الكوميديا ورمضان وأشياء أُخرى… د. وليد الخشاب يحاوره عمرو عبد الرحمن
صدر كتابه الأحدث “قهقهة فوق النيل” قبل حلول شهر رمضان بأسابيع قليلة. هو د. وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك في كندا ومؤلف كتاب “مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولاوعي السينما”. وبهذه المناسبة واستغلالًا للتزامن الذي يمكن أن يكون له مدلولاته، عن الكوميديا ورمضان وأشياء أخرى أجرينا معه هذا الحوار.


أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك/ كندا
لننطلق من مصادفة أن كتابك الأخير “قهقهة فوق النيل” عن السينما الكوميدية الكلاسيكية قد صدر قبل حلول شهر رمضان بأسابيع قليلة. ما تعليقك على حضور الكوميديا في ثقافتنا المعاصرة كجزء من موسم رمضان؟
كتابي الأخير الصادر عن دار المرايا يحلل واحدًا وعشرين فيلمًا من كلاسيكيات الكوميديا السينمائية المصرية في عصرها الذهبي بين الأربعينات والستينات. وبالمناسبة، كل الأفلام التي أتعرّض لها بالتحليل في كتابي من “غزل البنات” و”عنبر” لأنور وجدي، إلى “إسماعيل ياسين في البحرية” أو “عروس النيل” لفطين عبد الوهاب، إلى أفلام أقل شهرة مثل “أفراح” بطولة حسن يوسف ونجلاء فتحي أو “عالم مضحك جدا” بطولة فؤاد المهندس وشويكار، كلها أفلام “رمضانية” حسب الاصطلاح المنتشر في ثقافتنا الدارجة المعاصرة.
أقصد بهذا أن التلفزيون وقنوات الكابل والأقمار الصناعية المختلفة تحتفي بتلك الأفلام “الرمضانية”، وتخصص لها مساحة كبيرة في برامجها. وسبب ذلك هو أن تلك الأفلام تعتبر “تسلية رمضانية”، لأنها أفلام خفيفة ونظيفة/ تسلي المشاهد ولا تتضمن مشاهد خادشة للحياء أو قصصًا صادمة، فهي إذًا مناسبة جدًا للشهر الكريم.
إذا نظرنا إلى الكوميديا المُقدمة في السنوات الأخيرة، هل يمكننا تكوين فكرة عن حال المجتمع وهمومه وملامح حياته، مثلما عرضت في كتابك “مهندس البهجة” من خلال تحليل مشروع فؤاد المهندس؟
الكوميديا اليوم تختلف في مذاقها عن كوميديا الستينات، وتحديدًا كوميديا فؤاد المهندس. لكن ألمس تشابهات بين الوظيفة الاجتماعية للكوميديا في الستينات واليوم في عشرينات القرن الحادي والعشرين. ما زالت الكوميديا تقدم رغبات وتطلعات الشرائح الاجتماعية الراغبة في الالتحاق بالطبقة الوسطى أو مواصلة الصعود الاجتماعي داخل الطبقة الوسطى، في محاولة للوصول إلى أعلى الشرائح.
رأيي أن الكوميديا منذ تشكل ملامحها في الأربعينات إلى اليوم هي بالأساس مرآة لرغبات وتطلعات الطبقة الوسطى، أو -تحديدًا- تطلعات من يريدون الالتحاق أو الاستقرار في الطبقة الوسطى، أو الترقي خلال شرائحها المختلفة.
الكوميديا تقدم تصوراتها المُثلى عن شكل الحياة، وأسلوب المعيشة المُرتجى في إطار المُتع التي تتلذذ بها الطبقة الوسطى، أو تتطلع إليها، مع اختلاف التركيز على الشرائح المتوسطة أو الأعلى في تلك الطبقة، حسب العصور. في الستينات ركزت الكوميديا على أواسط الطبقة الوسطى وما فوق الشرائح المتوسطة. اليوم نجد تركيزًا على شرائح أعلى وأعلى داخل الطبقة الوسطى.
في كتابي “قهقهة فوق النيل” أواصل تحليل الدور الاجتماعي والسياسي للكوميديا من خلال مفهوم “أيديولوجية الفودفيل” الذي طرحته في كتاب “مهندس البهجة“، وأظنه مفهومًا ما زال صالحًا لتأمل كوميديا اليوم وتحليلها. في الستينات كانت أيديولوجية الفودفيل تعبيرًا عن خطاب ينطلق من دولة التحرر الوطني، يَعِد الناس بملذات تُشبه الملذات التي يتمتع بها بطل الكوميديا في النوع الفني المعروف باسم الفودفيل. ساد هذا النوع الفني عالم الكوميديا الغربية منذ القرن التاسع عشر وحتى ستينات القرن العشرين، واعتمد على قصص مليئة بالمغامرات الغرامية الخيانات الزوجية والصعود الاجتماعي للأبطال، لاسيما عن طريق الزواج أو الارتباط العاطفي بشخص غني، ويعرض حياة متنعمة فاخرة يعيشها الأبطال أو يحاولون الظفر بها. ونجد صدى لتلك المواقف والأفكار في كوميديا الستينات المصرية، لا سيما عند فؤاد المهندس. لهذا أطلقت على العقيدة الفكرية التي أفسرها في خطاب كوميديا المهندس مصطلح “أيديولوجية الفودفيل”.
في كوميديا اليوم في القرن الحادي والعشرين، تغير شكل هذا الخطاب قليلاً، فنجد فيها خطابًا عن الرغبة في تلك المتع والملذات، وعن إمكانية تحقيقها لكن ذلك لم يَعُد مطروحًا -كما في الستينات- عن طريق الولاء للدولة ومؤسساتها، بل عن طريق الانخراط في البيزنس أو في قطاع الخدمات مثل السياحة. وبهذا المعنى يظل خطاب تلك الأيديولوجية الذي تحمله الكوميديا خطابًا يتمثل الدعاية التي تنتجها الدولة الوطنية في الأطوار المختلفة منذ مرحلة الانفتاح في عصر السادات.

كأحد مواليد التسعينات كان لفوازير “عمو فؤاد” مكانة خاصة عندي، فإذا أمكن حدثنا عما سبقها من أعمال لمهندس البهجة في رمضان. ذكرت في كتاب “مهندس البهجة” أن كوميديا فؤاد المهندس شكلت نقلة حداثية، وكان من أدواتها الاقتباس. هل يمكننا المقارنة بين اقتباس المهندس والاقتباس في الكوميديا الرمضانية المصرية خلال السنوات الأخيرة؟
منذ الستينات، تأسست فكرة المسلسل الكوميدي الرمضاني في الإذاعة، وارتبط ذلك المسلسل الكوميدي الرمضاني بالثنائي فؤاد المهندس وشويكار. باعتباري من مواليد الستينات، أؤكد لك أن ركنًا ركينًا من أركان الإفطار الرمضاني بين أبناء الطبقة الوسطى، كان تناول الطعام أثناء الإنصات إلى مسلسل فؤاد المهندس وشويكار، والذي كان عادةً مسلسلًا كوميديًا من نوع الكوميديا البوليسية أو التشويقية، مثل معظم أفلام الثنائي الشهيرة في الستينات.
كان المسلسل الكوميدي يقتبس نوعاً فنياً جديدًا نسبيًا على الساحة الثقافية والدرامية المصرية، لأن الكوميديا البوليسية ترتبط بقوة بدرجة معينة من تعقُد وتحديث المدينة، ولهذا، نجد أن نماذج الكوميديا البوليسية الكبرى مرتبطة بأمريكا وأفلام هوليوود. وكانت هناك كوميديات بوليسية تظهر على شاشة السينما المصرية منذ الخمسينات على الأقل، في بعض أفلام إسماعيل ياسين، مثلاً في “عفريتة إسماعيل ياسين” والذي أتعرض له بالتحليل في كتاب “قهقهة فوق النيل”.
لكن رأيي أن ترسخ إعجاب الناس بالكوميديا البوليسية قد جاء مع الثنائي فؤاد المهندس وشويكار، وجزء من رسوخ أساسات “مؤسسة الكوميديا البوليسية” يعود إلى إصرار الإذاعة المصرية على إذاعة مسلسل كوميدي للثنائي الشهير في رمضان. من ناحية، كان المسلسل يساهم في تسلية الناس في رمضان، وفي مساعدتهم على تمضية وقت الصوم الشاق، ومن ناحية أخرى يرسخ الدعاية للمجتمع الناصري بوصفه حداثيًا. حداثيًا لدرجة أن به جرائم تشبه الجرائم التي نراها تتكرر في أكثر بلاد العالم تمتعًا بالحداثة: الولايات المتحدة.
بمعنى ما، كان المسلسل الكوميدي الرمضاني يسلينا ويرضي شعورنا الثقافي الخاص، فرمضان جزء من خصوصية المصريين الثقافية، ومن ناحية أخرى كان المسلسل يوحي إلينا بأننا متقدمون مثل أمريكا، بفضل النظام القائم.

كيف أصبح رمضان شهر المسلسلات والحكايات؟ وهل حدث ذلك بشكل واعٍ من خلال سياسة تستهدف التقليل من الأجواء الدينية لرمضان؟ أم بدأت تلك الظاهرة بشكل لا واعٍ ثم استمرت بعد ذلك؟
السؤال وجيه جدًا عن العلاقة وربما التناقض بين زيادة المسلسلات والاحتفال برمضان بالذات، في فترة الستينات. لا أظن أننا إزاء “مؤامرة” لإلهاء الناس عن التديّن، وبالتأكيد لا يرتبط الأمر هنا بسياسة علمَنة تتبناها الدولة الحديثة ضد ممارسات التديّن المسلمة. الستينات هي التي أسست فكرة رمضان بوصفه شهر الحكايات والمسلسلات والفكاهة، وهذا الارتباط يكاد يكون اختراعًا حداثيًا وطنيًا. إن علاقة رمضان بالفوازير والمسلسلات تكاد تكون من اختراع دولة التحرر الوطني في زمن عبد الناصر، والكوميديا السينمائية والتلفزيونية تفصيلة في إطار تقاليد التسلية التي أرستها الدولة الناصرية.
عندما تسلم الضباط الحكم في يوليو 1952 كان التفكير القومي غالبًا عليهم. في هذا الإطار الفكري، تعاظم هاجس إحياء التقاليد الثقافية الشعبية مع إلباسها ثوب الحداثة. بمنطق الاحتفاء بالتقاليد الشعبية احتفت الثورة برمضان والعيد. وبمنطق التحديث، سعت الثورة إلى إعادة إنتاج التقاليد الثقافية في قوالب حديثة. من هنا التقت فكرة إحياء الوسائل الشعبية في المسامرة والتسلية، ومنها تبادل الحكايات والنكات والفوازير، مع حلول وسائط الميديا الحديثة وقتها مثل الإذاعة والتلفزيون. هكذا صارت الإذاعة والتلفزيون تحتفيان بتقديم الحكايات لكن في شكل مسلسلات، وبإنتاج الفوازير لكن في شكل برنامج منوعات في شهر رمضان، إذاعيًا ثم تلفزيونيًا.
رأيي أن زيادة عروض المسلسلات التلفزيونية في رمضان هو تطوير لممارسات شعبية قبل الحداثة، مرتبطة بفكرة تسالي الصيام. وكذلك هناك ظاهرة غير ملحوظة، وهي أن احتفاء رأسماليتنا العربية والمسلمة برمضان، يحاكي احتفاء الرأسمالية الغربية المسيحية بالكريسماس، وفي الحالتين هناك تحويل للمناسبة الدينية إلى احتفال بمنتجات التسلية، والاستهلاك بكل معانيه، لخدمة سياسة تنشيط الاستهلاك الدائم.
وإن جاز لي أن أستعير مجاز “المؤامرة” فربما كانت هناك في الحقيقة مؤامرة من جانب تيارات الإحياء الديني التي تركز في خطاباتها على إبعاد كلمة “تسالي” إبعادًا تامًا من الخطاب حول رمضان، باعتبار أن رمضان جَد لا هزل.
إذًا في رأيك، هل كانت الكوميديا جزءًا من موسم رمضان الدرامي من البداية، أم لحقت به متأخرة؟
المسلسلات الكوميدية منذ الستينات جزء من الموسم الرمضاني في الإذاعة، وسرعان ما أصبحت جزءًا من تقاليد التلفزيون الرمضانية، لأن منطق التسلية يحتم تقديم وجبات جادة وحزينة وفكاهية واستعراضية، لأن هذه هي مكونات البوفيه الدرامي عمومًا، والكوميديا جزء من ذلك البوفيه. فالمسلسلات الكوميدية الرمضانية الآن صارت تلعب دور الحكايات الفكاهية في السامر الشعبي الفولكلوري المرتبط برمضان، والتي كانت الأصل الشعبي لمبدأ إنتاج حكايات في شكل مسلسلات في إطار الوسيط التلفزيوني الحديث.
تلجأ الكوميديا دائمًا إلى المبالغات لتوليد المواقف الدرامية و”الإفيهات”، ما يجعلها تتلامس مع قضايا مثل التنمر والعنصرية والإيحاءات الجنسية والتحقير من شأن المرأة. فهل يمكن التعامل مع هذه المبالغات بجدية؟ هل يجب أن تقدم الكوميديا رسالة أعمق أم أن وجود الضحك يمكن أن يبرر سطحية الشخصيات ولجوئها بجرأة للتنمر والعنصرية وغيرها دون تحديد موقف أخلاقي منها؟
التنمر والعنصرية جزء أصيل من تقاليد الكوميديا الشعبية في العالم كله، من الكوميديات الشعبية العربية إلى الكوميديا ديلارتي، وهي كما تعلم فن الكوميديا الارتجالية الشعبية في إيطاليا في العصور الوسطى وحتى العصر الحديث. لكن الاقتصار على توليد الضحك من الضرب والتنمر والعنصرية هو إفقار لمجال الفكاهة.
مشكلتنا في الكوميديا المصرية المنتشرة حاليًا هي ارتفاع نسبة التهريج القائم على العنصرية والتنمر، وهذا جزء من ظاهرة أكثر عمومًا في مجتمعنا، وهي تفشي العنف بكل معانيه وعلى كافة المستويات. وجزء آخر من الظاهرة هو استيراد الكوميديا من هوليوود حيث يسود منذ مطلع القرن على الأقل نوع من الكوميديا التي أسميها عنيفة، ولا أراها تناسب الذائقة المصرية التي شكلتها الكوميديا الرومانسية في العصر الذهبي للسينما المصرية.
حظنا أننا كنا نستورد من هوليوود هذا النوع المُحبب من الكوميديا في الخمسينات والستينات، ثم صرنا الآن نستورد كوميديا مبنية على مجافاة الصوابية السياسية، وعلى التركيز المفرط على إفرازات الجسد، لمجرد أن هذا هو السائد في أمريكا الآن.
هل هناك حد معين أقبل عنده أن تلجأ الكوميديا إلى التنمر أو العنصرية أو إهانة السيدات، فإذا تجاوزت هذا الحد صارت فكاهة غير مستساغة في رأيي؟ المشكلة تظهر بشكل أكثر وضوحاً إن صغناها بالقياس لفكرة الصوابية السياسية. أنا من منتقدي الإفراط في الصوابية السياسية لأن ذلك الإفراط يقضي على فن الكوميديا وفنون السخرية. في المقابل، بالطبع لا أستسيغ الكوميديا التي تسخر من شكل ممثل أو لون جلد ممثلة أو وزنها. لكن أحيانا لو أن الممثل هو الذي يسخر من شخصيته، أو لو أنه يضحك “مع” ما يجعله مختلفاً من حيث اللون والعرق والنوع، لا أرى مانعاً في هذا. أشجع أن يقبل الممثل أن يضحك “مع” خصوصيته، لا أن يضحك الآخرون “منه” و “عليه”. إذاً المسألة مسألة ميزان حساس، ولا قانون جامعا مانعاً لها. الميزان في الكوميديا المقبولة هو عدم الإفراط في التهريج أو التنمر وعدم الاستسلام للتكرار الممجوج في الإيفيهات.
هل لازالت الكوميديا المصرية في السنوات الأخيرة مسألة جادة من وجهة نظرك، أم تحولت إلى تهريج محض؟
الكوميديا مسألة جادة وكذلك قراءتنا لها، حتى لو كانت الكوميديا المطروحة تافهة وسطحية. قد تفتقر الكوميديا للعمق، لكن تحليلنا لها يمكن أن يتسم بالجدية ويكشف لنا ملامح مهمة من الخطابات السائدة في المجتمع، أو الخطابات الناقدة للسائد. كمثال بسيط، تزعجني شخصياً الفكاهة المبنية على أن شخصية تخرج غازات أو تتقيأ، وأراها غاية في التفاهة. لكن تأمل هذا التركيز والطفرة التي يمثلها ذلك الحضور القوي للإفرازات يمكن أن يكشف لنا جانباً من تحول إنتاجنا الثقافي من مستورد ومُقتبس ومُمصر لما تنتجه أمريكا، إلى مجرد تابع يأكل أية قمامة تقذفها أمريكا في جوفنا.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد