عن حدود المعرفة وسر الأثر.. سرير بروكرست: حِكَمٌ فلسفيّةٌ وعمليَّة .. ترجمة: أنطونيوس نبيل
سرير بروكرست: حِكَمٌ فلسفيّةٌ وعمليَّة
تأليف: نسيم نقولا طالب
إهداء المؤلف: إلى ألكسندر ن. طالب
مجلة تفكير تقدم ترجمة أنطونيوس نبيل للكتاب على حلقات أسبوعية.
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

الحلقة السابعة والأخيرة: عن حدود المعرفة وسر الأثر
الخاتمة
إنَّ العقولَ الأفلاطونيَّةَ تتوقَّعُ من الحياةِ أَنْ تكونَ كالأفلامِ ذات خاتمةٍ محدَّدةٍ ونهائيَّة، وأمَّا غَيْرُ الأفلاطونيِّين فإنهم يتوقَّعون مِن الأفلامِ أَنْ تكونَ كالحياةِ، باستثناءِ النَّزْرِ اليَسِيرِ مِنَ الحَالاتِ التي لا رَجْعَةَ فيها كالموتِ، فهم يرتابون في الصِّبْغَةِ النِّهائيَّةِ لكُلِّ الخواتيم البشريَّة المُعْلَنَة.
تذييل
إن الموضوعَ العام لعملي هو حدودُ المعرفةِ البشريَّةِ، والأخطاءُ والتحيُّزاتُ الساحرة والأقلُّ سِحْرًا حينما التعامل مع الأمورِ التي تقع خارج نِطاق ملاحظتنا، غيرِ المرصودِ منها وغيرَ القابل للرصدِ- المجهول، القابع خلف الحُجُبِ المُعْتِمَة.
وبما أن عقولنا محتاجةٌ إلى اختزال المعلومات؛ فإننا نميلُ إلى حَشْرِ الظواهر في سريرٍ بروكرستيٍّ لفئةٍ واضحة ومعهودة (باتِرين المجهول منها)، عِوَضَ أن نُرْجِئَ التَّصنيفَ، وذلك لنُكسبها طابعًا ملموسًا. وبفضل اكتشافاتنا للأنماط الزائفة بالإضافة إلى الأنماط الحقيقية، فإن ما هو عشوائي سيبدو أقلَّ عشوائيَّة وأكثرَ يقينيَّة- إذ أن عقولَنا مُفْرِطَةَ النَّشَاط تنزعُ إلى فرضِ سرديَّة خاطئة ومُبَسَّطَة إن كان البديلُ هو عَدَمَ وجود سرديَّةٍ مُطْلَقًا.
إن العقلَ بمقدوره أن يصبحَ أداةً مُدهِشة لخداع الذات- فهو لم يُصمَّمْ للتعامل مع التعقيدِ والغموضِ غيرَ الخَطِّيّ.
ونقيضًا لما يُروِّجُ له الخِطابُ السَّائِد، فإن وفرةَ المعلومات تعني مزيدًا مِن الأضاليل. إن اكتشافنا لأنماطٍ زائفةٍ بوتيرةٍ متسارعةٍ هو أحدُ الآثارِ الجانبيَّة للحداثة وعصر المعلومات: هناك هذا التناقض بين العشوائيَّة المُشَوَّشة التي يَتَّصِفُ بها عالَمُنا الحالي الغني بالمعلومات والمصحوبة بتفاعلاتٍ معقَّدة، وبين حدسِنا بالوقائع النابعِ مِن البيئةِ البسيطة لأسلافنا. إن بُنْيَاننا العقلي، لهو في تناقضٍ مُتَفَاقِمٍ مع العالَم الذي نعيش فيه.
هذا يُفضي بنا إلى مشكلة البُلْهِ: حينما لا تتوافق الخريطةُ مع قطعةٍ مِن الأرض، فهناك فئة معيَّنة من الحمقى تتلبسها حالةُ الإنكار وتشرعُ في تخيل أن قطعة الأرض تتوافق مع خريطتهم. هذه الفئة تَضُمُّ المُتْخَمَ بالتعليم، الأكاديمي، الصحفي، قارئ الصُحُف، “العالِم” الآلي، التجريبي الزائف: أولئك الذين ينعمون بما أدعوه “العجرفة المعرفيَّة”، هذه القدرة العجيبة على إسقاط غيرَ المرصود والإعراض عمَّا لم يَرَوْه. على نحوٍ أكثر عموميَّة فإن الأحمقَ هنا هو الشخصُ الذي يقوم بعملية الاختزال من أجل الاختزال فحسب، أو الذي يزيلُ شيئًا جوهريًّا، فهو يُكْرِمُ زائرَهُ بأن يبترَ رجلَيْهِ أو بالأحرى جزءًا مِن رأسِهِ، بينما يُصِرُّ على أنَّه صانَ شخصيَّةَ ضيفِهِ المنحوسِ بِدِقًّةٍ عاليةٍ تَصِلُ إلى خمسة وتسعين في المائة.
أَجِيلُوا النَّظَرَ فيما حولكم وتَأمَّلوا السُّرُرَ البروكرستيَّة التي خلقناها، البعضُ منها نافعٌ، والبعض الآخر أكثرُ مدعاةً للشَّكِّ: اللوائح، والحكومات المنطلقة من القمة إلى القاعدة، والأوساط الأكاديميَّة، وصالات الألعاب الرِّياضيَّة، والمباني الشاهقة المخصَّصة للمكاتب، والعلاقات الإنسانيَّة القسرية، والتوظيف، وهكذا إلى آخر قائمةِ السُّرُرِ البروكرستية المريبة التي تبدو بلا نهاية.
منذ عصر التنوير، ونحن نعيش في حَوْمَةِ توترٍ رهيبٍ بين العقلانية (كيف نُوّدُّ للأشياء أن تكون لتبدو منطقيةً لنا) وبين التجريبية (كيف تكون الأشياء على حقيقتها)، فَلَمْ نَزَلْ نَلُومُ العالمَ على أنه لا يُلائِمُ سُرُر نماذجنا العقلانية، فحاولنا تعديل البشر ليتلاءموا مع التكنولوجيا، ولفَّقنا أخلاقياتنا لتتلاءم مع حاجتنا إلى العمل، وطلبنا من الحياة الاقتصادية أن تتلاءم مع نظريات خبراء الاقتصاد، والتمسنا من الحياة البشرية أن تُحْشَرَ في بعضٍ من السَّرديَّات.
إن الصلابةَ لا تفارقنا طالما أن أخطاءنا في تمثيل المجهول وفهم التأثيرات العشوائية لا تُفْضِي إلى نتائج عكسيَّة، وإلَّا فإن الهشاشةَ مآلُنا. فالمنافع القوية الناتجة عن أحداث البجعة السوداء، تُحطِّمُ بلا شفقةٍ ذوي الهشاشةِ. فهشاشتَنا تتفاقم في وجه نوعٍ محدَّدٍ من التوحُّد العِلْمي الذي يُصْدِرُ في طُمأنينةٍ ادعاءاتٍ قاطِعَةً حول المجهول، مما يؤدي إلى مشكلاتِ الخبراء، والمخاطرة، والاعتماد الهائل على الخطإِ البشري. والقارئَ لحِكَمي بمقدوره أن يرى مقدار الاحترام الذي أَكِنُّه لأساليب الطبيعة الأمِّ في الصلابة (تتيحُ مليارات السنوات لمُعظم ما هو هشّ أن يتحطَّم)؛ لذلك فإن الفكر الكلاسيكي (لتواضعه المعرفيّ في احترامه للمجهول) أكثر صلابةً من التوحُّد العلمي الزائف الحديث فيما بعد التنوير. ومِن ثَمَّ فإن قِيَمي الكلاسيكيَّة تُلْزِمُني بأَنْ أذودَ عن ثلاثيَّة سعة المعرفة والكياسة والشجاعة، ضدّ زيفِ الحداثة وغرابتها وضيق أفقها.
يَتَّصِفُ الفنُ بالصلابة والعلم لا يشاركه دائمًا في هذه الصفةِ (إن أردنا تلطيف العبارة). فبعضُ السُرُرِ البروكرستيَّة تجعل الحياةَ تستحق أن تُعاش: الفن، والحكمة الشعرية التي لا يتفوَّق شيءٌ على فاعليتها.
إن أقدم الأشكال الأدبية، هي الحِكَم والأقوال المأثورة والأمثال والمقولات القصيرة، بل وإلى حدٍّ ما الإبجرامات (نُتَف موزونة لبُّها المفارقة)، وغالبًا ما كانت مدغمةً فيما ندعوه الآن شِعْرًا. وهي تحتوي على الكثافةِ المعرفيَّة للمقتطفات الصوتيَّة التلخيصيَّة (وكلاهما أكثر فاعليةً وأناقةً من النسخة الراهنة الرديئة)، مع بعض مظاهر التباهي في قدرة المؤلف على ضغط الأفكار القويَّة في حفنةٍ من الكلمات، وخاصةً في الصِّيغة الشَّفَهِيَّة منها. في الواقع لا بُدّ مِن التباهي؛ فالمفردة العربية “ارتجال” التي تعني انبعاث الكلام البليغ من المرءِ بلا رويَّةٍ ولا إطالة فكر، تشترك في الجذر اللغوي مع مفردة “رجولة” وهي كلمة ليست قاصرة على الرجال كما يبدو، بل يمكن ترجمتها على أنها “الشمائل التي يَكْمُلُ بها الإنسان” (كلمة virtue أي الفضيلة، لها ذات الجذر اللغوي في اللغة اللاتينية vir أي إنسان). وكأن أولئك الذين يستطيعون ابتكار هذه الأفكار القوية هم أرباب الطلاسم.
إن أقدم الأشكال الأدبية، هي الحِكَم والأقوال المأثورة والأمثال والمقولات القصيرة، بل وإلى حدٍّ ما الإبجرامات (نُتَف موزونة لبُّها المفارقة)، وغالبًا ما كانت مدغمةً فيما ندعوه الآن شِعْرًا. وهي تحتوي على الكثافةِ المعرفيَّة للمقتطفات الصوتيَّة التلخيصيَّة (وكلاهما أكثر فاعليةً وأناقةً من النسخة الراهنة الرديئة)، مع بعض مظاهر التباهي في قدرة المؤلف على ضغط الأفكار القويَّة في حفنةٍ من الكلمات، وخاصةً في الصِّيغة الشَّفَهِيَّة منها. في الواقع لا بُدّ مِن التباهي؛ فالمفردة العربية “ارتجال” التي تعني انبعاث الكلام البليغ من المرءِ بلا رويَّةٍ ولا إطالة فكر، تشترك في الجذر اللغوي مع مفردة “رجولة” وهي كلمة ليست قاصرة على الرجال كما يبدو، بل يمكن ترجمتها على أنها “الشمائل التي يَكْمُلُ بها الإنسان” (كلمة virtue أي الفضيلة، لها ذات الجذر اللغوي في اللغة اللاتينية vir أي إنسان). وكأن أولئك الذين يستطيعون ابتكار هذه الأفكار القوية هم أرباب الطلاسم.
خارج نطاق ما ندعوه الآن دِينًا، فلتتأمل حِكَم هيراقليطُس وأبقراط، وأعمال بوبليوس سيروس (السوري الذي أُعْتِقَتْ رقبتُهُ مِن نِيرِ العبودية بفضل بلاغتِهِ التي تجلَّتْ في عِبَرِهِ الشعريَّة الناجعة ذات البيت الواحد، والتي ترددتْ أصداؤها في أقوال لاروشفوكو)، وقصائد المتنبي الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وذاع صيته كأعظم شعراء العرب.
أُستخدمتْ صيغةُ الحِكَم كجُملة واحدة مستقلة بذاتها، في العروض التوضيحية، وفي النصوص الدينيَّة، وفي نصائح الجدَّة لحفيدها في المشرق، وفي التفاخر (كما ذكرتُ سالفًا في حكمة من حكم هذا الكتاب أن المتنبي أستخدم هذه الصيغة في إبلاغنا على نحوٍ مُقْنِع بأنه أعظم الشعراء العرب)، وأُستخدمت أيضًا في الأهاجي الساخرة (مارتياليس المشهور بمارشال، إيسوب، المعريّ)، ومِن قِبَل الكُتَّاب الأخلاقيين (ماركي دو فوفنارج، فرانسوا لا روشفوكو، جون دو لا برويير، نقولا شامفور)، وفي عرض الفلسفة المبهمة (لودفيج فِتجنشتَين)، وفي الفلسفات الأقلّ إبهامًا (شوبِنهَوَر، نيتشه، إميل تشوران)، وفي الأفكار بالغة الوضوح (باسكال). ليس عليك أبدًا أن تُفسِّرَ الحكمة الموجزة، فهي كالشعر متروكٌ للقارئ أن يتفكَّر فيها بنفسه.
تقتضي الحِكَم مِنَّا تغيير عادات القراءة ومقاربتَها عَبْرَ جرعاتٍ صغيرةٍ؛ فَكُلُّ واحدةٍ منها تشكِّلُ وحدةً كاملةً، وسرديَّةً تامَّةً مُستقلَّة عن غيرها من السرديَّات.
لذلك فإن تعريفي المُفَضَّل لغريب الأطوار: الشخص الذي يطلبُ منك أن تُفسِّرَ له حكمةً.
إن أسلوبي يتَّبعُ صيغةَ الحِكْمَةِ وهذا الأمرُ كنتُ مُنْتَبِهًا له. في مراهقتي كان الذي يقوم بتوجيهي هو الشاعر جورج شحادة (شعره يشبه الأمثال) والذي تنبأ بأن عقلي سوف يصحو ويُدركني النُّضْجُ لأجعلَ مِن الشِّعْرِ مهنتي حالما أتطهر من سموم أفكاري حول إدارة الأعمال.
أثار القُرَّاءُ عاصفةً من التنبيهاتِ الخاصَّةِ بحقوق النَّشر وذلك لنشرهم اقتباسات من كتبي على الإنترنت ولكني لم أفكر قطُّ في إعادة صياغة أفكاري (أو بالأحرى فكرتي المركزية حول حدود المعرفة) بهذا الأسلوب إلى أن أدركت أنني مطبوعٌ على التعبير بتلك الجُمَل، التي تَغْشَانِي دُونَ إرادةٍ منِّى بطريقة حُوشِيَّة. خاصًة حينما أمشي (ببطءٍ) أو حينما أُحرر عقلي مِن هواجسه ليقوم بفعل لا شيء، أو لا شيء يتطلَّب جهدًا- يمكنني إقناع نفسي بأنني كنت أسمعُ أصواتًا من الناحية الأخرى من الحُجُب المُعْتِمَة.
بتحرير نفسك من القيود، ومن الأفكار، ومن النَّشاط المُضْنِي الذي يُسمَّى عَمْلًا، ستجد أن العناصرَ المخبوءةَ في نسيجِ الواقع قد شرعتْ في التحديق فيك، ثُمَّ ستجد أن الألغاز الخفيَّة التي لم تعتقد قطُّ في وجودها قد بزغتْ ساطعةً لعينيك.
شكر وتقدير
پ. طنوس، ل. دي شانتال، ب. أوبيتيت، م. بلايث. ن. ڨيردي، ب. أپليارد، ك. ميهايلسكيو، ج. باز، ب. دوپير، ي. زيلبر، س. روبرتس، أ. پيلپل، و. جودلاد، و. ميرفي، م. بروكمان، ك. طالب. ك. سانديس، ج. كوجات، ت. بيرنام، ر. دوبيلي، م. غصن (الأصغر)، س. طالب، د. ريڨير، ج. جراي، م. كاريرا، م. س. رياتشي، پ. بيڨيلن، ج. أودي (أقام جسرًا)، س. روبرتس، ب. فليڨبرج، إ. بوجاودي، پ. بوجوسين، س. رايلي، ج. أوريجي، س. أمونز، بالإضافة إلى العديد من الأشخاص (إذ أنَّني أتذكَّرُ أحيانًا أسماءَ أشخاصٍ قدَّموا لِي خَيْرَ مُسَاعدةٍ فارقةٍ، حينما يكونُ إظهارُ امتناني لهم قد تَأخَّرَ كثيرًا).
نبذة عن المؤلف

نسيم نقولا طالب يقضي معظم وقته مُتَسكِّعَا، وعلى المقاهي المبعثرة على ظَهْرِ الكوكب مُتَأمِّلًا. عَمِلَ في السَّابق مُتَدَاوِلًا في الأسواق الماليَّة، وهو الآن أستاذ مُتَمَيِّز بجامعة نيويورك. وهو مؤلف كتابيّ “مخدوعٌ بالعشوائية”، و”البجعة السوداء” الذي مَكَثَ أكثرَ مِن عامٍ على قائمةِ نيويورك تايمز للكتبِ الأكثر مبيعًا وما يزالُ مِحَكًّا فكريًّا واجتماعيَّا وثقافيًّا.
بهذا، عزيزي القارئ، تنتهي سلسلة سرير بروكرست، ولكن التفكير خارج سريره لا ينتهي.
لقراءة الحلقة السادسة من سرير بروكرست: حكم فلسفية وعملية اضغط الرابط التالي:
الحلقة السادسة: القوة، والصدق، وما لا يُقال
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد