الخطيئة المقدسة – تأليف: يفجيني زامياتين – ترجمة: أنطونيوس نبيل
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

ليس للنساءِ والعذارى أنْ يَغْمَطن نَحِيزَتَهُن: عَذَابَهُن، لأن البابَ مفتوحٌ للجميعِ، وهو أيَضًا بابٌ يُفْضِي إلى الخلاص. هكذا أنقذتْ زينيتسا العذراءُ رُوحَها مِن الهلاك الأبديِّ بأنْ سَلَّمَتْ جسدَها لعذابِ الخطيئة.
كانتْ العذراءُ زينيتسا ذات جمالٍ خَلَّابٍ ترفلُ يانعةً في مَيْعَةِ صِبَاها، لا مَغْمَزَ فيها لغامزٍ فَقَدْ عُصِمَتْ مِن كُلِّ شِيَةٍ ودَنَسٍ. كان شعرُها الأثيثُ يَتَوَهَّجُ كأنَّه هالةٌ ملائكيَّةٌ وتاجٌ ذهبيٌّ مَصُوغٌ مِن إبريزٍ قِرْمِزيٍّ. كان أبوها سَيِّدًا عظيمًا في قَوْمِهِ مَجِيدًا في مَقَالِهِ وفِعَالِهِ، وكان يقتني جَمْعًا غفيرًا مِن العبيدِ وقطيعًا وفيرًا مِن الخيولِ، وفي حوزتِهِ ما لا حَصْرَ لَهُ مِنْ لآلئَ لا تُقَدَّرُ بثمنٍ مهما عَلَا وَغَلَا.
في ليلةٍ لَافِحَةِ القَيْظِ أَرَّقَ الظمأُ العذراءَ زينيتسا فبعثتْ عبدَ أبيها؛ ليجلبَ لها ماءً مِن اليَنْبُوعِ الباردِ. وكان ذاك الينبوعُ زاخِرًا بمَاءٍ قَرَاحٍ زُلَالٍ، وأكثرَ زُخُورًا بشتَّى أصنافِ الثعابين وخبائثِ الحَيَّاتِ والعقاربِ. تناولتْ العذراءُ زينيتسا إبريقَ المَاءِ وعبَّتِ مِنْهُ عَبًّا فانسلَّ مَع الماءِ ثعبانٌ ضئيلٌ إلى جوفِها. ترعرع الثُّعبانُ في جوفها إلى أنْ صَارَ عَبْلًا بدينًا، وتمدَّدَ بطنُ العذراء جَرَّاءَ ذلك وانتفخَ، حتَّى صَارَتْ العذراءُ زينيتسا بَجْرَاءَ كأنَّها حُبْلَى؛ فاسْتَدعَوا جمهرةً مِن السَّحَرَةِ مِنْ أَرْضِ قبيلتهم، أَرْضِ الرَّاديميتشيِّين، ومِن القُرَى المُتَاخِمَة لها وصولًا إلى أرضِ الدُّوليبيِّين، لكنَّ جميعَ السَّحرةِ حَبِطَتْ كُلُّ مَسَاعِيهم إذ عجزوا تمامَ العَجْزِ عن إخراجِ الثُّعبان مِن بطنِ العذراءِ.
في تلك الأيام كان هناك رجلٌ اسمُهُ أولفيل في أرضِ القوطيين، اُشْتُهِرَ باجتراحِهِ لعظائمِ المعجزاتِ. عندما حضرَ أولفيل لشفاء العذراء مِن عِلَّتِها، طَفَقَ السَّحَرةُ يُضِلُّونَه بِزُخْرُفِ القَوْلِ؛ كي يفتنوه عن مسعاهُ:
– فلا قُدْرَةَ لك على إخراجِ الثُّعبان.
فأجابهم قائلًا:
– الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم: أنَّ لي القُدْرَةَ على هذا الأمرِ، لكنَّ قُدْرَتِي لم تأتِنِي مِن آلهةِ القوطيّين ولا مِن آلهةِ السلاڨيّين اللَّعِينَةِ، بل هي هِبَةٌ ومَوْهِبَةٌ أعطانيها إلهي.
رَسَمَ أولفيل بيدِهِ إشارةً مجهولةً؛ فإذ بالثُّعبانِ الذي مَكَثَ مُدَّةً مديدةً في بطنِ العذراء يخرجُ مدحورًا وقد اتَّخَذَ صورةَ دُخَانٍ ورمادٍ، فَبُهِتَ جميعُ القَوْمِ ووقفوا كأنَّهم سُكَارى مَشْدُوهِينَ ممَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً مِنْ صَنِيعِهِ الخَارِقِ.
لم يقتصرْ بُرْءُ زينيتسا على جسدِها فحسب، بل كان شفاءً ناجعًا لروحِها أيضًا؛ إذ اِهْتَدَتْ بعد تلك المعجزةِ إلى الإيمانِ الحَقِّ، وأَحَبَّتْ المُعْوِزِينَ والجِيَاعَ والأيتامَ والمُؤتَزِرِينَ بخُشْنِ المُسُوحِ والمفاليج المنبوذين في تَشَرُّدِهم، وأَمْحَضَتْهُم وُدَّها حتَّى صاروا أدنى إلى شغافِ قلبِها مِن أبيها وأمِّها؛ فَلَازَمَتْهُم طَوَال أيامِهَا وهي بَارَّةٌ بهم، تَغْمُرُ يُبُوسَةَ أحوالِهم بِفَيْضٍ مِن رَحْمَتِهَا.
كانت الحقولُ في ذلك الوقت مَكْسُوَّةً بأزهار الربيع، وضَاهَتْ زينيتسا في رِقَّةِ جَمَالِها تلك الأزهار؛ فوَفَدَ عليها كثيرٌ مِن الرجالِ المُتْرَفِينَ ذوي الحَسَبِ الرَّاسِخِ -وقد أنشبتِ الشَّهوةُ أظفارَهَا في نفوسِهم- يسعَوْنَ إلى الزواج بها، لكنَّ زينيتسا قالتْ لهم كَاشِرَةً عَنْ أسنانِها:
– لقد قُضِيَ الأمرُ وَوَهَبْتُ نفسي بالفعلِ. اِئتُونِي غَدَاةَ غَدٍ مُبْكِرِينَ وسَتَرَوْنَ بأنفسِكم.
حينَ كانت الشَّمسُ لا تزالُ في بُكُورِها مُخَضَّبَةً بالحُمْرةِ كالشَّهْدِ ، والنَّدَى الصَّرِدُ يتلألأُ كقُطَيراتٍ مِن نَفِيسِ الألماسِ، رأى الطَّامِحُونَ إلى الزَّوَاجِ بها، رَتْلًا مِن الفقراءِ -المُتَسَرْبِلِينَ بالغُبَارِ والمُتَدَّثِرِينَ بأسمالٍ باليةٍ نَصَلَتْ صِبْغَتُها- يَقِفُونَ أمامَ شُرْفَتِها المُزدانةِ ببديعِ الرُّقُوشِ. قالتْ زينيتسا للخُطَّابِ الذين صَعَقَهم المَشْهَدُ بِغَرَابَتِهِ:
– إنَّني العَرُوسُ المَنْذُورَةُ للفقراءِ، ولَسْتُ لَكُمْ بعَرُوسٍ.
وهكذا ظَلَّتْ زينيتسا بِكْرًا، بَلْ مِثالًا حَيًّا للحياةِ البتوليَّةِ، مُدَّةَ خمسِ سنواتٍ. وفي السَّنةِ الخَامِسَةِ قامَ في أرضِ القُوطيِّين مَلِكُ مُتَغَطْرِسٌ مُبْتَدِعٌ للشَّرِّ يُدْعَى إيرمان. وكما يملأُ الليلُ كُلَّ الأشياءِ بالظُّلْمَةِ؛ كذلك مَلأَ المَلِكُ الطَّاغِيَةُ إيرمان، بمُحَارِبِيهِ السَّفَّاحِينَ، ربوعَ القَبَائلِ قاطبةً -أرضَ الرَّاديميتشيِّين والدريڨليانيِّين والسِّيڨيريانيِّين والبُّوليانيِّين والمِيريِّين والڨِيسيِّين والتشوديِّين- مِن بحر سوروچ إلى بحر ڨارياچ. وفي تلك الأراضي جميعًا، كان يَتِمُّ الفَتْكُ بالذُّكورِ واستئصالُ شأفتِهم بلا رحمةٍ ولا شفقةٍ.
كان المُحَاربونَ الراديميتشيُّون قد تَوَارَوْا في الغاباتِ التي تقعُ على مقربةٍ مِن أرضِهم؛ فرارًا مِن منايا آزِفَةٍ لهم بالمِرْصَاد، والنساءُ هُجِرْنَ ليَصِرْنَ سبايا في أَيَادٍ مُجْرِمَةٍ مُصَابَةٍ بِالعَمَهِ، أيادٍ تَسْتَبِيحُ فِي غُلَوَاءِ وَحْشِيَّتِها الجَائِرةِ جميعَ الحُرُمَاتِ. وجميعُ النساءِ اللوائي قَاوَمْنَ المحاربين القوطيِّين المُحْتَدِمِينَ شَرًّا، جُلِدْنَ بسِيَاطٍ جارفةٍ تَقْطُرُ قَسْوَةً ولُفِحَتْ أعضاؤهن الرَّهِيفَاتُ بألسنةِ السُرُجِ المُسْتَعِرَة.
في ذلك الوقتِ كانت زينيتسا مُخْتَبِئَةً في مَلْجَإٍ سِرِّيٍّ مَنْقُوبٍ في الأرضٍ، وحالما تناهتْ إلى مَسَامِعِهَا أنَّاتُ المُعَذَّباتِ أَبَى قَلْبُها المُتْرَعُ بالصَّلاحِ أنْ تَنْجُوَ وَحْدَهَا، غادرتْ ملجأها وانطلقتْ تسعى جاهدةً إلى رؤيةِ إيرمان، ذاك الذي يدعونَهُ مَلِكًا. وعندما رأتْ زينيتسا الخيمةَ -الباذِخَةَ المنسوجةَ مِن أُرْجُوانٍ والمُنَمْنَمَةَ بخيوطٍ مِن الفضةِ والمُرَصَّعَةَ بجَوَاهِرَ نَفِيسةٍ لا نَظِيرَ لها- سألتْ مِنْ فورها:
– هل إيرمان، الذي تدعونَهُ مَلِكًا، هنا؟
فسألها الحارسُ القائم على بابِ الخيمةِ عن السَّببِ وراءَ رغبتِها في رؤيةِ الملك. فأجابتْهُ زينيتسا قائلةً:
– لن أبوحَ بالسَّببِ إلا للمَلِكِ، فحسب.
نظرَ الحارسُ إلى جمالِ زينيتسا الخَلَّابِ وشَعْرِها الذي يُشْبِهُ تاجًا ذهبيًّا؛ فَسَمَحَ لها بالدخولِ إلى الخيمةِ لمُلَاقَاةِ المَلِك.
كان إيرمان الطَّاغِيَةُ المُتَغَطْرِسُ شبيهًا في هيئتِهِ الدَّمِيمَةِ بحيوانٍ وَحْشِيٍّ جامحٍ، ولم يكنْ أحدٌ مِن الناسِ قادرًا على أنْ ينظرَ إليه مُبَاشرةً، ولكن زينيتسا حَدَّقَتْ في وجهِهِ بنظراتٍ صارمةٍ جَسُورَةٍ قائلةً:
– لِمَ لا تُلْجِمُ جُنُودَكَ، أيُّها المُجْرِمُ، وتَكُفُّهُم عَنْ تَعْذِيبِ النَّساءِ.
لكنَّ الملكَ إيرمان نظرَ إليها في صَمْتٍ نظرةَ هِزَبْرٍ في اليَهْمَاءِ يتأمَّلُ فريستَهُ؛ إذ أَضْرَمَ جمالُها الرَّهِيفُ لَظَى الشَّغَفِ فِي جَنَانِهِ، وتَزَلَّفَ إليها بكلماتٍ حنونةٍ معسولةٍ:
– أيَّتُها المحبوبةُ، أتَوَدِّينَ حقًّا أن أَكُفَّ جُنُودِي عن تعذيبِ النساءِ، في الحالِ وبلا مُمَاطَلَةٍ؟ أُقْسِمُ لَكِ بشَرَفِ كلمتي غيرَ حَانِثٍ ولا نَاكِثٍ، أنَّني لنْ أَقْتَصِرَ على الأمرِ بإطلاقِ سراحهن فحسب، بل سَآمُرُ جُنُودي أنْ يُقَدِّمُوا إليهن شتَّى أصنافِ الطَّعَامِ الشَّهِيَةِ؛ فإنِّي أعلمُ أنَّكُنَّ الآنَ على شَفَى مَسْغَبَةٍ مُهْلِكَةٍ، ولمْ يبقَ في حَوْزَتِكُن إلَّا نَزْرٌ يَسِيرٌ مِن سُمَيْكَاتٍ مُمَلَّحَةٍ.
صرختْ زينيتسا في وجهِهِ مُسْتَنْكِرَةً:
– أرجو أَنْ تَفِيَ بعَهْدِكَ، وألَّا يكونَ قَسَمُكَ يمينًا غَمُوسًا!
فأجابَها إيرمان:
– إنْ كنتِ تريدين حقًّا أنْ أفِيَ بعهدي؛ هَلُمَّ إلى فِرَاشي واضْطَجِعِي معي.
رفعتْ زينيتسا يَدَيْها البَضَّتَيْنِ نحو السَّماءِ ضَارِعةً:
– ما أقساهُ مِن أمرٍ وما أَشْأَمَهُ! فَمَا أَشْقَانِي وما أَتْعَسَنِي! هذه كَأسٌ أُجَاجٌ مِنْ يَدِ القَدَرِ أشدُّ مَرَارَةً على رُوحِي من عَلْقَمٍ ممزوجٍ بالرَّمَادِ!
بعد بُرْهَةٍ مِنَ التَّدَبُّرِ وإنْعَامِ النَّظَرِ، حَسَمَتْ أَمْرَها واتَّخَذَتْ قَرَارَها، مُسْتَفْتِيَةً في ذلك قَلْبَهَا؛ وقالتْ في نَفْسِها “لَنْ يكونَ هذا الابتلاءُ هلاكًا لرُوحي ولا كُفْرًا بخلاصِ نفسي، بَلْ سيكونُ نِعْمَةً مُسْبَغَةً عَلَيَّ، وبَرَكةً لا لعنةً.” ثُمَّ تَجَرَّدتْ مِن ثيابِها وتَسَنَّمَتْ فِرَاشَ المَلِكِ.
قالَ المَلِكُ إيرمان خبيثُ الفؤادِ، وقد فَطِنَ إلى حقيقةِ إيمانِها، مُسْتَهْزِئًا بها:
– أينَ الآنَ عِفَّتُكِ الصادِقَةُ التي أَوْجَبَها عليكِ إيمانُكِ؟
فأجابتْ زينيتسا المَلِكَ بحكمةٍ:
– إنَّ مرارةَ جَسَدِي الفاني خِزْيٌ بائدٌ لن يَمَسَّنِي بِضُرٍّ إلَّا هنا في الحياةِ الدُّنِيَا، أمَّا هناك في الآخرةِ فإنَّ خطيئةَ جَسَدي ستكونُ مَدْعَاةً للفَخْرِ ومِرْقَاةً إلى المَجْدِ؛ لأنني اِقْتَرَفْتُهَا في سَبِيلِ المُسْتَضْعَفِينَ الرَّازِحِينَ تَحْتَ أنيارِ الطُّغْيَانِ.
أَنْجَزَ الملكُ إيرمان وَعْدَهُ؛ فانقَطَعَتْ أنَّاتُ المُعَذَّبَاتِ في تلكَ الأرضِ وامَّحَتْ أطلالُ السَّغَبِ مِن ربوعِ الأجسادِ، وصارتْ زينيتسا مُبَجَّلَةً في عيونِ الأيتامِ يُسَبِحُونَ بَحْمِدِها طُرًّا، ثُمَّ عقب انقضاءِ ثلاثين يومًا صرخَ الملكُ إيرمان في وجهِ زينيتسا مُوَبِّخًا لها:
– لِمَ لا يَحْمِلُ قلبُكِ مِثْقَالَ خَفْقَةٍ مِن الهوى؟ لِمَ لا تَرْتَجِفُ أزهارُ صدركِ تَحْتَ وَطَأةِ مُدَاعَبَاتِي؟ لِمَ تَرْقُدِينَ في فراشي كجُلْمُودِ صَخْرٍ لَا حِسَّ لَهُ؟
فأجابتْهُ زينيتسا بِحَزْمٍ صَارِمٍ لا مِرَاءَ فِيهِ:
– ها هو ذا جسدي مطروحٌ لَكَ، خُذْهُ متى شِئتَ فما هو إلا ترابٌ زائل، وأمَّا رُوحي أيُّها الخبيثُ النَجِسُ فمحظورةٌ عليكَ، فإنَّ الرُّوحَ خالدةٌ لا يَسْتَسِيغُها دُودُ فَسَادٍ ولا يَسْتَطِيبُها سُوسُ عَدَمٍ.
لحظتئذ تَمَيَّزَ المَلِكُ إيرمان غَضَبًا، وفي سَعِيرِ سُخْطِهِ أَيْنَعَتْ ثِمَارُ مَقْتِهِ فَنَكَثَ يَمِينَهُ، فأَخْرَجَ أفاعي القَسْوَةِ مِنْ مَكَامِنِهَا في صُدُورِ جُنُودِهِ وعادتِ الاضطهاداتُ الشَّنْعَاءُ إلى سيرتِها الأولى. كانتْ بَاكُورةُ أوامرِ إيرمان لجُنْدِهِ أن يُمْسِكُوا بزينيتسا ويبتروا ثَدْيَيْها بِحَدِّ السيفِ ويَطْرَحُوها بعد ذلك في جُبِّ الينبوعِ المُتَجَمِّدِ الذي كان مِنْ دَيْدَنِهِ أَنْ يَظَلَّ طَافِحًا بكَافَّةِ صُنُوفِ الثَّعَابِين وخبائثِ الحَيَّاتِ والعقاربِ. بعد أَنْ تَمَّ تنفيذُ أوامره، كان إيرمان مُنْزَوِيًا في خيمتِهِ يرفع الثَّدْيَيْنِ المبتورَيْنِ ويُقَبِّلُهما ويبكي بكاءً مريرًا آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ، وكان الحَرَسُ على بابَ خَيْمَتِهِ الأرجوانيَّةِ يَسْمَعُونَهُ ينتحبُ قائلًا:
– يا حبيبتي، يا شَوْكَ أزهارٍ قُدَّتْ مِن صَّقِيعِ القَلْبِ وهي أعظمُ نقاءً مِنْ قَلْبِ الصَّقِيعِ!
لَبَثَتْ زينيتسا مطروحةً في الجُبِّ ثلاثةَ أيامٍ، في البردِ القارسِ تُصَلِّي في خشوعٍ مُعْتَصِمَةً بالصَّبْرِ، ولم تَمْسَسْها الزَّواحفُ بأذًى. وظَلَّتِ الأرضُ ثلاثةَ أيامٍ تَخْتَلِجُ بزلزلةٍ عظيمةٍ وريحٍ صَرْصَرٍ ذاتِ بروقٍ ورعودٍ، حتَّى اِنْبَجَسَ ماءُ الينبوعِ ذَامِرًا مُهَشِّمًا أَصْفَادَهُ الجَلِيديَّة، حَامِلًا زينيتسا والأفاعي وخبائثَ الحيَّاتِ والعقاربَ مِنْ حَضِيضِ الجُبِّ إلى شاطئ الينبوع. فانتشرتْ الزَّوَاحِفُ في أرجاءِ الأرضِ وَهَبَّتْ تَلْدَغُ المُحَارِبِينَ القوطيِّينَ الذين بَدَّدَتْ شَمْلَهُم صَوَاعِقُ الدَّهْشَةِ ورَوَاعِدُ الذُّعْرِ، حتَّى فَرُّوا مِنَ القريةِ كما تَفِرُّ الأيائلُ البَّرِّيَّةِ مِن صَوْتِ البَشَرِ.
فَخَرجَ المُحَارِبِونَ الراديميتشيُّون مِنْ مخابئهم في الغاباتِ المُحِيطَةِ بالقريةِ، وتَعَقَّبوا المُحَارِبِينَ القُوطِيِّين وأثخنوا فيهم قتلًا؛ فقطعوا دَابِرَهُم وتَطَهَّرَتْ أرضُ الرَّاديميتشيِّين مِن أغلالِ العبوديَّةِ وأنيار البَطْشِ. أمَّا زينيتسا فقد تَحَنَّنَتِ عليها السَّمَاءُ وأَبْرَأَتْهَا مِن وَصْمَةِ العَذَابِ المُبَرِّحَةِ: إذ أعادتْ إليها بمعجزةٍ رَءُومٍ ثَدْيَيْها كأنَّهما لَمْ يُبْتَرَا قَطُّ، وصَارَتْ شَمسُ جَمَالِها أَشَدَّ سطوعًا مِن ذي قبل. وهكذا على الرُّغمِ مِن مُرُورِ الأيامِ وكُرُورِ الأعوامِ ظَلَّتْ زينيتسا شابَّةً ناضرةً ذاتَ جَمَالٍ لا شبيهَ لَهُ مَعْصُومٍ مِنْ تَصَارِيفِ الدَّهْرِ.
وفي ساعةِ احتضارِها دَعَتْ إليها جميعَ أحبائها:
– أشعرُ أنَّ ساعةَ موتي قَدْ أَزَفَتْ.
وبعد أَنْ تَلَتْ صلاةً وجيزةً، استسلمتْ زينيتسا للسُّبَاتِ الأبديّ، فَفَاضَتْ عيونُ الناسِ قاطبةً بالدموعِ الزَّوَارِفِ حسرةً وجَوًى، لكنَّهم تَحَيَّروا قائلين: كيف نَدْفِنُها؟ إذ لم يَجِدُوا أحدًا بينهم، على أدنى عِلْمٍ بطقوسِ الدفنِ التي يقتضيها إيمانُها. وازدادتْ حيرتُهُم وامتزجتْ بالرَّهْبَةِ حالما رَأَوْا أنَّ جسدَها قد خلا مِن آفاتِ الموتِ، إذ كانَ غضًّا، مُشْرِقًا، يَتَضَوَّعُ مِنهُ شَذَا المِسْكِ.
وأخيرًا، بعد أن أعربوا بالصَّوْمِ الطَّويلِ عن تبجيلِهِم لها، أَتَمُّوا طقسَ دَفْنِها وَفْقًا للشعائرِ السّلاڨيَّة: جمعوا مِنَ الترابِ والأحجارِ ما صنعوا بِهِ رَبْوَةً فوق مَوضعِ اللَّحْدِ، رَبْوَةً تُدْعَى “تلَّ الدفنِ”، وفوقَ التَّلِّ نصبوا حَجَرًا، وعلى ذاكَ الحَجَرِ نقشوا كلماتٍ غائرةٍ باليونانيَّة والسّلاڨيَّة والقوطيَّة:
“هنا تَرْقُدُ زينيتسا العذراءُ التي أَنْقَذَتْنَا بخطيئتِها ِالرَّحِيمَة.”
يفغيني زامياتين (1884–1937)
كاتب روسي ومسرحي وكاتب مقالات، اشتُهر بروايته الديستوبية الرائدة “نحن” (1921)، التي سبقت رواية أورويل “1984”. كان صوتًا ثائرًا ضد الاستبداد، حيث مزجت أعماله الساخرة بين التجريب الحداثي والنقد الاجتماعي اللاذع، مما أدى إلى منع كتبه ونفيه من قبل النظام السوفيتي. توفي في باريس، تاركًا إرثًا كأحد رواد الأدب الديستوبي.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد