فقه السياسة الشرعية، تأطير لواقع أم رؤية شرعية؟ – بقلم: د. أحمد فهمي عبد السلام
د. أحمد عبد السلام

يرى الماوردي أن العامة ليسوا منوطين باختيار الإمام، إنما إذا أنعدم وجود إمام (خليفة/أمير/سلطان/ملك) خرج من الناس فريقان أحدهما هم أهل الاختيار والثاني أهل الإمامة.
لا يسعنا الحديث عن الإسلام وأصول الحكم، دون أن نتناول الباب الفقهي لهذا الموضوع وهو ما يعرف بفقه السياسة الشرعية، أو كما سمي حين أنشئ بالأحكام السلطانية أو أحكام الإمامة.
وأنه مما أشتهر إلى أن بلغ رتبة الإجماع أن أبا الحسن الماوردي حين كتب وصاغ الأحكام السلطانية إنما وضعه بأمر من الخليفة العباسي حين أدرك تفاقم سلطات الوزراء وأمراء الجند، فجاء كتاب الأحكام السلطانية للماوردي منظرا لسلطة الخليفة العباسي كالسلطة الأم التي لا يعلوها سلطة في بلاد المسلمين وأن من هم دون الخليفة فإنما سلطتهم هي بتفويض منه فهو من يمنحها وهو من يمنعها، ودون الامتثال لسلطته فسلطة الغير لغو لا شرعية لها.
ويعد أبو الحسن الماوردي بمثابة الأب للأحكام السلطانية كأحد الفروع الفقهية. فلم يسبقه في التأليف فيها مؤلف وإن كان له فقيه حنبلي معاصرا له هو أبو يعلى الفراء من فقهاء الحنابلة وكان يصغر عن الماوردي في العمر 16 عاما وقد ألف كتابا حمل الاسم ذاته الأحكام السلطانية. وكان كالماوردي قاضيا في بغداد وعالما مقربا من الخليفة العباسي.
وممَّا يلفتُ النظر وجودُ شَبهٍ بين كتاب أبي يعلى وكتاب “الأحكام السلطانية”؛ للماوردي، أو كما يقول الشيخ محمد حامد الفقي، محقق كتاب الفراء:
“إنَّ الإنسان يَزداد عَجبًا حين يجدُ عبارة المؤلِّفَين تكاد تكون واحدة، لولا أنَّ أبا يعلى يذكر فروعَ مذهب الإمام أحمد ورواياته، ويَذْكر الماوردي مذهب الشافعيَّة وخلاف المالكية والحنفية، ويزيد أحاديثَ وآثارًا عن الصحابة والتابعين في تأييد مذهبه”، واستطرد قائلاً: “وكان عصرُهما عصرَ تنافُسٍ وتسابق في العلم والتأليف، فلا ندري أيهما بدأ بكتابه أولاً، ولا ندري أيهما حذا حذوَ الآخر ونَهَج منهجه، فإنِّي لَم أقفْ على ما يحقِّق ذلك ويُبيِّن وجْهَ الحق فيه، فإنَّه بعيد كل البُعد أنْ يكونَ كلٌّ منهما ألَّفَ كتابه دون أي صِلةٍ بالآخر، مع ما بين الكتابين من التوافُق”.
لكن من الراجح أن كتاب الماوردي أسبَقُ، ويؤيد ذلك ابن رجب الحنبلي، وابن حجر العسقلاني. ولسنا هنا للحديث فيمن له السبق، ولكن للتأكيد أن القضايا العليا كالإمامة والأحكام السلطانية هي من الأمور فوق المذهبية. فلا يسعنا القول بأن رأي الحنابلة ذاك أو رأي الشافعية كيت. بل أننا قد نجد اختلافا بين علماء الشافعية وبعضهم البعض ولا نجد اختلافا بين المالكية والشافعية أو الحنبلية والأحناف. بل أنني ما زلت أذكر كيف عاد وذاد أستاذي في أن الماوردي الشافعي كتب الأحكام السلطانية للخلفاء العباسيين الأحناف.
فقه الأحكام السلطانية أو الإمامة أو السياسة الشرعية هو كما ذكرنا ذات الباب الفقهي وهو يبحث مسألتان كلاهما في شرعية السلطة، أحدهما ممن يستمد الحاكم وأجهزته التنفيذية والقضائية والرقابية سلطاتهم، وثانيهما يربط ما بين الشرعية والشريعة أو هل تلك السلطات المذكورة تتفق وأحكام الشريعة.
أما المبحث الأول، فيتناوله الماوردي تناولا فقهيا فيرى في وجوب الإمامة فرضية دينية وعقلية وأنها دينيا فرض كفاية على من يقوم بها وعقدها لمن هو أهل لها واجب على الأمة.
وبتنصيب الإمام تسقط عن غيره ممن هو أهل لها، وبمبايعة الإمام تنعقد له سلطاته اللازمة لأداء واجبه في حراسة الدين وسياسة الدنيا تفويضا، ولما كان الإمام كفرد لا يستطيع أن يؤدي كل تلك المهام بذاته فعليه أن ينتدب ويفوض من يقوموا بتلك المهام وبذلك ينتقل جزء من سلطات الإمام إلى عماله تفويضا.
ويرى الماوردي أن العامة ليسوا منوطين باختيار الإمام، إنما إذا أنعدم وجود إمام (خليفة/أمير/سلطان/ملك) خرج من الناس فريقان أحدهما هم أهل الاختيار والثاني أهل الإمامة.
أما أهل الاختيار فيجب أن يجتمع فيهم ثلاث خصال:
- العدالة الجامعة لشروطها
- العلم
- الرأي والحكمة
وهذا يعني أن الاختيار ليس لأهل الحل والعقد أي أن ليس ذوي السلطان من يختار السلطان لكن اجتماع الخصال الثلاث المذكورة هو من يمنح أهل الاختيار سلطتهم في انتخاب السلطان كفرض واجب عليهم من منظور ديني.
أما أهل الإمامة فيضع الماوردي لهم سبعة شروط وهي:
- العدالة على شروطها الجامعة
- العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام
- سلامة الحواس
- سلامة الأعضاء من أي نقص معجز
- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير مصالح الأمة.
- الشجاعة والنجدة لحماية البيضة وجهاد العدو
- النسب وهو أن يكون من قريش وذلك لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه.
وما يهمنا في نقاشنا هذا هم الشرطان الثاني والسابع. فوفقا لما جاء به الماوردي على الإمام أن يكون مشتغلا بالعلم الشرعي بدرجة الاجتهاد وهذا ما قد يتفق في الصدر الأول من خلافة بني العباس، ولكن جاء بعدهم من خلفائهم من لم يشتغل بالعلم وهذا يستوجب استوزار العلماء من أهل الفقه والشريعة، فكأن الماوردي وهو ينظر لسلطات الإمام يرفع بمنزلة العلماء ويؤسس لولاية الفقيه، كما يزاوج بين الدين والدولة بحيث جعل صلاح أحدهما في صلاح الآخر حين جعل الدين محروسا بسلطان الإمام وسلطان الإمام جاريا على سنن الدين وأحكامه.
أما الشرط العاشر فقد جاء ضامنا لعدم تعدي أهل المناصب على الإمام حين رأى الضعف الذي صار عليه الخلفاء العباسيين.
فكأن الماوردي يأطر لواقع يعايشه ويفسر فيه مفهوم السلطة وشرعيتها على نحو يخدم استمرار الخلافة العباسية.
ولذا نرى نقدا للماوردي ونظريته في الإمامة عند من جاء بعده من فقهاء الشافعية كالجويني والغزالي والآمدي.
ومن أهم ما جاءوا به أن قرار أهل الاختيار هو وفق لمبدأ الغالبية البسيطة أو الكثرة كما سماها الغزالي، وأن سلطة الإمام تنعقد ببيعة أهل الاختيار، ولكن لا تتم إلا بالبيعة العامة على السمع والطاعة.
مع سقوط بغداد سقط الكثير مما ورد في نظرية الماوري فذهب جمهور أهل السنة إلى أنه إذا تغلب أحد الناس على منصب الإمامة وأخذه قهرا بما له من شوكة دون مراعاة اختيار الناس ورضاهم أن الإمامة تنعقد لمن تغلب سواء توافرت فيه شروط الإمامة أم لم تتوفر، حتى لو كان فاسقا أو جاهلا. فيقول ابن تيمية: فمتى صار قادرا على سياستهم، بطاعتهم له أو قهره لهم فهو ذو سلطان مطاع. ويقول ابن حجر: أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء.
ومما سبق فإن ما يسمى بفقه السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية لا يمكن الاعتداد بها كرؤى شرعية لمفاهيم لها جذورها وامتداتها ولكن استجابة لسياقات سياسية في واقع متغير. وهو ما دفع علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم إلى اعتبار الخلافة نظام غريب عن الإسلام ولا أساس له في المصادر والأصول الإسلامية وإن كنت أرى في كتابه رؤية سياسية وفق سياق وواقع يعايشه مثل كل ما كتب في فقه السياسة الشرعية من تأطير لواقع بلا رؤية شرعية يعتد بها.
يمكنك الاستماع لتسجيل صوتي للمحاضرة علي راديوا تفكير اضغط هنا
فيديو المحاضرة:
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد