بيفكر بالصيني؟!! كيف تُشكّل لغتنا رؤيتنا للعالم؟…بقلم مروة هجرس

بقلم: مروة هجرس

marwa-hagras بيفكر بالصيني؟!! كيف تُشكّل لغتنا رؤيتنا للعالم؟...بقلم مروة هجرس

في ساعة مغربية هادئة، كنا نجلس على سطح المنزل، حيث تلتقي الريح بأفكار لم تجد بعد مكانًا لها في الطابقين السفليين من منزلنا الريفي. هناك، بين حبال الغسيل القديمة وهوائي التلفاز الذي لم يعد يلتقط إلا الغبار، كان أخي محمود يتأمل شاشة هاتفه المحمول بنظرة تجمع بين الانبهار والارتباك، كمن اكتشف لتوه أن الحياة قد تكون مجرّد معادلة حسابية مكتوبة بخط رديء.
سألته بفضول عفوي:
– ما بك؟
ردّ وهو يمرر يده على رأسه بعصبية فكرية مألوفة:
– أتدرين؟ أظن أن صديقي طارق أصبح يفكر بالصينية !
ضحكتُ، فقد ظننتها واحدة من نظرياته الغريبة التي لا تنتهي، لكنّه لم يبتسم. بل أدار وجهه إليّ بجديّته الكونية المعهودة، وقال:
– منذ بدأ دورات اللغة الصينية، تغيّر كل شيء. لم يعد يتحدث كأي بشر. صار لا يرد على سؤال إلا بعد فحص نغمة الصوت، ولا يختار مفردة إلا بعد التأكد من جذرها اللغوي. صار يمشي في الشارع فيراه رسوماً بيانية، وعلامات تشبه الطلاسم. حتى عمّتنا، تلك السيدة التي لا تعرف إلا الشاي والسُكّر، صار يسميها: “الأنثى القاطنة في المنزل المجاور، المهتمة بالأرز المطهو على البخار وحراسة الحلة الكبيرة”.
ضحكتُ مجددًا، لكن شيئًا في كلماته بدأ يتسلل إلى رأسي مثل بعوضة فلسفية تعرف جيدًا أين تلسع. لم أعد واثقًا إن كانت اللغة وسيلة للتواصل … أم طريقة مؤدبة لنتبادل الجنون ونصرخ بما تنطق به عقولنا بلا صوت مسموع.

اللغة ليست وعاءً… بل المطبخ بأكمله!


لا تخطئ الظنّ. اللغة ليست مجرّد وسيلة للتعبير عن الأفكار، بل هي العدسة – الملوّنة لا الشفافة – التي نطلّ بها على العالم. عدسة مغموسة في ثقافتنا، مطلية بطباعنا، ومشوّهة أحيانًا بإحباطاتنا وأحلامنا المؤجلة.
حين نولد، لا نولد بأفكار. بل نولد بأصوات تتحول تدريجيًا إلى كلمات، ثم إلى معانٍ، ثم إلى تصورات نرثها دون أن نختارها. تُربّينا اللغة كما نرتّبها. ومن ثمّ، فإن اللغة الأم لا تعلّمنا فقط كيف نتكلم، بل تهمس لنا بما يستحق أن يُفكّر فيه، وما يمكن تجاهله بضمير مرتاح.


محدودية الفكر؟ أم محدودية اللغة؟


لنفترض أنك شعرتَ بشوقٍ غامض لطعام والدتك في مرحلة الطفولة، بينما تتناول بيتزا فاخرة الآن. ذلك الإحساس الذي يشدّ القلب ولا يعرف طريقًا للفم، لا يمكنك التعبير عنه إن لم تكن لغتك تملك كلمة مثل “حنين” أو “nostalgia”. وإن لم تجدها، فستقول على استحياء: “أريد بيتزا بطعم الذكريات”.
وما لا يُسمّى، لا يُفكّر فيه بوضوح.
وما لا يُفكّر فيه، يبقى هائمًا في الضباب…
زائرًا غامضًا يتجلى في الحلم ويغيب في الواقع.

الكلمات تولد في مصانع الحضارة

بعض الكلمات لا يمكن ترجمتها دون أن تفقد أرواحها.
خذ مثلًا الكلمة اليابانية “Wabi-Sabi”، والتي تعني – إن جاز القول – “جمال النقص وعدم الاكتمال”. أكاد أجزم أنه لا توجد لغة تستطيع احتضان معنى هذه الكلمة بالكامل، لأنها ثمرة حضارة قضت قرونًا تتأمل الشقوق في فناجين الشاي وتبتسم.
حتى الحب… له لهجاته.
اسأل ألمانيًا عن معنى الحب، فيقول لك: Liebe وستشتمّ في صوته رائحة النظام والالتزام.
اسأل فرنسيًا، فيغمض عينيه ويقول: L’amour وسيحكي عن قبلة تحت المطر.
أما العربي، فسيجيبك بتنهيدة ثقيلة: “الحب؟! وجع، ولهفة، ولوعة”.
كل لغة تُعرّف الحب بطريقتها، وترى العالم من خلال عدستها.
اللغة تحدد ما هو ممكن
الطريف – أو المرعب – أن اللغة لا تصف فقط ما هو موجود، بل تحدّد أيضًا ما هو ممكن.
في إحدى لغات الأمازون، لا وجود لأرقام تتجاوز “اثنين”!
واحد، اثنان، ثم… “كثير”.
هذه ليست مصادفة لغوية، بل نظارة فكرية لا ترى التفاصيل، فقط الكتل.
هل يمكن التفكير بلا لغة؟
طالما أحبّ الفلاسفة أن يتظاهروا بالحيرة أمام الأسئلة الكبرى، ومن بينها السؤال الذي لا يموت:
هل الفكر يسبق اللغة، أم أن اللغة تلد الفكرة؟ ثم خرجوا علينا بجملة تبدو عميقة على سطحها:
“اللغة وعاء الفكر.”
نعم، فاللغة لا تحمل الفكرة برفق، بل تمسكها من ياقة عقلها، تُعيد ترتيبها، تُقصّرها أو تُطيلها حسب قواعد الذوق والصرف. اللغة لا تحمل الفكرة فقط، بل تقطعها، وتعجنها، وتشكلها حسب الذوق الثقافي العام.
فكلما اتّسع قاموسك، ازدادت أفكارك رشاقة ودقّة، وصارت أفكارك أقرب إلى خطاب موزون.
وكلما ضاق، صارت أفكارك كمن يحاول التعبير عن قلق وجوديّ بكلمة: “مممم”.

الموسيقى… لغة أخرى تتحدث لهجاتنا
يظنّ البعض أن الموسيقى عالمٌ صامت من النغم، لا علاقة له بالكلمات، لكن الحقيقة، أن اللغة تتسلّل خفية إلى الموسيقى، فتؤثر في نَفَسها، في آلاتها، في مزاجها العام. كأنّ اللغات لا تكتفي بتشكيل عقولنا، بل تُعيد تشكيل آذاننا أيضًا.

الموسيقى الشرقية… تحن وتئن

تأمّل في اللغات السامية؛ كالعربية، والعبرية، والفارسية (نعم، نُدرج الفارسية مجازًا ضمن العائلة، رغم أنها تنتمي رسميًّا إلى العائلة الهندو-أوروبية، لكنها – كما تعلم – ابنة عمّ لغويّة من طرف العِشرة). اجمع هذه اللغات الثلاث، وأنصت جيدًا لأصواتها: حاء، خاء، غين، عين… أصواتٌ حلقية دافئة، كأنها خارجة من أعماق التاريخ، من جوف مغارة يسكنها شاعر ضائع يبحث عن قافية تليق بالمأساة.
وبمصادفة لغوية – أو لعله قدَر صوتيّ لا مفر منه – تجد أن موسيقى هذه الشعوب تسير على ذات النغمة.
تستمع إلى العود، فتظن أنك تستمع إلى اللغة نفسها، وقد تحوّلت وترًا.
تسمع القانون، فتخال أنك تقرأ بيت شعرٍ مكتوب بخيطٍ من حرير.
وحين ينوح الناي، تظنّه ينطق بالعربية الفصحى، لكن من نسخة محفوظة في ديوان العصر العباسي.
ولِمَ العجب؟
فالأذن – كالعقل – تألف النغمة التي نشأت عليها. وحين تألف الصوت، تبدأ في تشكيل موسيقى تشبهه.
فالموسيقى هنا ليست وجدانًا فحسب، بل لهجةٌ صوتية، تنطق بها الأرواح حين تُعجزها الكلمات.

إفريقيا… حين تنطق الطبول

في غرب إفريقيا، حيث الناس يتكلمون بلُغاتٍ تَطرُق وتَصُفق، تكون الموسيقى أقرب إلى جسدٍ يتحرّك منها إلى لحنٍ يتراقص.
الطبلة هنا ليست آلة موسيقية، بل شخصٌ يتحدث. الإيقاع هناك ليس مجرد موسيقى، بل نظام حياة.
كل ضربة على الطبل هي إعلان وجود، وتصريح صريح:
”نحن هنا… وسنبقى!”
والمفارقة الأجمل؟ أن الموسيقى هناك تشبه الناس الذين يعزفونها: قوية، جريئة، لا تعتذر عن نفسها.
وهذا ليس فنًا فقط، بل فلسفة: صوت يُعلن الوجود حين صمتت الألسنة.

آسيا… الموسيقى تهمس بنسيم الهايكو


في الشرق الأقصى، تجد اللغات ناعمة، الأصوات فيها ترتفع وتنخفض كما لو أنك تقرأ قصيدة “هايكو” على ضوء القمر.
الموسيقى اليابانية والصينية لا تُغني، بل تهمس.
وآلة الشاكوهاتشي تبدو كأنها تقول “كونيتشيوا” على مقامٍ شجيّ.
وكأن الثقافة هناك قررت أن تجعل حتى أوتارها تنحني لتصافح أذنك، كأنهم قالوا للموسيقى: “تحدثي مثلنا، ولا ترفعي صوتك”.

أوروبا… لحنٌ منطقي بلهجةٍ فرنسية

ثم نصل إلى أوروبا، حيث لكل شيء نظام، حتى المشاعر.
موسيقى باخ تُشبه جملة ألمانية معقّدة لكن دقيقة.
بينما تتراقص موسيقى باريس وكأنها تقول “Je t’aime” على أطراف أصابعها.
ولا ننسى موسيقى البلوز، حيث يُغنّى الأفارقة في المهجر أحزانهم وكأنهم يقولون:
“لم نستطع الحديث… فغنّينا”.
هلوسة فلسفية أخيرة
ماذا لو كان العود هو الحنجرة البديلة للعربي حين يُمنع من الغناء؟
وماذا لو كانت الكمان تعبيرًا عن لهفة فرنسي فقد حبيبته في محطة قطار؟
ماذا لو كانت الطبلة فم الإفريقي حين أُغلقت أمامه كل أفواه الحُرية؟
وماذا لو كانت كل آلة موسيقية… امتدادًا لصوت الإنسان، بعد أن سكتت اللغة؟
حين تغني اللغة… وتصمت الكلمات
اللغة تتسرّب إلى الموسيقى كما تتسرّب الألوان إلى الماء.
تُغيّر النغمة، تؤثر في السكتة، بل تُحدّد حتى نوع الشجن.
في المرة القادمة التي تسمع فيها لحنًا يبكي، لا تسأل “من يعزف؟”
بل اسأل:
“بأي لغة يتكلّم هذا العزف؟”
لعلّك تكتشف أن الصوت ليس موسيقى فقط، بل حديث بلغة لم تُكتب بعد.
عدستك ليست مرآة
اللغة، في نهاية المطاف، ليست مرآة… بل عدسة. تكشف لك العالم كما خُلقت لرؤيته، لا كما هو. وكل كلمة جديدة تتعلمها، هي نافذة تُفتح. وكل لغة جديدة تتقنها، هي رحلة إلى وعيٍ آخر. فقط لا تنسَ، في كل هذه الرحلات، أن تحمل نفسك معك… حتى لا تضيع في الترجمة.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com

تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات