الفِيلُ الذُّبَابَةُ .. ترجمة: أنطونيوس نبيل
تأليف: سيجيزموند كرچيچانوفسكي
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

١
ألقتْ يَدٌ بِظِلِّهَا فَوْقَ الذُّبَابةِ وسُمِعَ صوتٌ يقولُ:
“كُنْ فِيلًا.”
قبل أنْ يُتَاحَ لعَقْرَبِ الثَّوَاني وَقْتٌ وافٍ ليَخْتَلِجَ مَرَّةً أو مرَّتَينِ على وَجْهِ السَّاعَةِ المُوَشَّمِ بالأرقامِ، وَقَعَ ما يَلِي: سَاخَتْ أكْعُبُ الذُّبابةِ في أَدِيمِ الأرضِ التي نَاءَتْ بَغْتَةً بأوزارِ أقدامٍ فِيليَّةٍ، وتَقَوَّسَ مِمَصُّ الذُّبَابَةِ الشَّبِيهُ بالخَيطِ نحوَ الداخلِ وتَمَطَّى في لَمْحِ البَّصْرِ ليصيرَ خرطومًا رماديَّا جَسِيمًا.
مع ذلك، كانْ هناكَ شيءٌ مِنَ النُّقْصَانِ وعَدَمِ الإتقانِ، فيما يَتَعَلَّقُ بهذه المُعْجِزَةِ؛ فقد خَامَرَهَا مِنَ الحَيَدَانِ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ ما يَبْعَثُ في النَّفْسِ أَجِيجًا وَبِيلًا مِنَ السَّخَطِ: فَلَوْ أَنَّ طبيبًا نَفْسيًّا أَقْحَمَ نَظَّارتَهُ الأَرِيبَةَ تحتَ الجِلْدِ الثَّخِينِ للكائنِ الذي تَوَقَّلَ مِعْرَاجَ التَّطَوُّرِ حَدِيثًا، لفَطِنَ في التَّوِّ إلى أَنَّ رُوحَ الذُّبَابَةِ لمْ يَبْلُغْ مَسَامِعَهَا أيٌّ مِنْ الأَحْرُفِ السِّحْرِيَّةِ لعبارةِ “كُنْ فِيلًا.” ولأدركَ أنَّ أناملَ المُعْجِزَةِ قد قَنِعَتْ بمُلَامَسَةِ الجِلْدِ وأَبَتْ أنْ تتغلغلَ فِيهِ عَمِيقًا لتُعانِقَ رُوحَ الذُّبابةِ.
فكانتْ الثمرةُ المُبْتَسَرةُ لهذه المُعْجِزَةِ المَبْتُورَةِ: فيلًا بِرُوحِ ذبابةٍ- فِيلًا ذُبَابَةً.
٢
إنَّ الحَشَرَاتُ على وَجْهِ العمومِ مُعتادةٌ على ما يُدْعَى “تحولاتٍ”، ففي الأطوارِ المُتَعَاقِبَةِ لحَيَاتِها يكونُ نُمُوُّها مَشْفُوعًا بانْسِلَاخِهَا وتَبَدُّلِ هَيْئَتِها. لكنْ، في هذه الحالةِ، بينما كانت الذُّبابَةُ تُجِيلُ بِنَاظِرَيْهَا مُتَأَمِّلةً جَسَدَهَا الجَدِيدَ الذي تَبْلُغُ زِنَتُهُ ألفَ وسِتُّمِائَةِ وثمانيةَ وثلاثينَ كيلوجرامًا، غَشِيَتْهَا نوبةٌ مِن الهَلَعِ المُطْبِقِ والحَيْرَةِ المُرِيعَةِ مَثَلُهَا كَمَثَلِ رَجُلٍ مُعْوِزٍ -اِبْتَدَعَتْهُ حكايةٌ خرافيَّةٌ- رَقَدَ في وَجْرِهِ الضَّيِّقِ ثُمَّ اِنْتَبَهَ مِن غَفْوَتِهِ –بمَشِيئَةِ جِنِّيَّةٍ- ليَجِدَ نَفْسَهُ في الغُرُفَاتِ الرَّحِيبةِ لقصرٍ مُنِيفٍ لكنَّهُ مُوحِشٌ مُقْفِرٌ لا يَخْمِشُ جُدْرَانَ سُكُونِهِ المَنِيعِ أَنْفَاسُ إنْسٍ ولا وَسْوَاسُ جانٍّ.
بعدَ أنْ هَامَتْ روحُ الذُّبابةِ في جسدِهَا الجَدِيدِ، وبعدَ أنْ أَشْرَفَتْ على الهَلَاكِ تحتَ وَطْأَةِ الإنْهَاكِ ولم تَظْفَرْ مِن الدَّوَرانِ في صَحَرَاءِ اللَّحْمِ الشَّاسِعَة إلَّا بِأشواكِ الدَّهْشَةِ وأُوَامِ التَّوَهَانِ ودُوَارٍ لا يُشْفِقُ، وبعدَ أنْ أَحَاقَتْ بِهَا مَخَالِبُ أسئلةٍ تَسْتَعْصِي على الإحْصَاءِ وتَسْتَأْنِس بِنَزِيفِ فَرَائِسِهَا، قَرَّرَتْ رُوحُ الذُّبابةِ ما يَلِي:
“ليستْ الحياةُ نُزْهَةً ولا دروبًا مُعَبَّدَةً حُفَّتْ بالأزهارِ. حسنًا، الفِيَلةُ تحيا أيضًا، حياةً أفضلَ مِن الذُّبابِ. حسنًا، وأنا… كيفَ فاتَنِي التحوُّل إلى فِيلٍ، اللعنة…”
وهكذا بدأَ الأمرُ.

٣
بينما كانتْ الحشرةُ تنظرُ حَوْلَها بعينَيْهَا الفِيلِيَّتَيْنِ المُتَرَعَتَيْنِ بالحنانِ، لاحظتْ كوخًا قديمًا مُتَدَاعِيًا تَصْفِرُ الرِّيحُ عبرَ شقوقِهِ الشَّدْقَاءِ وكانتْ نافذتُهُ الوحيدةُ تَشِعُ بريقًا مَألُوفًا لها.
“سوف أزحفُ فوقَ الزُّجاجِ مَرَّةً واحدةً لا غيرَ.”
زحفتْ فَتَهَشَّمَ إطارُ النَّافِذَةِ ولَمْ يَبقَ مِنَ الكوخِ إلَّا كومةٌ مُبَعْثَرَةٌ من الحُطَامِ.خَفَقَ الفِيلُ ذو الرُّوحِ الذُّبابيَّةِ بأُذُنَيْهِ وَتَمْتَمَ:
“وَا لَهْفَتَاه!”
كانَ الرَّبيعُ في ذلك الوقتِ يَنْشُرُ رَحْمَةَ ضَحِكِهِ رَوْنَقًا بَهِيًّا على الأرضِ: كانتْ الجِنِّيَّةُ تسيرُ بخطواتٍ عطوفةٍ تَمَسُّ العُشْبَ مَسَّا فلا تَنْحَنِي نِصَالُهُ إلى الأرضِ تَحْتَ عَقِبَيْها الرَّهِيفَيْنِ، وكانتْ تُمَلِّسُ بَتَلَاتِ البَرَاعِمِ وَتُقَوِّمُها في دأبٍ بأصابعِهَا الرَّقِيقَةِ؛ لهذا السَّببِ كان الأزهارُ تَتَفَتَّحُ وتَجْهَرُ بشذاها. وكانت الأوراقُ اللَّزِجَةُ لأشجارُ البتولا تَبْذُلُ قُصَارَى جهدِهَا كَيْ تَكْتَنِزَ مِن الخُضْرَةِ ما تَخْتَالُ بِهِ أمامَ العيونِ.
تَأمَّلَ الفِيلُ ذو الرُّوحِ الذُّبَابِيَّةِ والحِسِّ المُرْهَفِ قائلًا:
“يا لها مِن شجرةِ بتولا فَاتِنَةٍ!”
سَعِيدًا يُهَزْهِزُ قَوَائِمَهُ المُتْخَمَةَ بالبَهْجَةِ: تمايلتْ شجرةُ البتولا النَّحِيلَةُ، وتَأَوَّهَتْ، وهَمَسَتْ بشيءٍ ما بأوراقِهَا التي غَالَتْهَا يَدُ الذُّبُولِ ببطءٍ قاسٍ، ثُمَّ مَاتَتْ.
بينما كانَ الفيلُ الذُّبابةُ واقفًا في سكونٍ على قوائمَ أربعٍ غائراتٍ فِي الرِّمَال،ِ طَفَقَتْ تَتَنَاوَشُ نَفْسَهُ هواجسُ مُبَرِّحَةٌ: تَدَهْدَهَتْ على خرطومِهِ المُتَهَدِّلِ دموعٌ لافحةٌ، حتَّى تَهَاوَتْ على الأرضِ تَتَرى: وكانت كلُّ دمعةٍ مِن الدُّمُوعِ التي ذَرَفَهَا كَفِيلةً بأنْ تُهْلِكَهُ غَرْقًا، مَا لَمْ تكنْ المُعْجِزَةُ الرَّعْنَاءُ قد حَلَّتْ بِهِ وحَصَّنَتْهُ بِلَعْنَتِهَا.
خَفَقَ القَلْبُ المذعورُ للفيلِ الذُّبابةِ صائحًا “أليست هي؟ أليست هي؟ أليست هي؟”، واستجابةً لتَضَرُّعِ قَلْبِهِ، شَرَعتْ تُرَفْرِفُ -في صَفَاءِ الزُّرْقَةِ الرَّبِيعيَّةِ ذاتِ النَّسِيمِ العَلِيلِ- أجنحةٌ غشائيَّةٌ بالغةُ الضَّآلةِ مُنَمْنَمَةٌ بخيوطِ الشَّمْسِ الذَّهَبِيَّةِ، فإذا بِهَا أجنحةُ مَنْ شُغِفَ الفِيلُ ذو الرُّوحِ الذُّبابيَّةِ بِعِشْقِهَا قَبلَ أنْ تُلِمَّ بِهِ المعجزةُ.
فجأةً صار الربيعُ أعظمَ بهاءً كأنَّهُ نَفْحَةٌ مِن الفِرْدَوْسِ هَبَطَتْ إلى الأرضِ، وصارتِ الشَّمْسُ أشدَّ سطوعًا كأنها شمسانِ، فَمَدَّ خرطومَهُ –وقد كَفْكَفَتِ السَّعَادَةُ سُؤْرَ الدُّموعِ التي خَضَّلَتْهُ- إلى أجنحةِ مَعْشُوقَتِهِ. لم يقتصر الأمرُ على خرطومِهِ، إنَّما تَشَبَّثَ بمعشوقتِهِ واحتضنَها برُوحِهِ وجسدِهِ مُتَشَوِّقًا إلى لذَّةِ ما كان بينهما مِن مُدَاعَبَاتٍ فيما مَضَى.
لحظةٌ مِن النَّشوةِ الغامرةِ… وَوَقَفَ الفيلُ الذُّبابةُ مُرْتَجِفًا -بائسًا مصعوقًا، وعيناهُ تُحَمْلِقَانِ في رُعْبٍ لا حَدَّ لَهُ- وَقَفَ ينظرُ إلى بقعةٍ سَوْدَاءَ تحتَهُ، ويتفرَّسُ فيما عَلِقَ بها مِنْ أجنحةٍ. اِنْتَفَضَتِ الأجنحةُ مرَّةً، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ خَمَدَتْ بلا حِرَاكٍ.
صُعِقَ الكائنِ الحبيسِ وَقَدْ اِسْتَبَدَّ بأذنَيْهِ هَزِيمُ رُعُودٍ رَهِيبةٍ كأنَّها نَفَخَاتُ الصُّورِ، واندفعتْ رُوحُهُ في جسدِهِ الهائلِ كما لو كانتْ تحاولُ أنْ تَنْقُفَ جِلْدَهُ الرَّمَاديُّ الصَّفِيقُ وتَنْفُذَ مِنهُ، لتَتَحَرَّرَ مِنْ جدرانِ زنزانةٍ مَنْحُوتةٍ في قَعْرِ هَاوِيَةٍ مِن اللَّحْمِ.
“كفى… أريدُ العَوْدَة إلى بيتي، إلى الصَّدْعِ القديمِ المُعْتِمِ الذي كانَ لي مَلْجَأً وحِصْنًا.”
٤
ماذا وقعَ بعد ذلك؟ لَمْ يحدثُ شيءٌ ذو شأنٍ.
بعدَ أنْ بَحَثَ الفيلُ ذو الرُّوحِ الذُّبَابيَّةِ في شتَّى أرجاءِ الأرضِ وزَلْزَلَ الكَوْكَبَ كُلَّهُ في سَعْيِهِ المَحْمُومِ مُثِيرًا نَقْعًا في إثرِ نَقْعٍ -حتَّى كادَ يَحْجُبُ وَجْهَ السَّماءِ طُوفَانٌ من غُبَارٍ يَنْبَجِسُ مِن قَوَائِمِهِ التي يَنْخُسُها الحَنِينُ- عَثَرَ في نهايةِ المطافِ على الصَّدْعِ الضَّيِّقِ المُتَعَرِّجِ المألوفِ الذي كادتِ الرِّمَالُ أنْ تَطْمِرَهُ: وَجَدَ أخيرًا بيتَهُ القديمُ.

سَعَى جاهدًا إلى الزَّحْفِ إلى داخلِ الصَّدْعِ، لكنْ للأسفِ حَبَطَ سَعْيَهُ. كان الصَّدعُ يُنَادِيه بصوتٍ هامسٍ خفيضٍ، لكنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَهُ بالدُّخُولِ.
وهكذا لا يزالُ الفيلُ الذُّبابةُ إلى يومنا هذا، يَتَجَرَّعُ مَرَارةَ مأساتِهِ، واقِفًا فوقَ الصَّدْعِ القديمِ الذي يَعِدُهُ بالدِّفْءِ والطُّمَأنِينةِ، عاجزًا عن الانسلاخِ مِنْ انتظارِهِ العُضَالِ وقد أَعْجَزَتْهُ جميعُ السُّبُلِ؛ فلا سبيلَ لَهُ إلى ربيعِ المَدَى الرَّحيبِ ولا سبيلَ لَهُ إلى حِضْنِ صَدْعِهِ الحَبِيب.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد