنساء، مقابل جمود للحكم الفقهي، لأنه مرتبط بنص تتم معاملة كل مكوناته من عقيدة وتشريعات كوحدة واحدة، ذات طبيعة واحدة نهائية ومؤبدة.

هل كان نظام الزواج في الإسلام مختلفاً كلياً عن البيئة اللي نزل فيها؟
وافق الإسلام في الزواج والتفريق النظام المتبع في الجاهلية. ففي الجاهلية كان هناك سلطة للولي وكان المهر ركناً أساساً وكانت العصمة في يد الرجل، وعرفت الجاهلية الخلع وهو طلب المرأة للطلاق مقابل مال تدفعه للرجل، وكان الرجال يعتزلون النساء في المحيض.

وقنن الفقه الظروف الاجتماعية للمتزوجين في باب الكفاءة. لكنه زاد عليها شهور العدة وتحريم الزواج من المشركين، ورغم كراهة الزواج بزوجة الأب في الجاهلية إلا أنه كان سلوكاً مباحاً، لكن الإسلام حرمه.

لاحقاً بنى الفقه نظاماً للزواج مستنداً لنصوص القرآن والروايات الواردة عن النبي، لكنها تحمل السمات الأساسية للاجتماع الجاهلي وفي مقدمتها نظام الهيمنة الذكورية، وهو النظام الأكثر شيوعاً في الاجتماع البشري عموماً عبر التاريخ.
التعريف الذي وضعه الفقه للزواج هو أنه عقد وضع لملك المتعة. غرض العقد التملك وموضوعه المتعة. المالك هو الزوج وطرفيه هما الزوج وولي المرأة.
استخدم القرآن لفظ الأجر في معنى المهر وهو العوض مقابل المتعة. المتعة هنا هي متعة الرجل وكأن المرأة لا تستمتع أو لا يجوز لها التصريح بأنها تستمتع، هي فقط موضوع المتعة التي تتقاضى في مقابله الأجر، وهو لذلك التزام مفروض في حق الرجل.

الصورة الفقهية التشريعية للزواج تغيب عنها الأغراض الوجدانية والحسية، التي نجدها واضحة في النصوص القرآنية المعبرة عن المطلق الأخلاقي في صورة المودة والرحمة والسكن.
فكيف يمكن التوفيق داخل القرآن بين النصوص الكلية والنصوص التشريعية؟

النصوص الكلية الأخلاقية تظل باقية لتعبر عن جوهر الدين، رغم تعرضها للتحجيم الفقهي عبر أدوات كالنسخ وعموم اللفظ، بينما التشريع يعكس الاجتماع في زمان ومكان معينين.

لا نستطيع إنكار أن القرآن في مسألة الزواج كان يترجم الخط العام للثقافة الجاهلية، فأقر مبدأ السيادة الذكورية بسمتها العربي، إلا أنه أدخل عليها بعض التعديلات مثل النهي عن وراثة النساء، وعدم الجمع بين الأختين، وإمساك النساء لمنعهن من الزواج.

هل يجوز للمرأة تزويج نفسها؟
ذهب جمهور الفقهاء على أن المرأة لابد أن يزوجها وليها، بينما خالف أبو حنيفة هذا الرأي فذهب إلى أن المرأة يجوز لها تزويج نفسها دون إذن وليها.
نفس النصوص، ولكن اختلفت القراءة الفقهية.

يتفق الفقه الشيعي مع السني في شرط الولاية، لكن يظهر الاختلاف واضحاً في قضية الزواج المؤقت أو زواج المتعة. الاختلاف الفقهي أمر وارد الحدوث، لكنه هنا كان فيه مبالغة محمّلة بسياق الخصومة المذهبية والسياسية بين الطرفين.
ففي الفقه الشيعي زواج المتعة فضيلة يُتقرب بها إلى الله، بينما في الفقه السني هو زنا يستحق العقاب رغم أن ثبوته عن النبي يقيني، بينما نسخه غير يقيني لاختلاف الناقلين عنه من الصحابة مع خلو القرآن من النهي عنه.

فيرى سعيد بن المسيب أن المتعة نسختها آية الميراث حيث لا ميراث في زواج المتعة، ويقول علي بن أبي طالب أن النبي حرم المتعة، بينما يقول ابن عباس أن عمر بن الخطاب هو من منعها.
كان ابن عباس يؤسس لرؤيته على القراءة الواردة في مصحف أبيّ الآية ٢٤ من سورة النساء “فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَآتَوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً” وهي قراءة يخلو منها المصحف العثماني الرسمي الذي يخلو من لفظ “إلى أجل مسمى”، مما يعني أنه كان يستند إلى نص قرآني صريح من وجهة نظره، ويحيل إلى نظام نكاح معروف في الوضع الاجتماعي القائم.

لا يقدم الفقه السني تعريفاً واحداً لزواج المتعة سواء بالنسبة لشرط الولي أو الشهود، كذلك تختلف الروايات في الأوقات التي تم تحليله وتحريمه فيها.
فيقول جابر بن عبد الله: “كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بالقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ، الأيَّامَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، حتَّى نَهَى عنْه عُمَرُ، في شَأْنِ عَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ”.
ويقول بن عباس: “ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر بن الخطاب عنها ما زنى إلا شقي “.

نهي عمر كان مستنداً لصلاحياته التشريعية كما فهمها، في نطاق سلطاته كحاكم وفقاً لمصلحة الدين والجماعة ولهذا قال: “متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة الحج، ومتعة النساء”.
هنا عمر يفرض رؤيته كما فهمها وكما ورد في تعطيله لحد السرقة مثلاً، ولأن النسخ من المفترض أن يحدث في زمن النبي، فهنا قدم الفقه تأويلات أخرى لتصرف عمر مثل أنه ينهى من لم يبلغه نهي النبي، أو أنه كان يعلم بنهي النبي، فرغم أن نهي عمر كان منطلقاً من صلاحياته كحاكم إلا أن الفقه اعتبرها مصدر تشريع، وأضاف لها الإجماع.

في نهاية حديثه عن نظام الزواج، يتحدث عبد الجواد ياسين عن المحرمات من النساء واللاتي تم ذكرهن في آيات سورة النساء:
“ولا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)” (النساء).
وكيف وافق الإسلام إلى حد كبير البيئة المحيطة في هذا الجانب، ما عدا الزواج بزوجة الأب رغم إنه لم يكن شائعاً، بل على العكس كان يحظى باستهجان لدرجة تسميته بزواج المقت، والجمع بين الأختين.

لكن هل اكتفى الفقه بما ذُكر في هذه الآيات؟
في عموم آيات القرآن ورد التحريم في عشرين حالة، لكن الفقه زاد عليهم مما ورد في السنة أو ما اعتبره إجماعاً.
فهنا واجه الفقه السلفي المبكر إشكالية حجية النص القرآني القطعي (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ) وبين الحالات التي وردت في السنة أو عن الصحابة. ولعل الحالة الأبرز هي الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وهي لم يرد بها نص قرآني لكن ورد بها حديث عن النبي.
فكيف تعامل الفقه مع هذا الموقف؟

استخدم الفقه آليات الدفاع التقليدية، فهناك من قال أن قول النبي نسخ الآية، ومنهم من قال أن الخالة أو العمة في محل الأم وهذا سبب التحريم، ومنهم من قال أن الآية تشريعها لم يكن مؤبداً بل مرتبطاً بوقت النزول، فالمحرمات لا تكون دفعة واحدة بل يوكل إلى الفقه جمعها للناس، وهذا كان قول ابن العربي المالكي. بينما رأى الرازي الشافعي أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بالخبر المتواتر.
جزء من الآية هو (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) فقررت الآية حرمانية الزواج من امرأة متزوجة إلا لو كانت مسبية في الحرب. وهو الحكم الذي سيتسع على يد بعض الفقه ليشمل جميع الإماء سواء مسبية أو مشتراه، معتبرين أن بيعها هو طلاقها مستندين إلى عموم الآية.

يرى عبد الجواد ياسين أن الإسلام لم يضع نظاماً تشريعياً شاملاً بالمعنى الفني في أي من فروع القانون، لأنه لا يغطي كل الجرائم بدليل لجوء الفقه بمفهوم الجرائم التعزيرية أي التي لم يرد بها نص، ولأن التشريع الجنائي مجمل لا يحدد أركان الجريمة، يكتفي بذكر العقوبة دون بيان شروط تطبيقها، وأعطى أمثلة على ذلك من خلال القتل العمد والخطأ وأنواع السرقات المختلفة ونظرة النص لها، إلى أي مدى هناك فرق كبير في الكمية بين ما يقدمه النص وبين ما يقدمه الفقه.

لقراءة مقالات من سلسلة الدين والتدين بقلم عمرو عبد الرحمن، اضغط على الروابط التالية:
4- الدين والاجتماع… أثر متبادل ومتجدد بينهما … بقلم عمرو عبد الرحمن
2-التشريعات في إطار الاجتماع … بقلم عمرو عبد الرحمن
1-الدين.. والتدين.. الطبيعة المزدوجة للنص … بقلم عمرو عبد الرحمن

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

3 comments

اترك رد

ندوات