(4) التعايش بين اليسار الديني واليمين الديني في الحضارة الأمريكية المعاصرة.. بقلم: شريف عكاشة

بقلم: د. شريف عكاشة

d8b4d8b1d98ad981-d8b9d983d8a7d8b4d8a9 (4) التعايش بين اليسار الديني واليمين الديني في الحضارة الأمريكية المعاصرة.. بقلم: شريف عكاشة


فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء..

قلنا في المقال السابق إن سوسير يرى أن اللغة هي ملكة نفسية ومواضعة اجتماعية في آن، ولذا فهو يفرق بين اللغة langue و الكلام parole وقلنا إن هذه هي نفسها التفرقة بين الكفاية والأداء عند تشومسكي.


وقلنا أيضا إننا واجدون هذه التفرقة ماثلة بوضوح في ذلك الحوار القرآني بين الله والملائكة حينما تساءلوا عن القادم الجديد خلفا لذلك الإنسان القديم الذي بدا من الحوار أن للملائكة تجربة مريرة معه، إذ يبدو أنه لم يكن يعرف سوى لغة القتل وسفك الدماء ، فأراد الله أن يثبت لهم أن الخليفة، أي النموذج المطور للإنسان، مزود بلغة أخرى تجعله قادرا على التمييز بين الأشياء ومن ثم بين الحق والباطل والخير والشر ، فجاءهم بهذا النموذج الجديد بعد أن غرس فيه تلك الملكة بأن علمه “الأسماء كلها”. 

ومما يستقيم مع العقل والمنطق أنه لم يعلمه كل الأسماء بكل اللغات، بل علمه ملكة ذهنية كلية يستطيع من خلالها تعلم الأسماء وتخزينها في الذاكرة. وبما أن آدم بطبيعة الحال لم يعاين كل الموجودات التي خلقت والتي لم تخلق بعد ومن ثم لا يمكن أن يحيط بكل أسمائها (الدالة) أو المفاهيم المرتبطة بها (المدلولات ) يكون المقصود هو ملكة تكوين الأسماء وفهمها، أي اللغة التي بها يميز الإنسان بين الخير والشر ثم له بعد ذلك أن يختار أي طريق يسلك، بعكس الملائكة المسيرة دائما. 


وهنا أود أن أتوقف هنيهة لالتقاط الأنفاس وأخذ استراحة سيمائية للتفكه والتفكر في الآيات القرآنية قبل استئناف الطريق الوعر الذي فرضت على نفسي السير فيه بالتصدي لدرس علاقة السيمائيات بالمقولات الحداثية وما بعدها وربط ذلك بالتراث النصي للعرب، الذي يعكس تلك المقولات إبداعا، وواقعهم المعاصر الذي تنعكس فيه تقليدا واتباعا. 

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۝ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:31-33]. 

فنلاحظ أنه قال: “أنبئوني بأسماء هؤلاء”، فكيف يستقيم أن يطلب من آدم أن ينبأهم بأسماء الأسماء؟. 

المسألة الأولى: (1) أنه بالنظر إلى أن الاسم يستخدم وصفيًا للدلالة على جميع أجزاء الكلم، كما أشير سابقا، فيجوز أن المقصود أنه علمه جميع أجزاء الكلم وليس الاسم وحده وهذا يفسر تكراره الأسماء: فقال أنبئوني بأسمائهم. وهل يعقل أن يطلب منهم أن ينبئوه بأسماء الأسماء إلا إذا كان المقصود بـ “أسماء” الثانية المعنى الميتا لغوي (الوصفي) وبأسماء الأولى الأشياء التي تسميها هذه الأسماء وهي هنا في حالتنا أجزاء الكلم التي توصف، ميتالغويا، على أنها أسماء. وهنا نلاحظ التداخل السيمائي في استخدام اللغة كموضوع وكوسيط: كموضوع أي “الأسماء كلها” بمعنى أجزاء الكلم، بما فيها الاسم، وكوسيط أي أسماؤها الميتالغوية التي علمها آدم ، مثل كلمة ” فعل” واسم” و”حرف” وكلها، كما هو واضح، أسماء . 

d981d8b1d98ad8acd8a9 (4) التعايش بين اليسار الديني واليمين الديني في الحضارة الأمريكية المعاصرة.. بقلم: شريف عكاشة
جوتلوب فريجة

ولقد كان أول من نبه، في السياق الغربي، إلى التفرقة بين استخدام اللغة كوسيط لنقل الكلام واستخدامها كموضوع للكلام في آن واحد هو رائد الفلسفة التحليلية فريجة فحل بها-أي هذه التفرقة- مشكلة قديمة في الفلسفة تسمى Liar’s paradox أو معضلة الكذب أو مفارقة كريت والتي لا أجد أوضح من شرح موسوعة ويكيبيديا لها، لذا أنقل عنها هذا الشرح مباشرة بتصرف يسير للتوضيح: 
مفارقة كريت [1] (أو مفارقة الكاذب بالإنجليزية: Liar paradox ، ويعبر عنه في التراث الاسلامي بـ الجذر الأصم و هو سؤال يندرج ضمن المفارقات الدائرية المفرغة. وتنسب المفارقة لفلاسفة يونانيين كانوا يعيشون على جزيرة كريت، وهي كالتالي: لنفترض أن هناك فيلسوفا من جزيرة كريت ادعى أن كل ما يقوله فلاسفة جزيرة كريت هو كذب؛ فاحتمال مطابقة كلامه للحقيقة هو على النحو التالي:


• إذا كان كلامه «صحيحا» فمعناه أن كلام الرجل سيكون كذباً لأنه قال إن ما يقوله كل مفكري جزيرة كريت عبارة عن كذب، باعتباره واحدا منهم.


• إذا كان ما قاله الفيلسوف الكريتي «كذبا» فمعناه أنه صادق في كلامه؛ أي أن كل ما يقوله فلاسفة كريت، وهو منهم، كذب.
وهذا سيعيدنا للاحتمال الأول، وبذلك سندخل في حلقة ليس لها مخرج.
ويرى فريجة أن سبب هذه المعضلة هو عدم التفرقة بين اللغة كموضوع واللغة كوسيط كما أشرنا. فإذا فهمنا هذه التفرقة انحلت المعضلة. 

d8a7d984d981d8b1d98ad8af-d8aad8a7d984d8b3d983d98a (4) التعايش بين اليسار الديني واليمين الديني في الحضارة الأمريكية المعاصرة.. بقلم: شريف عكاشة
ألفريد تارسكي



وقد أوحى ذلك للفيلسوف البولندي ألفريد تارسكي بتفرقة أكثر عمومية بين الاستشهاد والاستخدام. والاستخدام يقصد به استعمال اللغة للإحالة إلى ما تشير إليه في الواقع كأن تقول مثلا غلب الزمالك الأهلي. فالأهلي يشير إلى ناد رياضي معروف. والاستشهاد يقصد به استخدام اللغة لا بالإحالة إلى ما تشير إليه في عالم الواقع وإنما بالإحالة إلى عالم اللغة نفسه كأن نقول “الأهلي” يجب أن يحذف من القاموس.

فهنا لا تكون الإشارة إلى النادي الأهلي وإنما إلى اسم النادي الذي هو تعبير لغوي يحيل إلى كلمة في المعجم لا في الواقع. وقد عبر النحاة العرب عن هذه التفرقة من خلال مفهوم الحكاية. فإذا قلنا مثلا غلب الأهلي المقاولون العرب، فقد يحتج محتج قائلا: لماذا المقاولون مرفوعة مع أنها مفعول به؟ والإجابة عندهم أنها مرفوعة على الحكاية في محل نصب لأنها اسم علم على ناد لأن الأهلي لم يغلب المقاولين العرب، أي متعهدي مشروعات البناء العرب وإنما غلب ناديا رياضيا تصادف أن اسمه “المقاولون العرب”. ونلاحظ في الوقت نفسه أن استخدام العبارة للإحالة لنادي (المقاولون العرب) لم يمنع استخدامها للإحالة للاسم نفسه وذلك بفضل مخالفته للقاعدة النحوية فجاءت هذه المخالفة تنبيها وعلامة على هذا الاستخدام الاسمي العلمي (بفتح العين واللام) الذي برره النحاة بمفهوم الحكاية فجمعوا بذلك بين الاستخدام والاستشهاد في مفهوم واحد، ولولا النظام الإعرابي للعربية ما تسنى لهم ذلك. 


المسألة الثانية: وتتمثل في احتمال أن يكون المقصود بالأسماء الأولى المدلولات أي المفاهيم. وبالطبع ستكون المفاهيم الأساسية في الطبيعة من إنسان وحيوان ونبات أي الفئات العليا والأسماء الثانية الكلمات المعبرة عنها تعبيرا اسميا. فالمفاهيم إذا هي الأسماء العقلية بينما الأسماء هي الكلمات اللغوية. وهذا الاحتمال الثاني لا يمنع الأول، بل يشمله لأن أجزاء الكلم هي بالأصل مفاهيم. 



المسألة الثالثة: نلاحظ استخدام الضمير المتصل “هم” في أسمائهم وهو يستخدم لجمع العاقل المذكر بينما يستخدم الضمير المتصل “ها” لجمع غير العاقل مذكرا كان أم مؤنثا ولذا يحتمل أن يكون المقصود أن الله علمه أسماء أعلام لعقلاء وطلب منه أن يسترجعها كنوع من التدريب على استخدام هذه الملكة الجديدة في صورة عرض تقديمي قدمه آدم أمام الملائكة. 



وبعد، في تقديري أن إشكالية تكريت، مثلها مثل كثير من إشكالات المنطق الأرسطي، معضلة مفتعلة غير حقيقية لسبب بسيط هو أن الاستخدام الطبيعي للغة لا يسير على هذا النحو العقيم لأن سياق الموقف كفيل بتجلية الحقيقة. والسياق هو ذبيح المنطق الأرسطي، ولذا كانت النظم المنطقية المنبثقة عنه مغرقة في العالم الذهني الصوري المنفصل عن عالمي اللغة والحس، مثل منطق الإسناد القائم على المكممات من قبيل كل وبعض وجميع . 



ونلاحظ أن القرآن لم يكتف باستخدام منطق الإسناد هذا في قوله وعلم أدم الأسماء كلها ثم عرضهم (أي عرض بعضهم) فما انطبق على الكل انطبق على البعض، وإنما ضم إليه منطق السياقات وبالأخص ما يمكن أن نسميه المنطق الإشاري أي الذي يعتمد على استخدام صفات الإشارة والضمائر وهو بذلك متجاوز للمنطق الأرسطي التقليدي لأنه يحيل إلى سياق خارج الكلام، واضح من سياق الآية أنه متعارف عليه مسبقا بين المخاطب (الله) والمخاطب (الملائكة) وهو الذي جعلنا نستنتج إشارة “الأسماء الثانية” إلى عينة من الأسماء المعروفة مسبقا للمخاطبين سواء كانت تحيل إلى كيانات في عالم اللغة أو الواقع أو مفاهيم ذهنية. فمن المستحيل عقلا أن يكون الله قد علم آدم “كل” الأسماء التي وجدت والتي لم توجد بعد ولذا فقد قال علم آدم الأسماء كلها ولم يقل “كل الأسماء”، كما هو في اللغات الأوروبية، حيث كل تعبير منطقي يفيد العمومية واستغراق ما يأتي بعده من موجودات وجدت أم لم توجد بعد.

 أما استخدام كل مسندة إلى ضمير يحيل إلى سياق محدد فقد جرد “كل” من كليتها الصورية وجعلها تعني البعض أي كل الأسماء المشار إليها سياقياً استنادا إلى معرفة مسبقة بين المتخاطبين، وليس جميع الأسماء التي وجدت والتي لم توجد

ولاتعني إمكانية هذه الاحتمالات، أو المسائل الثلاث، بدرجة ترجيح تكاد أن تكون متساوية سوى أن الفكرة أهم من القصة والمثال وربما قصد المؤلف إلى ذلك قصدا كي تتعدد القراءات بتعدد الأفهام والأزمنة والسياقات ليكون الهدف النهائي هو تبليغ فكرة مؤداها هي انفراد الإنسان عن باقي الكائنات بملكة لغوية شديدة التعقيد والتقدم هي مناط التمييز والتخيير والتفكير خلافا للإبهام والتسيير والجبر الذي هو حظ باقي المخلوقات. 

وهذا هو أيضا المنطق الذي يحكم الفكر الديني البروتستانتي المعاصر الذي لا يرى تعارضا بين حقائق العلم المتعددة وحقائق الوحي الثابتة لأن المؤلف واحد : مؤلف الوحي ومؤلف الطبيعة التي هي موضوع العلم. وهذا النهج ليس نهجا لاهوتيا بحتا بل يتبناه عدد من علماء النفس التجريبي المسيحيين المعاصرين. وسترى لاحقا كيف يتعايش هذا النهج البنيوي مع النهج الما بعد بنيوي ليمثلا معا نفطة الالتقاء، أو بتعبير أدق، التعايش بين اليسار الديني المتفرع عن اليسار الفرنسي واليمين الديني الإنجيلي في الحضارة الأمريكية المعاصرة. 

      
 

للاطلاع على المقالات السابقة:

نقد الحداثة وما بعدها من منظور سيميائي1

علم السيميائيات وإشكالية الفهم والتعريب 2

مفهوم العلامة وعلَّم آدم الأسماء 3

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات