هل أفكارك حقًا… أفكارك؟ … بقلم: مروة هجرس

بقلم: مروة هجرس

marwa-hagras هل أفكارك حقًا… أفكارك؟ ... بقلم: مروة هجرس

ذلك الكائن الذي تحمله كتفاك… نعم، ذاك الذي تسميه “رأسك”.
هل تفحصت مؤخرًا سكانه؟ هل طرق أحدهم باب تفكيرك وسألك: “من أين جاءت هذه الفكرة بالضبط؟”
الآن، وأنت تقرأ هذا السؤال… فكرة جديدة بدأت تتسلل إلى رأسك كقطٍّ خفيف الخطى، هل لاحظت؟
هل هي فكرتك فعلاً؟ أم جاءت إليك من ثقبٍ صغير في جدار المجتمع؟
ربما تسلّلت عبر كتاب “ملهم”، أو إعلان مزعج على يوتيوب، أو “بوست” على إنستغرام عن الحرية كتبه أحدهم وهو يحتسي اللاتيه في فرع من فروع شركة عالمية ترعاها الرأسمالية ذاتها التي يشتمها.
هل تظن أن قرارك بأن تصبح “نباتيًا” أو أن تتبع نظام “الكيتو” هو لحظة وعي غذائي حقيقي؟
أم أنك فقط غيرت نظامك لأن بودكاست بصوت رجولي عميق قال لك إن القمح هو إبليس الذي يسكن داخل الرغيف؟
وهل اقتناعك بأن الهواتف القابلة للطي “ثورة تكنولوجية” جاء بعد تحليل معمّق لمستقبل الأجهزة الذكية؟
أم بعد إعلان على تيك توك، تلاه فيديو آخر لصديقك الذي لا يقرأ البريد الإلكتروني، لكنه فجأة صار خبيرًا في الابتكار التقني ويقنعك أن الشاشة المطوية هي “مستقبلك المهني”؟
وحتى إن اخترت ألا تختار، فهذا في حد ذاته—مفاجأة! —فهو غالبا اختيار اقترحه عليك كتاب تنمية بشرية عنوانه “دع الحياة تقرر”.
اسأل نفسك السؤال الأخطر:
من أول “اسمك” الذي استيقظت عليه دون أن يُستفتى رأيك، مرورًا بدينك ولهجتك و”لونك المفضل” الذي غالبًا ما اختارته لك غرفة نومك وأنت في الخامسة، وصولًا إلى نوع أحلامك، وأهدافك اللامعة، وحتى ميولك السياسية التي تظن أنها نابعة من “وعي”، وذوقك في المسلسلات الذي يتغير بتغير الترند… كم من كل هذا كان نتاج قرار حر؟
وكم منها زُرع فيك تلقائيًا، كما تُحمَّل التطبيقات الأساسية في هاتف جديد، دون أن يظهر لك حتى خيار “رفض التحميل”؟
دعني أخبرك بسرٍّ صغير: رأسك، يا صديقي، ليس قصرك الخاص كما تحب أن تتخيل… بل هو على الأرجح منزل مهجور.
دخله البنّاؤون الأوائل من أهل ومدرسة ومجتمع، وغادروا بعد أن رتبوا الأثاث، وعلّقوا اللوحات، وكتبوا شعارات على الحائط مثل:
“افعل كذا لتكون محترمًا”،
“لا تفكر في كذا فهذا عيب”،
“من يشذ عن الجماعة فقد ضلّ الطريق”.
وغادروا… وتركوك تعيش فيه، تظن أنك المالك، بينما لا تملك حتى النوافذ.
بل إن رأسك ليس مجرد غرفة، بل غرفة مرايا.
كل مرآة منها تعكس لك صورة لا تخصك، لكنها معدَّة مسبقًا، ومحفوظة باسمك في أرشيف الهوية الوطنية.
مرآة تقول لك إنك ناجح إذا كنت ترتدي بدلة وتعمل من التاسعة إلى الخامسة وتبكي ليلاً بصمت.
مرآة أخرى تخبرك أن الحب الحقيقي لا يأتي إلا بعد الثلاثين، ويفضل أن يكون مرتبًا في جدول “أولوياتك”، بعد القرض السكني.
مرآة ثالثة، هذه مرعبة فعلاً، تهمس لك: “كل ما تؤمن به… أنت اخترته بحرية”.

يا صديقي، إنهم أذكى مما تظن.
يزرعون فيك حتى أفكار المقاومة، ويتركونك تتخيل أنك البطل


مرآة رابعة تقول لك: “اقرأ كثيرًا لتصبح مثقفًا”، لكنها تنسى أن تخبرك بأنك غالبًا ستكرر ما قرأت، لا ما فكرت.
ولا أحد يكسر هذه المرايا. بل يُنظفها يوميًا ويقف أمامها في خشوع، وربما يعلّق تحتها عبارة مطرزة تقول: “أنا حر”.
العبقرية الحقيقية في السيطرة ليست أن تُجبر أحدًا على فعل شيء، بل أن تُقنعه أنه هو من اختار أن يفعله.
أن تعطيه بطاقةً مكتوبًا عليها: “أفكارك الخاصة”، بينما هي في الحقيقة مطبوعة منذ السبعينات، على ورق حكومي أصفر، في مطابع وزارة التربية والثقافة والأديان والعادات والتقاليد.
ثم يأتي أحدهم ويقول لك بحماسة مراهق في مظاهرة أولى:
“أنا قررت أغير كل أفكاري!”
فأصفق له وأقول: “رائع… فقط سؤال بسيط—من تحديدًا نصحك بتغييرها؟ وهل تأكدت إن فكرة التغيير نفسها ليست مجرد النسخة 9.1 من نفس البرمجة القديمة؟”
يا صديقي، إنهم أذكى مما تظن.
يزرعون فيك حتى أفكار المقاومة، ويتركونك تتخيل أنك البطل، بينما الحقيقة أنك فقط انتقلت من زنزانة كلاسيكية بقفل حديدي إلى زنزانة “مودرن” مزينة بأضواء نيون ولوحة مكتوب عليها: “Be Yourself”
وفي النهاية، وقبل أن تصرخ بكل ثقة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود!”
ربما عليك أن تهمس أولًا:
“أنا أفكر… لكن لحظة، من يفكر بي؟”

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات