عبد الجبار الرفاعي.. الدين في رداء رحماني 1 .. بقلم: عبد العاطي طلبة
عبد العاطي طلبه
من الجامعة الأزهرية

(1)
ضياع الرُّوح
انتقلتُ شابًّا حَدَثًا إلى القاهرة مُفَعَّمًا بطاقةِ التعلُّم، ممتلئًا عن آخري بإرادة واحدة؛ وهي أن أتعلّم علومَ الإسلام، وبالفعل لم تكد تُلامِسُ قدماي حيَّ الدرَّاسَةِ بالقاهرة القديمة إلَّا والتمستُ سَكَنًا لي بجانب الجامع الأزهر، وصار برنامجي اليوميّ رتيبًا بعض الشيء إلى أن تخرجتُ في الجامعة؛ أصحو قبيل الفجر وأذهبُ للصلاة في جامع الإمام الحسين، وأقرأ وردي اليوميَّ من القرآن، ثم أذهب إلى الجامعة الأزهريّة، ومن ثمّ أعود لأدرك ما يمكن إدراكُه من دروس الجامع الأزهر في الفقه وأصوله، والكلام والمنطق، وعلوم اللغة من نحو وصرف وأدب وبلاغة.

وقع الكلامُ في عقلي موقعًا، وتلبّسْتُ بحالةٍ كبريائيّة منه، إذ عكفتُ على دراسة الكلام والمنطق وحضور دروسهما عكوفًا جعلني أهجر ما عداهما، وأعدّهما العلمَ لا غير. درستُ الكلامَ على المذهب الأشعريّ مع مَيل إلى الماتريديّة بعد حين، ونزوع شديد نحو الاعتزال نهاية الأمر. أورثتني دراسةُ العقيدة على طريقة المتكلّمين نوعًا من الجَفَاف الرُّوحي الذي جعلتُ أعانيه مدّة ليست بالقليلة. وأصابني ضمورٌ روحيّ وضياعٌ أفقدَنِي طلاوةَ الإيمان، فكنتُ أقف في صلاتي أستدعي الخشوع، فلا تأتيني إلا العَبْرَةُ بعد العَبْرَة على ما وصلتْ إليه نفسي.
وما زاد في الأمر من سوءٍ ما أثقلتْني به كتبُ الكلام والفِرَق من حَسَدٍ وبُغْضٍ اندفن في قيعاني تُجاه كلّ ما يخالفني؛ إلى أن صار اللهُ في عالَمي إلهًا نستملكه، ونتحاسد لأجله، ونتباغض في سبيله. حاولتُ الهروبَ بقلبي المُتْعَب، وروحي الضّائعة إلى علوم العربية، وحاولتُ فيها نفسي أجمع شتاتها، فوقفتُ عليها في اللغة، وجعلتْ روحي تتظاهر حتى بَدَتْ منطوقةً بلسان غير اللسان. اقتحمتُ هذه العلومَ فرارًا من أخرى نَكْفُرُ فيها أو نبتدع إن أخطأنا أو خالفنا إجماع مَنْ أجمع. وهكذا ولجتُ بابَ الأدب والشِّعْر هربًا من الفكرة والرأي، ومدافعةً لكلِّ جدل أو إرادةِ جدل.

تكشَّفَتْ نفسي في ابتعادي عمّا أرهقها لكنّها ظلّت في فقرِها الروحي غير مؤتلفة؛ عطشى تعاني ممّا أسماهُ الرفاعيُّ بالظّمأ الأنطولوجي للمقدس، «الحنين إلى الوجود… ظمأ الكينونة البشريّة»، وما أمعن في إضنائِها أكثر ما نعيشه في عالَم استهلاكيّ من الطراز الأوّل؛ تتكاثر فيه حاجاتُ الإنسانِ دون تَنَاهٍ، فنعيش بسببها آلامًا متواترة تنتهبُ وجودَنا، ولا يستطيع معها أحدُنا مهما بَلَغَتْ به النعمةُ من رخاء ماديّ تحصيلَ هذه الحاجات جميعها لعدم تناهيها، فنحن ودون إرادة منا نعيش عالمًا «ديدنه توهينُ المنظومة الروحيّة… والمغالاة في شأن المنظومة الماديّة»، عالمًا يعيش فيه الإنسانُ «وكأنّ التغيُّرَ والتقلُّبَ طبعُه وديدنُه، فكأنّه منذور للحركة التي لا تتوقّف، وللاضطراب الذي لا قرار معه».
وبذلك، انطفأ وِجْدَاني أو قارب، وأصاب روحي عطشٌ، واحتلّ الظمأُ نفسي تحت هذه الظلال، وعشتُ متألِّمًا، أطلب الرِّيَّ في غير الله؛ في القراءة والموسيقى والأسفار الأرضيّة، وأخيرًا طلبتُه في الحبّ الأرضيّ الذي علّمني معنى الحبّ في عذوبته، ومعنى أن أعرف نفسي وأحبها، بل وأوصَلَنِي إلى حبّ الله، وأخذتُ عنه أنَّ الحقيقة الإلهيّة الباطنة في الأشياء «لا يمكن أن يظفر بها أحدٌ بطريق مباشر ووقتيّ إلا هؤلاء الذين اختاروا أنْ يخضعوا لشروطٍ خاصَّة؛ أنْ يحملوا أنفسَهم على الحبّ، وأن يكونوا أنقياءَ القلب، مساكينَ بالروح»، فالعشق – درجة عالية من درجات الحب – هو ذلك الأسطرلاب الذي يكشف الأسرار كما يرى جلال الدين الرومي.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد