مركزية المكتبة في تشكيل عقل الجامعة .. بقلم: د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
أستاذ فلسفة التاريخ
اليمن

منذ وصلت هولندا وأنا أحاول التحقق من معاني المفاهيم التي عرفتها عن النهضة الإنسانية والحداثة وما بعد الحداثة وكل يوم اكتشف المعنى الحقيقي للمفاهيم المجردة التي عرفتها سابقا في مشهد أفلاطوني حقيقي، أدركت أن المعرفة تذّكر إذ كنت أشبه بالخارج من كهف أفلاطون حينما اكتشف العالم الحقيقي الذي لم يكن قبلا يرى إلا أشباحه وظلال كائنات المتحركة. كانت مزودا بالمعرفة من عالم المثُل فإذا بي أتذكرها كلما شاهدت ما صدقها في الأشياء في عالم الممارسة الحياتية اليومية المباشرة. وأنا أرى الجودة الأكاديمية تتنضد أمام بصري في الواقع الحي الفوري المباشر.
وتداعى إلى ذهني مقال سبق وأن كتبته عن العلاقة بين العقل والجامعة هاكم مقتطف منه؛ سأل التلميذ جون والده ريتشارد: ما هو العقل يا أبي .. أريد أن ارأه ؟ فتحيّر الأب في إيجاد جواب مقنع لسؤال ولده الذكي، ولكنه فكّر بطريقة ملهمة وقال: غداً سأجيب عن سؤالك يا تلميذي النابه !
وفِي صباح اليوم التالي أصطحب الأب ابنه الى الجامعة وزار به معظم كلياتها ومكتباتها ومختبراتها وأقسامها وإدارتها وقاعاتها وساحاتها ومرافقها وشاهدا طلابها وطالباتها وأساتذتها وبعد أن أكملا الزيارة. سأل الأب ولده قائلاً: الآن قل لي يا جون ماهي الجامعة ؟
قال: الإبن بذهول لم أرها بعد يا أبتي! وأضاف كل ما رأيته هو كليات ومكتبات وطلاب وطالبات وقاعات وكراسي وطاولات ومعلمين ومعلمات وكل الأشياء التي شاهدناها معاً.
فرد عليه والده ريتشارد برافو عليك يا جون الجامعة هي كل مارأيت والكل أكبر من مجموع أجزاء ومن هنا جاء معنها في اللاتينية Universities التي تعني Corporation أي الجسم كله، وقد ظل معناها حصريا ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities أي الجامعات.
إذ كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها ومكوناتها فرادى.
من الواضح أن كلام ريتشارد الأب عن معنى الجامعة هو أكبر من قدرة تلميذه على استيعابه. ولكنه بهذه الطريقة البارعة استطاع أن يثير حالة من التفكير والتأمل الخلاق في ذهن طفله الصغير ممهدا بذلك السبيل لتفهيمه معنى العقل الذي يستحيل رؤيته بالعين المجردة، بوصفه مفهوما مجردا يعبر عن مجموعة من العناصر والفعاليات والعلاقات العضوية المترابطة في شبكة هائلة من العلاقة (دماغ وخلايا عصبية وفصوص وشعيرات وحراس وإحساسات وانفعالات وادراك وذاكرة ووعي وخيال،وأحلام ولغة وكلام ..الخ.) إذ يبدو العقل مثل الجامعة تماما بوصفه مجموعة عناصر ونشاطات وتفاعلات لملايين الخلايات والشعيرات العصبية الحية في جسم الإنسان العاقل.
وكما أن الجامعة هي نتاج ترابط وتفاعل كل هذه الأجزاء التي تتكون منها فكذا هو العقل حصيلة ونتاج مجموع عناصره وعلاقاتها التفاعلية! وكما إنه يصعب تخيل العقل دون جهاز مركزي يغذي الجهاز العصبي بالتعليمات ويرسل ويستلم عبره الإشارات فكذلك يصعب تصور الجامعة دون مكتبة مركزية تغذي المكتبات الفرعية بالكليات بما تحتاجه من مصادر ومراجع ومجلات وحوليات وغير ذلك من الإصدارات المتجددة باستمرار.
لا وجود للعقل بدون الحواس والذاكرة، ولا وجود للجامعة دون المكتبات المفعلة والفاعلة. إذ تعد المكتبة بالنسبة للجامعة بمثابة الروح من الجسد بالنسبة للكائن الإنساني، ففيها كنوز العلم والمعرفة العلمية وخلاصة الحكمة والفكر والثقافة الإنسانية المتنامية منذ فجر التاريخ البشري.
وقد ارتبط التعليم الجامعة بالمكتبات العلمية التخصصية منذ تأسيس المؤسسة الأكاديمية الحديثة قبل ثمانية قرون، إذ كانت المكتبة التخصصية هي اللبنة الأولى في بناء الكليات الجامعية، وكان الشرط الأول لتأسيس الكليات الأكاديمية هو توافر مجموعة من المصادر والمراجع العلمية في التخصص المطلوب.
وهكذا تطورت الجامعة وتطورت معها المكتبات العلمية بحيث باتت تنقسم الى مجموعة من التخصصات والأجنحة المرتبة بحسب التخصصات العلمية التي تقوم الجامعة بتدريسها للطلاب في الكليات والأقسام العلمية.
وفِي سياق التنافس المحموم بين الجامعات المعاصرة، شهدت المكتبات الجامعية نقلة نوعية كبيرة بفضل التكنولوجيا الرقمية، إذ باتت معظم مكتبات الجامعات المركزية في كثير من مختلف الدول، هي مكتبات رقمية يمكن للطلاب والمعلمين زيارتها والدخول اليها وأخذ ما يحتاجون منها من مصادر ومراجع ومعلومات من الانترنت وهم في منازلهم أو في أي مكان كانوا وجامعة الإسكندرية خير مثال على ذلك .
ختاما تذكرت حيرة ابن رشد مع المعنى
وأنا اجمع المعنى من الشرفة العالية لجامعة أمستردام الحرة _ اقصد_ معنى الجودة الأكاديمية ومؤشراتها الفعلية خطرت لي محنة الفيلسوف العربي الأبرز أبن رشد لقرطبي أبو الوليد (1126 – 1198)م وحيرته بإزاء كتاب الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس 322ق.م وكتابه بويطيقا أو فن الشعر إذ أنه لو تمكن من زيارة اثينا في زمانه وشاهد المسرح اليوناني هناك لما كان توقف طويلا عند معنى مصطلحي (تراجيديا وكوميديا).

واليكم الحكاية:
كتب الأديب اللاتيني الضرير خورخي لويس بورخيس في وصفة محنة ابن رشد مع ترجمة كتاب الشعر لارسطو طاليس قائلا ” بالأمس وقف عند كلمتين مريبتين في بداية كتاب “الشعر” وهما “تراجيديا وكوميديا”. لقد وجدهما سنوات من قبل في الكتاب الثالث من “البلاغة”، لم يسبق لأحد في نطاق الإسلام أن خمن معناهما، وبدون جدوى، أتعب صفحات كتاب الإسكندر الأفروديسي، وبدون جدوى، قارن بين الترجمتين اللتين قام بهما النسطوري حنين بن إسحاق وأبو بشر متى، والكلمتان اللغزان تتررددان في كتاب الشعر يستحيل تلافيهما.
ترك ابن رشد القلم، وقال لنفسه (دون ثقة كبيرة) بأن ما نبحث عنه يكون عادة قريبا منا، خبأ مخطوط التهافت، واتجه نحو الخزانة حيث تصطف مجلدات كثيرة من كتاب “المحكم” للأعمى ابن سيدة منسوخة بأقلام خطاطين فرس، سيكون من باب الخداع أن نتخيل بأن ابن رشد لم يراجعها من قبل ولكن استهوته الآن لذة ورجع إلى تصفحها من جديد، وسمع صوتا رخيما نظر من الشرفة، في الفناء الأرضي الضيق فرأى بعض الأطفال يلعبون شبه عراة، كان أحدهم، واقفا على كتفي آخر، يمثل المؤذن بصورة بارزة : عيناه مغمضتان جيدا، وهو يتلو “لا إله إلا الله” أما الصبي الذي كان يحمله ولا يتحرك فكان يمثل الصومعة.
وكان الآخر راكعا على ركبتيه في الغبار، يمثل جماعة المؤمنين. استمر اللعب وقتا قليلا، فقد كان كلهم يريد أن يكون المصلين أو الصومعة، سمعهم ابن رشد يتشاجرون ويتعاركون في لهجة بريئة، يمكن القول إنها الإسبانية البدائية التي يتكلم بها عوام المسلمين في إسبانيا. فتح ابن رشد كتاب “العين” للخليل، وفكر بكبرياء أنه لا توجد بقرطبة (وربما الأندلس كله) نسخة أخرى من هذا المؤلف الكامل الذي أرسله إليه من مدينة طنجة الأمير يعقوب المنصور.
ذكره اسم هذا الميناء بأن الرحالة أبا القاسم الأشعري، الذي جاء من المغرب سيتناول في حضرته طعام العشاء هذه الليلة في بيت فرج عالم القرآن. يقول أبو القاسم إنه بلغ مهالك امبراطورية الصين، ويقسم المشنعون، استنادا على ذلك المنطق الذي يتولد عنه الحقد أنه لم يصل أرض الصين أبدا.
إن الاجتماع سيستغرق ساعات لا محالة ولهذا رجع ابن رشد إلى كتابة “التهافت” معجلا. وظل يعمل إلى حين الغروب” ( ينظر، خورخي لويس بورخيس، ابن رشد وقلق العبارة) والمعنى أن فيلسوف قرطبة العربي الذي لا تعرف ثقافته الفن المسرحي المرئي لم تسعفه اللغة وحدها من اكتشاف معنى الكلمتين اليونانيتين ( تراجيديا وكوميديا) في كتاب بويطيقا فن الشعر لأرسطو وهكذا دائما تحجب الثقافة المعنى. ولو أن ابن رشد يعرف المسرح لما نظر في كتاب العين للخليل ولكان أكتفى بمشاهدة تمثيلة الصلاة والأذان التي كان يؤديها الأطفال في فناء المنزل. فعلا الثقافة تحجب المعنى ومن عاش ولمس ليس كمن سمع ودرس. منذ وصلت هولندا قبل عشرة أشهر تقريبا لم اعد اكتب فيما يشبه بوصفها تعويذة لمقالتي. ربما ساعدتني المعرفة المكتسبة سابقا بالحضارة الغربية الحديثة وفلسفتها في رؤية كل ما أعيشه وأشاهده هنا ولآن بدهشة وحماسة.
التجمع يمني
كان يومًا بهيجا ومفيدا بالنسبة لي في أمستردام بوجود باش مهندس عماد اليافعي الذي أخذنا مشكورا بسيارته الجديدة من الجامعة إلى معرض الكتاب العربي في وسط البلد وعاد بنا إلى مدينة إقامة الشيخ محمد حسين القحوم الذي أصر مشكورا على عزمتنا في منزل صديقه وحيد الأبي على وجبة يمنية يافعية كريمة. وهناك شاهدنا مباراة فوز هولندا على بريطانيا مع جمع كريم من شباب اليمن الطيبين الذين غمرونا بلطفهم الجميل. ودمتم بخير وسلام.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد