الناسي.. قصة قصيرة.. بقلم جورج فريد

man in black and white stripe dress shirt sitting on chair in front of macbook

بقلم جورج فريد

d8acd988d8b1d8ac-d981d8b1d98ad8af-150x150 الناسي.. قصة قصيرة.. بقلم جورج فريد

المشهد الأول

_ بقيت بتنسي كتير.. قال الصوت المألوف.. وترددت في الرد .. كانت تحضرني عدة إجابات وأخذت أفأضل بينها 

_ كلنا بننسي

_لأ مابنساش .. علي الأقل مش أكتر منك 

_عندك حق .. و لازم اشوف طريقة تقلل النسيان 

 كانت قد غادرت الغرفة دون أن تنتظر ردا و أغلقت خلفها الباب ومع ذلك ظللت أفاضل بين الردود المحتملة فلعلها ستعود سريعاً.

 و لكن لماذا قالت هذا ؟ أو ماذا كان سياق الحديث حتى قيلت تلك الجملة؟ فكرت قليلا فلم اتذكر كلمة واحدة قبل ذلك.. و إذا فهي محقة فعلا.. مهلاً من هي؟ بل من انا؟ وأين نحن؟

 و كأنني كنت في غفوة واستيقظت علي جملتها.. ليس تمام الاستيقاظ و لكن بداية الوعي والانتباه. ولأول مرة أخذت أنظر إلى نفسي وإلي المكان الذي أنا فيه.. إنها حجرة مكتب وأنا جالس على كرسي مريح خلف المكتب الفخم الضخم.. فماذا افعل هنا؟

 سأغمض عيني قليلا و اتنفس بعمق عدة دقائق و عندما افتحهما ثانية ينتهي هذا الموقف الغريب.. لكنه لم ينته. لقد فقدت الذاكرة و العجيب أن أول ما تذكرته بعد استنتاجي الصادم كان فيلما سينمائياً بطله فاقد للذاكرة وإسمه حسن وبه تمثال لقط أسود.. يتحطم التمثال وتعود الذاكرة لحسن الذي لم يعد حسن وعودة الذاكرة لم تكن في صالح البطلة التي أحبت البطل الناسي وساعدته.

 حسنا.. الذاكرة لم تفقد تماما.. بقيت آثار يمكن تتبعهأ واستعادته‍ا.. أين شاهدت هذا الفيلم؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومع من؟ لاحت في الخلفية أطياف باهتة وسرعان ما اختفت. ومع زيادة الاجتهاد في محاولة التذكر زاد البهتان وقصرت مدة حضور الأطياف.

 فكرت في حلين.. الأول إعلان فقداني للذاكرة و طلب المساعدة.. و الثاني التحايل لاستنتاج الضروري عني وعن عملي و عائلتي وظروفي. و بسرعة استبعدت الأول وفضلت الثاني.

 سأقلب الأوراق التي علي مكتبي وهي ستشي ببعض المعلومات النافعة وسأبحث عن مرآة و أنظر فيها وعند النظر قد اتذكر كل شيئ أو ربما بعض الاشياء فقط. و لأبدأ بالمرآة. و قبل أن أتوجه إليها حاولت تخمين عمري. و قدرته بما بين الأربعين والخمسين.. والمرآة وشت بنحو عشر سنوات أكثر.. و الملامح بدت مألوفة لكن غير دالة. والأوراق التي علي المكتب أقل دلالة.

 سأستعين بالسكرتيرة.. كنت قد قررت أنني مدير وأنها سكرتيرتي .. سأفتح الباب الذي خرجت منه وأجدها جالسة إلي مكتبها و أستدعيها و أدردش معها بود وحذر.

المشهد الثاني

 فتحت باب حجرة مكتبي بهدوء و جلت بنظري في تأن في القاعة الواسعة المقسمة في تصميم حداثي بفواصل زجاجية إلي مكاتب للموظفين .. تصميم يقصد الجمع بين الشفافية واحترام الخصوصية .. وتذكرت فيلما آخر  .. فيلم قديم كوميدي عرى مساوئ الحداثة قبل أن تبدأ يتوه البطل فيه بين فواصل المكاتب التي يمكن تحريكها للانتفاع المثالي بالحيز.. نحو نصف المكاتب كان خال و مكتبها كان الأقرب إلى بابي بدون فواصل في فسحة شغلت مساحة ثلث القاعة. أومأت إليها و كانت أول من لاحظني و لعلها كانت تراقب الباب من قبل أن أفتحه فنهضت بسرعة لم أتوقعها ولحقتني قبل أن أغلق الباب و دخلت في إثري إلي حجرة المدير.

 لم أجلس إلى المكتب لكن علي أريكة جلدية من طراز كلاسيكي في جانب الحجرة الذي شغلت جداره مكتبة نصف خالية.. وهي جلست على الكرسي الأقرب للمكتب بعد أن أدارته ليكون في مواجهة أريكتي .. و بدأ الحديث بسرعة..

_ تعرفي إن كان عندك حق لما قولتيلي إني بقيت بنسي كتير ؟

_ عارفة

_ بنسي أكتر مما تتصوري 

_ بس انت متعرفش حدود تصوراتي

_ ممكن الحدود دي توصل لفين ؟

_ ل إنك ناسي إسمي مثلا.. 

 نظرت إليها بحيرة مستريبة

_ و إسمي أنا كمان 

 لم تندهش و علقت بإقتضاب

_ كان فيه مقدمات

_ علي ايه ؟

_ علي إنك هتفقد الذاكرة 

 أدهشني الرد و أدهشني أكثر أنها ثبتت نظرها علي لكنني واصلت

_ أظن أن فقدان الذاكرة بيحصل بدون مقدمات.. المقدمات بتكون مع الألزهايمر .

_ انتقلت الدهشة إليها وواصلت

_ لكن هاسترجعها.. وأنتي هتساعديني 

_ أكيد هتسترجعها.. لكن متهيألي الطب هيساعدك بشكل أفضل 

_ مش عاوز استرجعها بالطب لكن بطريقتي 

_ اللي تشوفه 

_ عندك استعداد تجاوبي علي شوية أسئلة بصراحة و صدق مهما كانت الإجابة غير متوقعة و جارحة؟

_ حتي فقدان الذاكرة مغيرش حاجة في قسوتك

_ معقول ؟ متهيألي إني إنسان طيب.. لكن دي نقطة هنوصل لها بعدين.. عندك استعداد؟

_ انت تقريباً بتطلب مني إني أدين نفسي.. وأنا الضحية 

 و ارتسم في عينيها حزن عميق و كادت تطفر منها الدموع لكنها تماسكت ورسمت شبح ابتسامة.  

 _ تحت أمرك طبعا.. ما انت تقدر تقطع عيشي 

 ووسعت ابتسامتها قليلاً .. و أنا تنبهت لكم هي جميلة و لسحر نظرتها عندما تختلط فيها المشاعر لكني ركزت جهدي علي ألا تفسد علي مفاجآت ردودها و سحر نظراتها خطتي ..الخطة التي وضعتها للعثور على نفسي بنفسي.

المشهد الثالث

_ اسمك

_ ريهام

_ ونا بناديكي ب ايه ؟

_ ريم و ريما و ريها و ريري

_ نعرف بعض من أد أيه ؟

_ سنتين

_ و دا عمر الشركة برضه؟

_ تمام

_ علاقتنا تجاوزت نطاق العمل؟

_ بكتير

_ لأي حدود؟

_ لآخر المدى

_ والمبادرة كانت من أي طرف؟

_ صعب التحديد

_ هل وعدتك بشئ و مانفذتش؟

_ لأ … وبعد فترة صمت… أنا اللي وعدتك و مقدرتش أنفذ

_ ياريت ماتتطوعيش بالإجابة على أسئلة ماتسألتش .. لكن الأول لازم تقولي وعدتي بإيه و مقدرتيش تنفذي.

_ حاضر.. ممكن أسأل أقدر أعمل لي واحد قهوة و هقول لك علي الوعد وأنا بعمل القهوة

_ ممكن طبعاً.. ويبقي كرم أخلاق منك لو عملتيلي واحد معاكي

_ كنت هاعمل من غير ما تقول

لم تغادر الغرفة و لكن تقدمت باتجاه المكتبة و في إحدى خاناتها كانت ماكينة صغيرة لعمل القهوة وأعدت فنجالين و بلهجة شبه آلية قالت أثناء ذلك: وعدتك أنك لن تندم إن أقدمت على علاقة خاصة معي وإني أحلك من أي التزام وسأتركك ترحل وقتما تريد بدون كلمة عتاب ولما أبديت رغبة الرحيل لم أف بعهدي .. وبدون أن تسأل وضعت لي السكر و قدمت الفنجان وفاق ضبطه توقعاتي.

_ إحنا عندنا مشاكل في الشغل؟

_ لأ .. لو فيه مشكلة تبقي قلة الشغل

_ يعني معرضين لخساير أو إفلاس؟

_ مفتكرش لكن حتي لو حصل مش هتفرق معاك

_ ايه طبيعة شغلنا؟

_ احنا بنقدم اسنشارات من كل نوع.. والشركة اللي حضرتك صاحبها برضه مفتوحة برسمال صغير أوي بالنسبة لثروتك.. و كده ولا كده كنت ناوي تعتزل علي نهاية السنة.

_ ممكن تكلميني شوية على صفاتي النفسية من غير ما تتعرضي لمعطياتي البيوجرافية؟

_ أحاول .. انت غالباً بتكون سلس و سهل و مرن و دوغري و مبتحبش المساومة و أحيانا بتكون صعب وقاسي وعنيد فوق التصور.. وانت عموما جيد التقدير و حساس ولكنك لست بلا اخطاء ..  أحيانا تثق بالمحتالين بكل سذاجة و تشك في بعض الشرفاء بإصرار بدون مبرر

_ لما بكون قاسي و عنيد ب أظلم ولا دايما أتوخي العدل.

_ ساعات الظلم بيكون أرحم بكتير من العدل اللي بتتوخاه من وجهة نظرك..

_ يظهر اننا وصلنا لنقطة شايكة أو ملغومة في العلاقة.

_ ايه رايك نخرج نتغدى في مكان هادي و نكمل بعد الغدا؟

_ موافقة

_ هاعزمك ولا هتعزميني؟

_ لا هذه ولا تلك.. هنتغدي علي حساب الشركة في المكان اللي بتحبه

_ و عادي إننا نخرج سوا كده قدام الموظفين؟

_ احنا بنعمل كده تقريباً كل يوم.

بعد الغدا الذي أعجبني و الذي تكفلت هي بطلبه بدون أن تحاول استشارتي خيرتني بين مواصلة الحديث في مقر الشركة أو في شقتها أو في شقتي و طمأنتني أن مفاتيح الشقة معها ووجدته الاقتراح الأفضل ووصلنا بسيارتها إلي سكني المتواجد في كومباوند هادئ غير بعيد عن المطعم ومقر الشركة.

لم اتعرف على معالم الشقة و هي شرحت لي أين يوجد كل شيء. كنت متعبا ورأسي ثقيل جدا يغالب النعاس بما لا يخفى و اعتقدت أن رغبتي في مواصلة الاستجواب كفيلة بتبديد رغبة النوم.. وهي اقترحت ان تعد لي كوكتيلا لطيفا إن لم يساعد في انعاشي فعلي الأقل سيساهم في تحسين جودة نومي ووعدت بأنها ستبقى بجواري إلي أن أستيقظ.

لا أستطيع تذكر شئ إلا نظرات عينيها و انا ارتشف المشروب السحري الذي أعجبني طعمه وتأثيره.. و عندما استيقظت قرب ظهيرة اليوم التالي فيما أظن وجدت علي الكومودينو بجوار فراشي الوثير ورقة مكتوب عليها التالي:

عزيزي ماجد.. ولعلك تتذكر اسمك الآن دون عون ولا مجهود .. لا تقلق بشأن ضعف ذاكرتك ناهيك عن أن تكون فقدتها.. سيعود إليك كل ما كان مألوف لك بإختفائي من حياتك. انصحك بالبقاء حيث أنت عدة أيام عندك كل ما تحتاجه.. إشرب الماء بكثرة حتي يزول أثر الأدوية النفسية التي جعلتك تتجرعها دون أن تدري في الفترة الأخيرة و التي أوصلتك لتلك الحالة. قضينا ليلة أخيرة رائعة سأذكرها و أذكرك بها إلي نهاية العمر .. تصافينا وتراضينا واعترفت لك بما فعلت وسامحتني وسامحتك وتوادعنا في سلام بعد أن اطمأننت لأنك بدأت تستعيد ذاكرتك.. كتبت هذا فقط لاحتمال ألا تكون متذكره عند استيقاظك. ربما.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com

اشترك في صفحة تفكير الثقافية لتصلك مقالات تفكير اضغط هنا

تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات