يَمنيّ في الجامعة الهولندية… بقلم: د. قاسم المحبشي

قاسم المحبشي

كانت زيارتي للجامعة بمثابة لحظة اكتشاف للمعنى الذي طالما تحيرت في سبيل اكتشافه

بقلم: د. قاسم المحبشي

أستاذ فلسفة التاريخ

اليمن

d8af.-d982d8a7d8b3d985-d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a يَمنيّ في الجامعة الهولندية... بقلم: د. قاسم المحبشي

نستورد المفاهيم مجردة ولم نعيشها

دراستي الجامعية والعليا في معظمها كرستها للفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، في مختلف مدارسها واتجاهاتها المنهجية والنظرية، فقد تمكنت من التوافر على حصيلة لأبأس بها من المعرفة عن النهضة الأوروبية والحداثة وفلسفة التاريخ الغربية، إذ كتبت رسالة الماجستير في الفلسفة الوجودية عند أهم فلاسفتها جان بول سارتر وقضيته الجوهرية ( الوجود والعدم) بصيغة مشكلة الوجود والماهية عند جان بول سارتر بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي، عميد بيت الفلسفة في الفجيرة الأن. 

وكتبت أطروحتي في الدكتوراه عن (فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر؛ ارنولد توينبي موضوعا) بإشراف الأستاذ الراحل مدني صالح أستاذ الفلسفة المخضرم في جامعة بغداد. فضلا عن قراءتي المتنوعة في الفكر والأدب الغربي الحديث والمعاصر في مختلف التخصصات الفلسفية والدراسات الثقافية. 

تلك الخبرة زودتني برصيد كافي عن الفكر والتاريخ والثقافة الغربية ولكنها كانت مجرد معرفة نظرية مجردة؛ تشتمل على الكثير من المصطلحات والمفاهيم والنماذج الثقافية الحديثة الكثيرة ومنها؛ الدولة، الثورة، ألدستور، الجمهورية، الديمقراطية، الأحزاب، الشعب، المواطنة، المجتمع المدني، الليبرالية، حقوق الإنسان، العدالة، الحرية، العلم، المرأة، الطفل، الجامعة ، المؤسسة، الجودة الأكاديمية، الضمان الأكاديمي، حارس البوابة، حرية التفكير، التنوير، العلمانية وغيرها الكثير من المفاهيم التي تدفقت علينا من سياقات تاريخية واجتماعية وثقافية مختلفة ومغايرة طيلة القرنين المنصرمين.

إذ أنه وبعد “صدمة ألحداثة التي هز بها التفوق الحضاري الهائل للاستعمار الغربي بنيان الثقافة الشرقية التقليدية، أخذت “الأفكار” و “المفاهيم” والمؤسسات والممارسات والنماذج والأشكال السياسية ومجموع القوانين والوصفات الاقتصادية تغادر شواطئ أوروبا وأمريكا الشمالية باتجاه الشرق أو جنوب الكرة الأرضية لتبحث لها عن فضاء مغاير تتحقق فيه. 

d8a3d8b1d986d988d984d8af-d8aad988d98ad986d8a8d98a- يَمنيّ في الجامعة الهولندية... بقلم: د. قاسم المحبشي

ولكن هذه المرة على الطريقة التي استقبلها بها أهل هذا الفضاء. وكان من الأولى، ونحن نتلقف هذه المفاهيم والمصطلحات الحداثية، ونسعى إلى إقحامها في سياقنا الثقافي، أن نكون على درجة عالية من الاحتراس والحذر، وأن نتخذ منها موقفاً عقلانياً نقدياً لغرض استيعابها وتفسيرها وتعريفها وتصنيفها وإنجاز خطاباً ابستومولوجيا فيها ولن يتم ذلك إلا عن طريق إحداث قطيعة معرفية مع الخطاب الاجتماعي والفكري الرائج والسوسيولوجيا ألتلقائية وطغيان الرأي العام، والآراء الجاهزة. 

لا أخفيكم بأنني كنت شديد الحذر تجاه تلك المفاهيم النظرية المجردة التي عرفتها عبر الترجمة وليس عبر الممارسة ولما كان حدسي يقول لي بأن استخدمنا لتلك المفاهيم في واقعنا لم يكن مطابقا البتة لحقيقة الواقع المتعين كانت عبارة ( فيما يشبه) بمثابة التعويذة التي استخدمها في مستهل كل رأي أو مقال اكتبه عن قضايا الشأن العام في مجتمعاتنا العربية الإسلامية المعاصرة إذ كتب فيما يشبه الحياة وفيما يشبه الدولة وفيما يشبه الفرح وفيما يشبه الحرية وفيما يشبه الجودة الأكاديمية..الخ.

كنت على وعي عميق بان المفاهيم  والكلمات لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية الثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة.. الخ. 

غير أن مشكلة الإنسان مع المفاهيم المجردة تكمن في اعتقاده بأنه يعرفها بمجرد نطقها وحينما يسأل نفسه عن معناها يكتشف جهله وتلك هي قضية سقراط الفلسفية (أعرف نفسك واعرف عن ماذا تتحدث) وهذا هو الدافع القوي الذي جعلني أبحث عن كل السبل الممكنة لزيارة شمال الأطلسي والتأكد بنفسي بالملموس عن حقيقة ما أعرفه عن الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة. في الواقع لم أكن أصدق كل ما قرأته عن الدول الغربية وتمدنها وجودة جامعاتها واحترام حقوق الإنسان وعدم التمييز بين الجنسين والنظام والقانون والمواطنة والفرص وأشياء كثيرة جدا. 

وربما يتذكر الأستاذ الدكتور عماد عبدالمسيح مدى حماستي لمعرفة الكثير عن هولندا نظامها التعليمي حينما التقيته لأول مرة في مؤتمر الإسكندرية عن ( الترابط بين الإنسان والدين والبيئة) الذي نظمه معهد الأبحاث الألماني OIB من 10 إلى 13 ديسمبر2022، بحضور نخبة متميزة من المفكرين والأكاديميين والباحثين من مختلف بلدان العالم ومؤتمر الدين والتدين والتحول الرقمي في جامعة النيل بالقاهرة 12 مارس 2013م كنت حريص على سماع المزيد من المعلومات عن هولندا التي تعد ثالث دولة في العالم من حيث جودة التعليم. إذ دائما من تحضر جامعاتها في مصنفات معيار الجودة العالمية في المراكز المتقدمة. 

d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a-d988d8b9d985d8a7d8af-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d985d8b3d98ad8ad يَمنيّ في الجامعة الهولندية... بقلم: د. قاسم المحبشي

الذهاب لأمستردام

نعم ذهبت أمستردام لغرض معلن هو حضور معرض الكتاب العربي ولكن الغرض الأهم هو الإلتقاء بصديقي العزيز دكتور عماد عبدالمسيح، وزيارة جامعة أمستردام الحرة التي تعد من بين أفضل عشر جامعات هولندية. ولما كنت مهتما بفهم معنى المؤسسة الأكاديمية ومعايير الجودة الشاملة. 

كانت زيارتي للجامعة بمثابة لحظة اكتشاف للمعنى الذي طالما تحيرت في سبيل اكتشافه، أقصد معنى الجودة الأكاديمية في نبعه وموطنه وكما يقول المثل اليمني: ما تُسهن الجودة إلا من منابعها!  وهذا هو معنى الجودة الذي حضر إلى ذهني وأنا استمع لحديث الدكتور عماد عن الجودة الأكاديمية لجامعة أمستردام الحرة. وهو معنى أخلاقي عربي عشائري يرمز إلى الجود والكرم والنجدة والشجاعة. وبحكم أني سمعت عن الجودة الأكاديمية قيمها ومعاييرها وكتبت عنها ولكنني لم أعشها أو أشاهدها في أي جامعة عربية زرتها فقد عنت لي زيارة جامعة أمستردام الحرة الشئ الكثير. 

كان برفقتي الشاب النبيل يحيى طالب اليزيدي، طالب العلوم التطبيقية في جامعة أمستردام العملية. وصلنا محطة القطار الجنوبية الساعة العاشرة والنصف صباحا بحسب الموعد الذي حدده لنا الدكتور عماد بالدقيقة لم ينتظرنا ولم ننتظره أبدا. انطلقنا سيرا على الأقدام باتجاه الجامعة لمدة ربع ساعة؛ حي راقي جدا. وحينما وصلنا مقابل الجامعة أشار الدكتور عماد بيده باتجاهها؛ فركت عيوني ابحث عن سور الجامعة وبوابتها! قلت له: اين سور الجامعة؟ بحسب ما لدي من خبرة عربية عن المؤسسات العامة. ضحك الدكتور عماد وقال: نحن الآن في رحاب الجامعة؛ هي جزء من المدينة ومتداخلة معها ولا تشعر بأي اختلاف بينها وبين معالم المدينة التجارية الاستثمارية الراقية. 

كان يوم عطلة أسبوعية؛ ربما كان ذلك من حسن حظنا أم من سوءه ! لا أعرف الفرق. دلفنا بوابة الجامعة كانت خالية إلا من بعض موظفين. لم نر حراسة مسلحة ولا أبواب مغلقة. تجولنا في طوابقها الأربعة السفلى؛ فيها قاعات قراءة وقاعات محاضرات وكافيهات وكافتيريا واسعة ومرتبة. صعدنا حتى الدور الحادي عشر حيث يقع مكتب الأستاذ الدكتور عماد. مكتب يطل على مطار أمستردام الدولي في قلب العاصمة. 

شاهدت قاعات المحاضرات لطلاب البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ومكاتب المعلمين وقاعات البحث مزودة بالأجهزة الإلكترونية المطلوبة لابتوبات وشاشات عرض وسبورات ذكية وكل غرف المدرسين مفتوحة الأبواب وفي كل قسم من أقسام الكلية مكتبه خاصة به. قعدنا على شرفة قسم الفلسفة واللاهوت وقال الدكتور عماد على الطريقة المصرية المحببة ماذا تشربوا سخن أم سأقع؟ 

تلك هي الحرية التي أبحث عنها منذ زمن طويل ولم أجدها في البلاد العربية أبدا.

d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a-d981d98a-d987d988d984d986d8afd8a7 يَمنيّ في الجامعة الهولندية... بقلم: د. قاسم المحبشي

قلت له: من الذي يجيب لنا إلى عنان السماء؟ قال؛ اختر ماذا تشرب ودع الأمر لي؟ قلت: هذا الشرفة يليق بها الكبتشينو! دقيقة والكابتشينو على الطاولة. استمعت اليه وهو يحدثني عن الجامعة وبنيتها التحتية وكلياتها وأساتذتها وعلمائها ومعايير جودتها، أخبرني بان الجامعة تمتلك أفضل مستشفى في المدينة لعلاج طلابها وأساتذتها مجانا. وحدثني كيف أن الطبيب اتصل ذات يوم قبل خمسة سنوات واخبره أنه يود رؤيته لغرض فحص تطابق الكلية التي وفرها له مع خلايا جسمه وكيف عمل له العملية في غضون ساعتين ومن حينها ولم يشعر بأي ألم في الكلى متعه الله بالصحة والعافية. 

حدثني عن كلية الفلك وعلوم الأرض وعن كلية الفلسفة واللاهوت وعن المختبرات العلمية المزودة بتقنيات متطورة. حدثني معنى الحرية الأكاديمية التي تتمتع بها الجامعة وأساتذتها وعن (خريفيون) إيقونة الجامعة وشعارها المستوحى من الأسطورة اليونانية بهيئة أسد برأس وأجنحة طائر يرمز إلى المعنى الذي تتبناه الجامعة منذ نشأتها؛ قوة العلم والحقيقة العلمية التي تشبه قوة الأسد وحرية العلم والمعرفة العلمية التي تشبه الطائر المحلق بالآفاق فالأكاديمية يجب أن تمارس في حرية تامة عن أي سلطة، بما في ذلك سلطة السياسة. 

تلك هي الحرية التي أبحث عنها منذ زمن طويل ولم أجدها في البلاد العربية أبدا. إذ رغم اختلاف الشروط التاريخية والسياقات الثقافية لنشؤ ونمو وتطور مؤسسات التعليم الأكاديمية في المجتمعات المعاصرة إلا أن السمة العالمية للمؤسسة والمهنة الأكاديمية المستمدة من الخاصية الجوهرية لوحدة العلم والمعرفة العلمية قد جعلتها تحاكي بعضها بعضاً في مفاهيم وقيم الجودة ومعاييرها في مختلف نظم قياس وتقييم ضمان الاعتماد الأكاديمي عبر العالم، بما يجعلنا نتحدث عن وجود فلسفة متكاملة للجودة والاعتماد الأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي؛ فلسفة تنطوي على نسق مترابط ومتفاعل من المفاهيم والعناصر والعلاقات والقيم والأدوار والممارسات. الخ.

الإعتماد الأكاديمي 

الاعتماد لغة من عمّد اعتمد يعتمد اعتماداً واعتمد الشيء أي وافق عليه، ومنحه الثقة ويعني المصـطلح باللغة الإنجليزية Accreditation إقرار، أو قبول بمعنـى الموافقـة لجهـة أو مؤسسة تعليمية بالقيام بنشاطات تعليمية، بعد أن توافرت لهـا المعـايير الواجـب توافرها للقيام بمثل هذه المهمات، أو بمعنى إعطاء تقويم للمؤسسة ويقصد به الإجازة لجهة أو مؤسسة تعليمية للقيام بنشاطات تعليميـة بعـد أن تكون قد حددت الشروط الواجب توافرها فـي تلـك المؤسسـة.

والاعتماد الأكاديمي هو العملية التي من خلالها تعترف الهيئات الوطنية أو الدولية للتقويم بكلية أو جامعة أو برنامج دراسي داخل مؤسسة أكاديمية من خلال مدى مطابقتها,للمؤهلات والمعايير المتعارف عليها عالمياً تؤهلها للانضمام إلى إتحاد جامعات النخبة الممثلة والتي تؤهل خريجيها للالتحاق  بالمؤسسات الأعلى والأكثر تخصصاً أو بالإعمال المهنية المتخصصة عالية الجودة.

ويرى مارتن تاور” أن عملية الاعتماد أو الاعتراف يجب أن تكون بتقويم المؤسسة ككل وليس وحدة من وحداتها أو عنصر من عناصرها أو بعض أجزاءها المنفصلة كبرنامج ما أو عنصراً ما أو كلية أو قسم ما وهناك ثمانية مؤشرات أساسية لعملية الاعتماد هي:

1-الطلاب 

2- الأهداف التعليمية 

3- التقييم ونوع البرنامج 

4- المكونات التخصصية

4- أعضاء هيئة التدريس

5- التسهيلات

6- التدعيم المؤسسي والموارد المالية

 7- معايير البرنامج”. 

وبهذا المعنى يمكن تعريف الاعتماد بأنه طريقة أو مجموعة إجراءات يتم من خلالها وبها إعطاء تقييم شامل للمؤسسة التعليمية يتبين من خلاله نقاط القوة والضعف التي توجد فيها، مما يترتب عليه إعطاء حكم حول أهلية وكفاءة هذه المؤسسة. هو عملية تقويم واعتراف وإجازة ببرنامج تعليمي تقوم به مؤسسة أو هيئة علمية متخصصة وتقر بأن البرنامج يحقق أو يصل إلى الحد الأدنى من معايير الكفاءة والجودة الموضوعة سلفاً من قبل الهيئة أو المنظمة. 

وقد تأسست أول جامعة عربية في مصر عام 1908م بجهود أهلية ثم تحولت إلى جامعة حكومية عام 1925م  جامعة القاهرة حالياً، وكانت جامعة دمشق التي تأسست عام 1923م  أول جامعة عربية حكومية حديثة وفي عام 1942م أنشأت جامعة الإسكندرية وفي العام ذاته تأسست جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية، ثم تأسست جامعة الخرطوم سنة 1955م وجامعة بغداد في سنة 1957م وتأسست أول جامعة في عدن 1970م وفي عام 1971م تأسست جامعة صنعاء، وتأسست جامعة السلطان قابوس في مسقط عام 1986وهناك ما يربوا على 300 جامعة عربية حكومية وخاصة، معظمها حديثة النشأة إذ نشأ أكثر من 80% منها بعد عام 1970م.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات