قصة يوم تخرجي … بقلم: د. زينب توجاني

بقلم: د. زينب توجاني

d8b2d98ad986d8a8-d8aad988d8acd8a7d986d98a قصة يوم تخرجي ... بقلم: د. زينب توجاني

بدأت قصتي في صباح يوم مشمس من أيام جوان…
لكن، لم تزقزق فيه العصافير،
لأنها كانت تحتمي من شمس الظهيرة التي بدأت مبكّرًا… في حيّ القرجاني.

كنتُ أتمشى،
حين بلغني من كلية الآداب “رسالة مضمونة الوصول”، تفيد بأني متوّجة بجائزة، ومرشّحة لما هو أكبر منها. لحظةٌ لا توصف. لكن، كأيّ خرّيجة… كان لا بدّ أن أفكر: ماذا سألبس يوم التتويج؟ فكّرتُ في نفسي: سأشتري بآخر منحة جامعية ثوبًا جميلاً. وتوجهت إلى وسط العاصمة… مشياً على الأقدام، من مبيت “دار المعلمين العليا”.

قضيتُ المساء كله أتأمل الواجهات والملابس المعروضة…
هذا فيه فتحة من فوق، وذاك فيه شقّ من تحت، وذلك أصغر مني، وذاك أكبر مني. قليلة كانت الملابس التي أعجبتني… وشرط الإعجاب كان بسيطًا:
أن يرضي أبي.

كان أبي في سنة 2000 يحاول إقناعي بمرضاة الله.
وأنا؟
أحيانًا أرضي الله…
وأحيانًا الشياطين…
وأحيانًا الشياطين كانت تغلبني،
لأن الملابس آنذاك لم تكن موجهة لإرضاء الملائكة والرسل والأنبياء…
ولا لتخريج أمهات المؤمنين.

كنتُ حقًا حائرة:
نجحتُ في الأستاذية، بملاحظة “حسن”،
بمعدّل يستحقّ أن أفرح لأجله،
أن أفتخر…
لكن كان عقلي يقول لي:
“ما دام ما عندك من مالٍ إلا قليل… فاشتري ما طاب لك، وانتهى الأمر.”

فتوجّهت إلى الأسواق التي تبيع ملابس أقلّ جودة وأقلّ كلفة…
وأخذتُ أبحثُ فيها عن ثوب
يُخفي اليدين، والساقين،
وكل مظاهر الأنوثة التي… لم أكن أعرف بوجودها أصلًا!
(لأسباب تتعلق بنظام الدراسة في دار المعلمين العليا، هههع).

وأخيرًا،
عثرت على ثوب لا يخفي كل شيء.. لكن … لا باس به..
لا تنخدعوا…
الصورة كانت تُخفي الحقيقة!
كان الثوب موجّهًا للعرائس الجدد،
اللواتي يضعن دوائر حمراء على الخدّين
ويحسبن أنهن في قمة الجمال.
ولا أعرف…
ما الذي أصابني لأفعل بنفسي ذلك؟
حقًا، لا أعرف.

كان عندي ثوبان راقيان، اشتريتهما من باريس،
حين قضينا تربصًا هناك في السنة الماضية…
ولم ألبسهما كثيرًا،
لكنّهما كانا يُبرزان شيئًا…
شيئًا كان يجب أن أخفيه عن العالم…
عن أبي، خاصة.
فحرمتُ نفسي من الأناقة الباريسية،
واشتريت بثمانين دينارًا،
(نعم، في سنة 2000، ثمانون دينارًا كانت ثروة)،
ذلك الثوب الموجّه لعروس وجنتيها محمّرتان…
وفي أعلى الكتفين؟
قطعة من “الوقاف” ترفع الكتفين إلى أعلى…
لا تخافوا! نزعتهما لأجعل اللباس أكثر بساطة، هههه.

والمهم…
تخيّلتُ نفسي: “أحلى أستاذة عربية في دفعة 2000”.
ثم؟
لم أخبر أبي.
أردت أن أضع أحمر الشفاه،
وأن أرسم الدائرتين على خدّيّ،
وأن أفرح لنفسي.
قصدت أقرب حلاقة،
عملت لي “صيفة جبدة” بخمسة دنانير (مصروفي لأسبوع!)
وتأنقت للمناسبة…
وتأبطتُ ذراع رجل،
كان رفيقًا لسنوات…
ثم مضى، كما تمضي الأوقات الحلوة والمرة،
في مهبّ الريح.
وحين رآني، قال لي:
“علاه عاملة الحمير هذا الكل؟”
فقلت له:
“والله اليوم تخرّجي! لا فرحت في باك، لا في الأستاذية، لا في الدخول لدار المعلمين… حتى اليوم؟!”

ثم…
مشيتُ إلى الكلية، محمرة ومغبرة..
وقلت للأرض:
“اتهدي، ما عليكِ قدّي!”
ومن وجدت أمامي؟؟؟؟
أبي. ههه
لم أستطع أن أمحو شيئًا من على وجهي…
قال لي:
“علاه عاملة في روحك هكّة؟”
وصمت…
ركضتُ إلى المرحاض،
ومسحتُ الحمير والغُبير…
وعُدتُ صفحةً بيضاء.

فرحَ بي أبي…
فرحًا لا يوصف.
فرح بي أساتذتي…
وفرحتُ بنفسي.
وفي تلك اللحظة،
قال لي أبي… لأول مرة بتلك النبرة:
“أنا فخور بك.”
وكان ذلك كافيًا.

يوم-تخرجي-زينب-توجاني-576x1024 قصة يوم تخرجي ... بقلم: د. زينب توجاني

أما الصورة؟
فقد حُذف منها جزء…
صار من الماضي.
لكن…
الحياة تستمر.
نعم،
تستمر…
لأني بنتُ مشكاة الأنوار.
وكلما وقف طالبٌ أمام المشكاة متباهِيًا بنجاحه،
استمرت حياتي في تباهيه،
حتى… لو كنتُ تحت الأرض، لا فوقها.

أنا أحبّ من هذا العالم أشياء كثيرة:
البهاء،
السماء،
الصباح،
الورد،
القطط، ومشكاة كلية الآداب…
لأنها…
أكبر من كل شيء.

أخيرا..:
كل واحد فيكم  كان أو سيكون ذات يوم تلك الفتاة التي تمشي مترددة في شوارع العاصمة بحثًا عن ثوب يليق بنجاحها، فلا تخافوا من الارتباك، ولا تترددوا في الفرح، وكونوا دائمًا أبناء وبنات مشكاة الأنوار…. بجميع المعاني المحتملة..
اعملوا بجد وافتخروا من كل قلوبكم …

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com

تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات