استقراء القرآن.. ما بين محلية النص وعالمية الرسالة .. بقلم: دعاء عباس
بقلم: دعاء عباس
مقدمة
عبر مطالعة الفصول الأربعة الأولى من كتاب “مقدمة عن توتر القرآن” لمؤلفه جمال عمر، وحضور المناقشات التي دارت بين المشاركين في الدورة حول موضوع الكتاب والمشاركة من حين لآخر فيها، شعرت بعنوان هذه الورقة يخطر على بالي مُحمّلا بمجموعات من الأفكار المتداخلة سواء فيما يخص عنوان هذه الورقة أو في الفكرة الأساسية التي بنى المؤلف كتابه عليها. وهذه الورقة ليست سوى تعبير أولي عما قرأته وتفاعلت معه، وهو قابل للإضافة أو الحذف بحسب ما يستجد على فهمي من معاني، خاصة وأنني اعتمدت فيما كتبته على المحتوى الذي قدمه المؤلف في كتابه دون استقصاء ما أورده.

والسؤال الرئيسي الذي وجدته يطرح نفسه:
هل استقراء القرآن مشروط بمحلية (خصوصية) النص أم بعالمية (عمومية) رسالة الإسلام؟ لدى طرحي هذا السؤال، تولد سؤال جديد ذو صلة يقول: هل القرآن تابع للدين الإسلامي ورسالته العالمية أم أن له شخصية مستقلة ذات كيان قائم بذاته؟ أيهما تشكل عن الآخر؟
حسنا، ما فائدة هذا السؤال؟
إذا كان القرآن ذو هوية مستقلة عن الإسلام كدين، أفلا ينسحب ذلك على أن استنباط أحكام الشريعة وأصول الفقه من النص القرآني يجب ألا يُحمَّل بأكثر من حدوده المحلية؟ أم أن القرآن هو كلام الله التابع لدينه، وبالتالي فإن استقراء النص القرآني يجب أن يتوازى مع عالمية الرسالة الإسلامية؟ بصياغة أخرى، هلى نحن خلطنا ما بين محلية النص القرآني وعالمية الرسالة؟
أليس بنزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ظهرت الرسالة وتَشَكَّل الإسلام كدين؟ إذن، لا مجال للقول بأن النص القرآني بمعزل عن عالمية الرسالة. فإذا انطلقت من هذه النقطة، أعتقد أنه يمكنني القول إن القرآن أو النص القرآني لم يَستَغلِق على مستقرئيه لِعِلَّةٍ فيه، وإنما نشأت العلة عن الهالة التي أحاط بها من تصدوا لتفسير النص القرآني بوازع احتكاري، كما لو كان موجها للعرب فقط.

وفي كتابنا “مقدمة عن توتر القرآن” استعرض المؤلف جمال عمر جهود القدماء والمحدثين في تفسير القرآن منطلقا من فرضية بنى عليها كتابه، وهي أن خطوة جمع القرآن الكريم في مصحف قد أدت إلى تقييد التعامل مع القرآن من “وحي شفاهي” كانت له مستتبعاته التي كان من المفترض أن تأخذ المسلمين إلى منطقة أخرى غير التي يحيوها الآن، إلى “نص مكتوب”; مُلاحق بسلسلة لا منتهية من التبعات التي اختلط فيها كل شيء; المقصود الإلهي بالتصورات البشرية، والمنطقي بالخيالي، والظاهر بالباطن وخلاف ذلك أيضا.
ومضي عمر في فرضيته وصولا إلى أن تلك “التبعات” قد دخلت تلقائيا في حيز “الشبهات” نتيجة لعملية النقل هذه من الشفاهي إلى المكتوب بأيدِ بشرية، مما فرض على علماء ومفكري المسلمين التعامل مع القرآن كنص والوقوع في دوامات محاولة تبرير ولملمة كل النواقص التي حلت “بمدلولات الخطاب الشفاهي” من بعد تحوله “لخطاب مكتوب” منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.
وإن كنت أتفق مع المؤلف فيما ذهب إليه من تساؤلات ومقارنات حول الوضع ما قبل “عملية جمع القرآن” والوضع بعدها، إلا أنني أختلف معه في الكيفية التي عالج بها فكرته، وأجد أن طرحه كان أسير فرضيته بشكل لم يمكن تجنبه أثناء قراءة الفصول الأربعة التي قرأتها بعناية.
وأعرض لنقطتين باختصار مما آخذ على طرح المؤلف (بما يتناسب مع الفصول التي قرأتها):
النقطة الأولى أنه حين بنى فكرة الكتاب وهي “رفع التوتر عن القرآن”، فقد جاءت طريقة عرض الفرضية وهي “تَشَكُّل أزمة في التعامل مع القرآن نتيجة جمعه في مصحف” ذات طبيعة سردية نمطية تكرر ذكرها إنشائيا في أكثر من موضع. كما أنها خلت من ذكر اقتباس واحد، يُستدَلُّ منه على معاناة أي ممن شمل محاولاتهم التفسيرية بالذكر في الفصول الأولى، مما اعتبره نتيجة حتمية يدفع علماء المسلمين ثمنها منذ القدم وحتى الآن. بل وأنه حمّل هذه النتيجة عجز جهود التفسير عن الخروج من ضيق نظرة “النص” إلى رحابة “الخطاب الشفاهي”. ولم أجد بين الفقرات والجمل التي قرأتها أي اقتباس لأي عالم أو باحث من المسلمين يتناول ما يدلل على فرضية المؤلف. إن ما أختلف حوله هنا ليس طبيعة الفرضية بحد ذاتها، بقدر ما أنه تم طرحها بشكل أظهرها أقرب إلى المسلمة منها إلى الفرضية.
النقطة الثانية أنني وجدت أن توصية المؤلف بترجمة الموسوعة الإسلامية التي أخرجتها دار نشر “بريل” بجامعة “لايدن” بهولندا – والتي ذكرها ضمن الجهود الغربية التي تناولت الدراسات القرآنية بالبحث – وقوله بحاجة الثقافة العربية لترجمة هذه الموسوعة، أتت مناقضة لدعوته الأكيدة للانطلاق في التعامل مع القرآن والسنة من وعينا الآني وأسئلة واقعنا الحاضر، وضرورة وقف الاستلهام بعين ولسان التراث. وهنا، فلست أرفض إنتاج الآخر ولا بالطبع الاطلاع عليه والاستفادة منه ولكن وجدت أن توصية المؤلف لم تكن في محلها في الوقت الذي ذكر فيه هو نفسه في الكتاب أن الدراسات القرآنية العربية تفتقد الموضوعية وينبع كثير منها عن مذهبية، وأنها تحتاج لاعتماد أدوات البحث العلمي بعيدا عن العنصرية الفكرية. لذلك، رأيت أنه كان من الأجدر الدعوة إلى وضع انتاج دراسات وبحوث عربية جادة تتناول القرآن الكريم بعين احتياجات وأسئلة وتحديات عصرنا لا بعيون ومنهجية وأهداف الباحثين الغربيين موضع الأولوية القصوى، هذا إذا كنا حقا نريد التحرك من المنطقة التي التصقنا بها منذ القدم ونسلط عليها الضوء الآن لبيان سبل الفكاك منها.
وأظن أن تقديم الأولوية لإنجاز دراسات عربية رصينة لا تقل أهمية وثقلا عن الموسوعة الإسلامية لجامعة لايدن، من شأنه فتح السبل أمام الباحثين المسلمين لإنتاج بحوث مشتركة مع الباحثين الغربيين، يكون للجانب العربي فيها المكانة التي تمكنه من الاشتباك بموضوعية ومنهجية أكاديمية مع الطرح الغربي والاستفادة من هذا التواصل العلمي البناء في بناء خبرات وتراكمات بحثية حقيقية تساهم في نقل جهود التفسير من مربع النمطية لمربع العصر بمتطلباته.
وفيما يخص أدوات رفع التوتر عن القرآن التي تناولها المؤلف وعرض نماذج لها، فأظن أنها تدعم فكرة مسؤولية الفرد المسلم عن تدبر كتاب القرآن الكريم من خلال موقع الفرد ما بين ثنائية تلك الأدوات. فما بين المتشابه والمحكم، والخاص والعام، الناسخ والمنسوخ، يجد المسلم نفسه في وضع يحتاج معه لإعمال عقله وتدارس تلك الأدوات وارتباطها بأسباب النزول، حتى يتمكن من الاطمئنان إلى معاني بعينها وتغليب ظن على آخر.
وبالتالي، فإنه يمكن القول إن أدوات رفع التوتر عن القرآن على الرغم من التحديات التي تمثلها بذاتها، إلا أني أظن أنها تنتصر لفكرة أن القرآن لا يحيا إلا بالإنسان وبتفاعله مع هذا الكتاب. فعندما يمارس الفرد المسلم فعل التدبر في القرآن وبشكل مستمر كأسلوب حياة، فإنه يُفعّل قول الله عز وجل: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” الحجر (9). وأظن أن سر الحفظ هنا مرهون بمداومة إقبال الإنسان على التواصل مع خالقه عبر كتابه، بما يجعل لهذا الإنسان حظوة من بركة الخالق ويستحق أن تتنزل أنواره تعالى على قلبه، فينفتح هذا القلب ويميل بفطرته إلى فهم الآيات بفهم معين قد يتجاوز كل المتعارف عليه في الفهم والتفسير.
ولعل ذلك من أهم فوائد تدبر القرآن الكريم وهي إحياء ميزان قلب الإنسان المسلم وجعله قادرا على الثقة في هاتفه الداخلي (حدسه أو فطرته) وتدريبه باستمرار على التفكر واستخدام عقله بما يتواءم مع قلبه ووجدانه في وحدة واحدة لا تقسمه إلى أجزاء، بل تتعامل معه على أنه كيان واحد. ولا عجب أن ذلك واحدا من العناصر التي أُخِذَ غيابها في مدارس تفسير القرآن على أنه تعامل مع القرآن بشكل تجزيئي تفتيتي لا بنظرة كلية شمولية موحدة. وهو نفس الرأي الذي أورده المؤلف في نقده لمنهج بعض المدارس في التفسير.
إذن، فما أريد قوله هنا أن أغلب ظني أن استقراء القرآن يتأتى عبر الوحدة بينه وبين المخاطب به وهو الإنسان الفرد المسلم أينما كان وأيا كانت لغته الأم. ومن هنا، فلست أتفق مع اعتبار المؤلف أن “اللغة أو البلاغة” هي المدخل الأساسي لفهم القرآن. بل أرى أن كل المداخل تلعب دورها شرط أن يكون الإنسان هو مركز هذا الدور، بمعنى عدم تحييد الإنسان وتفاعله مع النص وعدم فرض الوصاية عليه من خلال قواعد وأطر محددة يفهم بها النص وبتمييز لأفراد دون آخرين، كأن يكون فهم النص حكرا على البعض دون الآخر. وإنما، أن يُعتبر أن استقراء القرآن لا يتحقق إلا في وجود الإنسان المتدبر لجوهر هذا الكتاب بإعمال العقل وباستفتاء القلب وباطمئنان الوجدان. وعليه، فإن تضافر هذه العناصر الثلاثة، يمكن أن يكون نقطة بداية لأسلوب أو منهج يصلح للبناء عليه للحصول على استقراء جاد وفعال، يضمن ليس فقط التزام الفرد بتفعيل القرآن في سلوكه وحياته الشخصية، وإنما يعمل بقوة على إذكاء حركة الاستقراء للقرآن، بما يتطلبه ذلك من تطوير أساليب فهم النص واستنباط المعاني والأحكام بما يناسب احتياجات الفرد المسلم المعاصر.
الخلاصة
أعتقد أن واحدة من الإشكالات الرئيسية التي يكشف عنها موضوع التوتر في القرآن، هي أنه يتم حصر فهم القرآن باللغة المكتوبة. ويتناسى هذا الاتجاه دور الوجدان والقلب في هذه العملية باعتبار أن القرآن هو خطاب شفاهي في المقام الأول يخاطب الإنسان عبر أذن الروح. وفي هذا الصدد، وجدت أن المنحى الذي اتخذته المستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفيرت وعرض له المؤلف ضمن جهود المستشرقين الغربيين، منحى مثيرا لافتا للانتباه ويستحق الاهتمام والدراسة والمتابعة. ذلك أنها قدمت دراسة تطبيقية على السور المكية، قامت فيها بدراسة السجع والنغم الموسيقي الخاتم للآيات والسور التي يصل عددها إلى 80 نوعا، بحسب ما ذكر المؤلف في ذلك الجزء من كتابه.
وأجد أن من أكثر الجمل الملهمة التي وردت في هذا الجزء من الكتاب، قول المؤلف “إن القرآن يتم النظر إلى آياته في العادة ككلام مكتوب، وأن إهمال الأداء المنطوق لهذه الآيات، يغفل فارقا هاما بين القرآن وبين الكتاب”. وعليه، فإنني أعتقد بأهمية متابعة الدراسة والبحث في هذا الموضوع من منطلق تأمل أن عدل الله حين أنزل القرآن اقتضى توحيد لغة الخطاب، وهذه اللغة بظني، لم يكن المقصود بها اللغة العربية ولا البلاغة ولكن كان المقصود هو ما يحدث للروح عند استقبال سماع القرآن، والذي بدوره يبث السلام والسكينة في نفس الإنسان ويجعله مهيئا لتلقي المعاني بقلب مطمئن. لذلك اعتمد نزول الوحي في بدايته على الخطاب الشفاهي لتحفيز وتنمية خصوصية التواصل الخاص أو “الصلة الخاصة” ما بين الخالق والمخلوق والتي أودعها الله في الإنسان في قوله تعالى “ونفخت فيه من روحي” الحجر (29). فحين تستيقظ هذه الروح، يعرف الإنسان جيدا وجهته ولا يضل الطريق. ولعل ذلك تأكيد إضافي لكيف كان الاستماع لآيات القرآن يحدث أثره بالنفس أيا كانت جنسية المستمع أو لغته. ومن هنا كان أول ما نزل من الوحي “اقرأ”، وكأنها دعوة إقرار بكل ما هو آت. ليس إقرارا عن علم ومعرفة، بل إقرار عن يقين قلبي وإيمان غيبي. وأظن أن هذا هو ما يلزم الفرد المسلم التسلح به عند مواجهة النص القرآني، الاجتهاد مع اليقين بأن الخالق الذي خاطبه بهذا القرآن كفيل بالتواصل معه وليس التخصص والتعمق في التفاصيل ودراسة الشعر الجاهلي واللغة والأساليب البلاغية وكأن ذلك هو الحل الأوحد للفهم.
أجد أن “مقدمة عن توتر القرآن” يدفع باتجاه الكشف عن جوهر الرسالة المحمدية وهي أن يتعلم الإنسان المسلم كيف يتواصل مع ربه من خلال القرآن ويثق بأنه يوحى إليه من الله من خلال هذا الكتاب حتى يعيش دونما استعباد من أي طرف ويعرف كيف يعيش حياة حقيقية مثمرة.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد