ماذا ترك السلفيون لأبنائهم….بقلم: سماء معاوية

بقلم: سماء معاوية هيكل

screenshot-2024-07-24-at-13.28.00 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

يعتقد الكثير من سلفيي اليوم اعتقادًا جازمًا أن ما هم عليه من الناحية الفكرية والسياسية هو من الثوابت التي لا تقبل التعديل أو التغيير، في حين يؤكد الواقع التاريخي والممارسة العملية أن تلك الثوابت هي محض تصورات ظرفية من وحي السياسة والاجتماع وحتى الثقافة التي سادت، فسلفية الأمس ليست كسلفية اليوم ليست كسلفية الغد ولا تقتصر على السلفية الدينية، حتى يمكننا أن نعتبر السلفية ابتداءًا تأتي كفكرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عند عدم الحيلة فنستدعي القديم،  تباينت الرؤى حول مفهوم الدولة والمواطنة والعدالة الاجتماعية والإصلاح والحكم منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وحتى اليوم  فالتحولات التي مر بها الفكر السلفي على مدار أكثر من قرن من الزمان ليست صادمة بقدر ما هي كاشفة عن طبيعة المفاهيم وعن الإيديولوجيا كيف تتشكل وبم تتأثر، فسلفية أحمد حسين (١٩١١-١٩٨٢) السياسية رأت في استدعاء النموذج الإسلامي وسيلة لإيقاظ في مصر الهرمة مصر الفتاة، فعلى جنود مصر الفتاة تقع تبعة بعث المجد القديم، أما سلفية محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥) ورشيد رضا (١٨٦٥-١٩٣٥) فقد حاربت التقليد لأجل توسيع مساحة الاجتهاد وإتاحة فرصة لبناء نظام سياسي واجتماعي حديث متأثرة بأجواء الانفتاح والصراع الثقافي آنذاك بينما رأت سلفية حامد الفقي    (١٨٩٢-١٩٥٩)، وعبدالسلام الشقيري(١٩٠١-١٩٥٢) وما تلاها من جيل صحوة السبعينات، رأت من خلال حربها على التقليد ضرورة استدعاء النموذج الوهابي والذي به يتحقق الإصلاح والتمكين الاجتماعي ابتداءًا ثم الحكم، لكن كل سلفية تظهر كإيديولوجيا تاريخية إصلاحية حاولت أن تجيب عن هموم زمانها بتقديم تأويلات متباينة للنصوص لتوافق حاجة الواقع وهي بالطبع مرشحة لتأخذ تأويلات اخرى في المستقبل.

نشأ هذا التيار وهو في حالة تدافع مع تيارات أخرى  مثل التيار الليبرالي المفتون بالحداثة الغريبة  والتيار الاشتراكي الذي يتأثر بالغرب بشكل انتقائي نقدي، نشأ ليعبر عن وجوده بتقديم النموذج الإسلامي السلفي كحل هوياتي مستقل عن الغرب عن طريق التأسيس لنموذج إصلاحي شامل السياسة والتربية ففي السياسة يتحقق الإصلاح عبر الحاكم بمراقبته ونصحه وإقناعه تارة أو التحريض على الثورة ضده وممارسة الضغوط حتى يذعن تارة، فكان الموقف من الحاكم خادم لفكرة الإصلاح وليس العكس، أما الجانب التربوي فقد أكد على أن بناء الأمة وتطورها سيكون بتكوين الصفوة المستنيرة تلك الصفوة التي تقود الأمة وقد حاول رشيد رضا آنذاك إنشاء مدرسة دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة والتكفل بكل ما يحتاجونه عام ١٩١٢ في جزيرة الروضه بحي المنيل، واستعان بالدولة العثمانية وقتها لطلب الدعم المادي للمشروع لكنها لم تستجب حتى قامت الحرب العالمية وتعطلت عن العمل.

screenshot-2024-07-30-at-17.57.09 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

أخذت الحركة الاصلاحية السلفية بعد ذلك شكلًا أكثر جدية، فلم تكن مجرد نزعة عاطفية لا تدرك مغزاها وغايتها بل كانت لها وجهة اجتماعية واقتصادية واضحة فأخذت تميل إلى تأصيل الأفكار الاشتراكية التي سادت  وظهر ذلك عند الأفغاني الذي حاول نقد الاشتراكية الغربية والدعوة لاشتراكية إسلامية والإمام محمد عبده أيضا الذي انحاز للعمال المضربين عن العمل ببعض فتاواه.

ثم ذهب رشيد رضا الى أبعد من ذلك فتناول بعدًا أكثر جدية لتحقيق الإصلاح وهو أن يتم عبر  السياسة، فبعد انهيار الدولة العثمانية عمل الملك عبد العزيز على تدعيم شرعيته الإسلامية من خلال استمالة الرأي العام بدعم مفكريه أمثال رشيد رضا وقد رآى رشيد رضا  في ذلك الدعم وتلك الدعوة من الدولة السعودية تحقيقا لحلم وجود سلطة سياسية دينية قوية، حتى قال عن السعودية أنها هي الدولة الدينية بحق وحكومة الإصلاح السياسي المرتجى، ولم يدخر وسعا في نشر الفكرة السلفية الوهابية بل خاض بسببها معارك كثيرة رصدها في كتابه المنار والأزهر.

تشابكت العلاقة مع السعودية تشابكا عميقا وتعمقت علاقة رشيد رضا بفوزان السابق سفير المملكة بمصر كما كانت هناك الكثير من الاجتماعات  التي تهدف إلى البحث عن سبيل لخروج الأمة من كبوتها.

screenshot-2024-07-25-at-17.42.22 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية
صورة يظهر فيها رشيد رضا مع فوزان السابق و عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين والشيخ أبو الوفا التفتازاني والأمير نواب بهادر يار جنك من إمارة حيدر أباد الإسلامية بالهند، وغيرهم من دعاة الإصلاح في القرن الماضي.

screenshot-2024-07-25-at-17.45.55 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية
مجلة المصور ١٢ مايو ١٩٢٦

على الجانب الآخر، سادت مفاهيم مماثلة في الواقع السياسي آنذاك، فبعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك تحويل تركيا لجمهورية وإلغاء الخلافة، أصبح المسلمون بدون خليفة لأول مرة، وأراد الملك فؤاد الفوز بهذا اللقب، بحجة أن مصر كانت مقرًا للخلافة كما أن جده محمد علي باشا كان حاكم للحجاز وعلى الجانب الآخر، رآى عبد العزيز بن سعود أنه الأحق بالمطالبة بهذا المنصب خاصة بعد انتصاره على الهاشميين واستيلائه على منطقة الحجاز بالكامل، وبأمر من الملك فؤاد دعا الأزهر لحضور مؤتمر بالقاهرة وقد تم برئاسة شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، وعدد كبير من الشيوخ وبعض المدنيين المهتمين لبحث أمر الخلافة واختيار خليفة جديد للمسلمين، حتى أن رشيد رضا كتب في الترويج لمؤتمر الخلافة في مارس من عام ١٩٢٣ قائلا ” إن المؤتمر سيضم علماء الدين والدنيا من كل الأمم  الإسلامية، خاصة أن مهمته هي وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التي يظهر فيها علو التشريع الإسلامي واختيار خليفة وإمام للمسلمين”.

d8a3d8add985d8af-d8add8b3d98ad986 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية
أحمد حسين

اتخذ أحمد حسين ” الله الوطن الملك” شعارا له في محاولة منه لخلق مواءمات تفسح طريقًا لتحقيق فكرته، فعندما أضاف كلمة “الملك” اطمأن القصر من ناحيتها وأمن جانبها واعتبرها حركة مساندة تؤيده في مواجهة القوى الأخرى.

هذا المجد القديم عند أحمد حسين أخذ أشكالًا عدة، منها إحياء الفكرة الإسلامية وهنا تأثرت الفكرة الإسلامية بالاشتراكية وفُسر الدين الإسلامي على أنه دين الاشتراكية والعدالة الاجتماعية فدعوته كانت ثورة على الأغنياء لاسترداد حقوقهم متمثلة في الزكاة، فتلك الدعوة  هي دعوة الإسلام وبرر استخدام القوة ممثلة في التنظيمات شبه العسكرية بأنها ثورة لتنفيذ أحد أركان الاسلام وهو الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله.

 واستغل أحمد حسين موجة التدين التي كانت تميز طابع الملكية آنذاك لخدمة الأغراض السياسية حتى ادعي أن الملامح شبه العسكرية إنما هي من وحي اهتمام الإسلام بالقوة كما جاء في النص القرآني (وأعدو لهم ما استطعتم من قوة)، ثم بعد فشل مؤتمر الخلافة رشح الملك فاروق ليكن هو خليفة المسلمين.

وهنا قد يتشابه أحمد حسين مع الجماعات الإسلامية في الإتيان بنوع جديد من التفكير والذي يقوم على التكتل السياسي من أجل دعوة دينية أو وطنية عن طريق تأليف تشكيلات أو تنظيمات متماسكة تشمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها مع الجمود في التمسك بالدعوة والتعصب لدرجة الخصومة مع المخالفين.

سادت فكرة العروبة أيضًا وتبناها أحمد حسين، حيث رأى ضرورة قيام تحالف بين الدول العربية بتوحيدها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وتشريعيًا لتحرير البلاد من كل نفوذ أو سيطرة أجنبية وتحقيق حلم الاستقلال، وهذا الطرح يوازي الخطاب السلفي السائد آنذاك الداعي إلى وحدة المسلمين ونبذ الفرقة والاختلاف وطاعة ولي الأمر في المنشط والمكره، وتحريم التحزب فهو من لوازم حفظ الدين والتمسك بالهوية فبوحدة العرب المسلمين تتحصن الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة فلا يكن للأعداء ثغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها دمًا.

سادت فكرة العدالة الاجتماعية في تلك الفترة، ويرجع أهمية طرحها إلى التدهور الاجتماعي والاقتصادي فبرغم تطور مفهوم الحق شكلا ليمتد لحرية العمل بعقود عمل حرة، إلا أن النظم الحديثة لم تؤت أكلها فبعد اختفاء نظام الطوائف الذي كان يعكس تنظيمًا اجتماعيًا وإداريًا من داخله بشموله كل من العامل ورب العمل مع كفالة انتقال هؤلاء لمرتبة أولئك ببلوغ حد معين من الكفاية والمقدرة، وبعد بدء محمد علي في تكوين جيشه وسعيه للإكثار من الصناعات الكبيرة لخدمة الجيش وانهيار الصناعات الصغيرة ولجوء الوالي للتجنيد الاجباري للعمال  باليومية إلا أن العامل الريفي لم يلق أية ضمانات لحفظ كرامته.

screenshot-2024-07-25-at-17.48.30 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

بعد إنشاء المحاكم المختلطة في عهد إسماعيل ومن خلال الاستثمارات الاجنبية نشأت صناعات حديثة وزاد الطلب على الأيدي العاملة التي وفدت من الريف حين عجزت الأرض عن توفير سبل العيش وهنا تكونت الطبقة العاملة ولكنها لم تستطع تنظيم صفوفها للدفاع عن مصالحها وإتاحة فرصة للوقوف على أساليب العمل الجماعي في مواجهة رأس المال بسبب التفرقة بين المصريين والأجانب والأجور المتدنية وساعات العمل المهولة.

كانت تتوالى الإضرابات ولكن عادة ما كانت تنتهي بمحاكمات وتهم الإخلال بالأمن والنظام وتعطيل عمل الشركات والمصانع حتى سرت الفرقة بين أبناء الشعب نتيجة التعصب السياسي والديني فأصبحت الحركة الوطنية مجرد مجموعة من النخب المثقفة ولم تنجح في تكوين جذور لها مع الطبقة العاملة ولا الفلاحين حتى توقف النشاط النقابي مع الحرب العالمية.

مع استمرار الركود الاقتصادي والسياسي وانخفاض الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة واستمرار ظروف العمل السيئة واضطرار العمال للقبول بشروط أكثر إجحافًا كانت تقوم عدة اضرابات وكانت وزارة صدقي باشا تقوم باتخاذ إجراءات متعسفة فتقوم بمنع العمال من دخول مقر الاتحاد ويقبض على بعضهم  وتتوالى  الدعوات لياتي البوليس مانعًا العمال من الاحتجاج ويعتقل البارزين منهم.

screenshot-2024-07-25-at-17.49.35 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

كان أحدهم هو عبد السلام محمد خضر الشقيري الحوامدي (١٩٠١-١٩٥٢)، بدأ الشقيري حياته عاملًا بمصنع تكرير السكر بالحوامدية، واختير نقيبا لعمال مصر فترة ترأس عبود باشا، شارك في الكثير من إضرابات عمال  شركة السكر في الفترة ١٩٣٦- ١٩٤٩ واعتقل عدة مرات، اتجه بعد ذلك إلى الاشتغال بالعمل الدعوي حيث رأى أن سبب تدهور الأمة هو غياب كلمة التوحيد، فأسس مع رفاقه الشيخ محمد صالح والشيخ أحمد السيد أحمد والشيخ محمد هيكل والشيخ عبد الواحد إدريس والشيخ طه الواصي، وابراهيم الخولي وغيرهم، أسسوا الجمعية السلفية المصرية، وقدموا التضحيات خلال حياتهم في سبيل شرح ونشر تلك الأفكار والهموم.

screenshot-2024-07-25-at-17.54.14 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

كتب الشقيري في السنن والمبتدعات والذي عرض فيه بدع الصلوات التي يقع فيها المجتمع، كما كان  أحد تلاميذ الشيخ رشيد رضا، وقد كان رشيد رضا معلمًا ناصحًا وناقدًا، حتى ذكر الشقيري أن رشيد رضا انتقد نقله لبعض الأحاديث من غير أن يعزوها إلى مخرجيها، وقد كان هذا النقد سببًا في اشتغال الشقيري بعلم الحديث، تعمقت صلة الشقيري بآل رشيد رضا حتى ذكر الشقيري  أن رشيد رضا أعطاه المجلة والمطبعة كملك له.

في ذلك الوقت ابتدأت تظهر الدعوات والمؤتمرات التي تعقدها جماعة أنصار السنة فكان عبد السلام  الشقيري نشطًا متحمسًا فيحضر كل ما كان يقام من ندوات ومؤتمرات تعقدها الجماعة ويلقي فيها الكلمات ناصحًا موجهًا ومبينًا لدعاة أنصار السنة المحمدية كيف يقومون بالدعوة بالأساليب الصحيحة.

screenshot-2024-07-25-at-17.51.37-1 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

كان يكتب في مجلة الهدي النبوي التابعة لأنصار السنة وعند ظهورها قال: أبشروا أيها المؤمنون بظهور الهدي النبوي وتحقيق التوحيد السماوي وبيان العقائد الثابتة الصحيحة السليمة والهداية القرآنية والحقائق الإسلامية وقد حقق الله تلك الأمنية على يد حامد الفقي (١٨٩٢-١٩٥٩) مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية عام ١٩٢٦.

توجهت تلك السلفية في مصر إلى التمكين الاجتماعي عن طريق النقد المباشر لمظاهر الابتداع والدعوة لاتباع نهج السلف من جيل الصحابة حيث رأوا فيه تحديثًا مسعفًا عن طريق عرض قواعد آمرة بالفعل وعدمه ومع سيادة روح الهزيمة كان المجتمع مستعدًا لاستقبال هذا الشكل من الدعوة كاستجابة لتسكين الألم الناتج عن الحق المهضوم. 

ركزت سلفية تلك الحقبة باعتمادها على تجربة السلفية في نجد كفكرة والتي كانت الأفقر اقتصاديًا كما الحال والأفقر معرفيًا وتم إرجاء سبب التمكين لهم بقوة العقيدة، فرأوا في التوحيد الحل الوحيد وأن إصلاح العقيدة أساس كل إصلاح وأن استقامة أعمال المكلفين وتصرفاتهم لا تصلح إلا بإصلاح عقيدتهم وتصوراتهم وطريقة تفكيرهم وأن المنهج السديد لاصلاح كلمة التوحيد هو في نبذ الشركيات من إقامة المساجد على القبور  والتحذير من الوقوع في بدع الزيارة والمناسك والنهي عن التوسل بالأولياء في تدافع وتصارع مع تيارات أخرى في النشاط  وحجم التاثير والاستقطاب والانتشار.

أما مرحلة الحكم فتأتي تالية بعد التمكين الاجتماعي بهدف حراسة الدين الذي تم التمكين له  على مدار تلك السنوات فلا بد من حفظه بإبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بكل الطرق وشتى الوسائل، والأمر الثاني حين يأتي تنفيذه بعد السيادة ينفذ بقوة قانون السلطة في سائر المعاملات ليحمل الناس على الوقوف عند حدود الله بازالة المنكرات.

تأثرت البلاد تأثرًا بالغًا إثر مقاومة الاحتلال  ونضع في الاعتبار تلك الجهود المضنية في النضال الحقوقي والسياسي والاجتماعي لأجل الاستقلال، لكن اعتباره مقدمة فيه خلط بين الوعي بسبب الظاهرة ونتائجها، يعني أن تتكرس الجهود لإبراز وتحميل حركة المد السلفي مسؤولية انحدار المجتمع الفكري والأخلاقي من قبل التيارات الأخرى هو فيه تجاهل لكون تلك الظواهر التي انتشرت كانت مجرد نتيجة وصوت ضمن أصوات تتدافع في مقابل تحقيق وجود وفاعلية في سياق اجتماعي وسياسي واقتصادي مأزوم أو أن نحمل حركة المد الاستعماري مسؤولية تخلف العالم العربي فيه تجاهل لحقيقة كيف أن عالمنا كان واقعا بشكل ما سهل لحركة الاستعمار تعميق هذا الخلاف وهذا الجهل وهذه الرجعية.

وفي السبعينات استعان النظام السياسي بالجماعة الإسلامية وأفرج عن الإخوان المسلمين وأعادهم إلى وظائفهم وعوضهم عن ترقياتهم ورواتبهم، لأنه رأى في الفكرة الإسلامية دعمًا للتصورات الاقتصادية والاجتماعية المتبناه وتحجيمًا لنشاط القوى السياسية الأخرى من الشيوعيين والناصريين تحديدًا لأن تلك التصورات كانت تشكل خطرًا على أهداف النظام.

screenshot-2024-07-25-at-17.58.41 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

في ذلك الوقت، كان للجماعة الإسلامية حضور طلابي في الجامعات  حيث رأوا في في نظام الاتحادات الطلابية تحقيقًا لفكرة وجود الطالب الجامعي الفاعل والمؤثر في مجتمع يتفهم قيمه وأهدافه ويساهم في تحقيق تطلعاته وآماله ويشارك في صناعة حاضرالأمة، فنظموا أنفسهم ودعوا المفكرين والعلماء المؤثرين في المجتمع حتى أن الجماعة الإسلامية فازت في انتخابات اتحاد الطلاب على مستوى الجامعات المصرية، فظهرت أنشطة على مدى أوسع ومع دعم النظام لها وتحجيم وتهميش للقوى الأخرى، كان لها التأثير الأكبر على الفتيات والشباب في الجامعات المصرية كما كان لها النصيب الأكبر من الحضور الفاعل والتظاهر في كل مكان فانطلق الشباب حاملين شعارات “إسلامية إسلامية لا شرقية ولا غربية”، مستدلين في ذلك بنصوص من القرآن والأحاديث النبوية وقصص من التاريخ تكن داعمة لتلك الغاية، كما ردّدوا في حماسة داعين الشباب المسلم للاصطفاف والتوحد قائلين:

ابتدأ الاخوان بجمع أنفسهم واستعادة نشاطهم، ولكن الجماعة الإسلامية بحضورها القوي شعرت أنهم منافس محتمل فناصبوهم العداء وقد كانوا العدد الأكبر والقوة الشبابية الفاعلة في المجتمع الطلابي خاصة بعد دعمهم من مشاهير خطباء مساجد الإسكندرية، اعترضت الجماعة الإسلامية على منهج الإخوان وانتقدوا ضعف اهتمامهم بمسائل العقيدة وضعف اهتمامهم بالسنن الظاهرة كما اللحية والجلباب، وضعف الثقافة الفقهية وغير ذلك.

حاول البعض تقريب الخلافات بين الإخوان والجماعة الإسلامية، لكن بعد حادث الفنية العسكرية عام ١٩٧٤ ومع غلو الأسعار ونزول الناس للشوارع في ينايرعام ١٩٧٧، وتلى ذلك اتفاقية كامب ديفد عام ١٩٧٩، واستضافة النظام لرضا بهلوي شاه إيران عام ١٩٧٩، هنا تشكلت عدة جبهات، ضمت الأولى بعض أعضاء من الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين والتي رأت أن نظام مصر مع تلك الأحداث يعلن خروجها من دائرة الجهاد فاتهموا النظام بوضوح بالعمالة للمحتل وانقلبوا عليه.

وفي ٣ سبتمبر١٩٨١ بدأت أوسع عملية اعتقالات منذ قيام النظام الجمهوري في مصر وامتلأت المعتقلات حينها بكافة الاتجاهات السياسية المعارضة  للنظام، كما ضمت أعضاء من الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين، ثم بعد حادث المنصة ضجت المعتقلات فرحًا بالتكبير ليبدو أنه صدامًا مع شخص الحاكم لا مع نظام حكمه، لتبدأ حملة أخرى من الاعتقالات شاملة كل شباب التيارات الإسلامية.

رأت مجموعة أخرى بعد تلك الأحداث في الانفصال عن الجماعة الإسلامية والابتعاد عن العمل العام أمانا أمنيًا وضمانًا لاستمرار الدعوة، كانت تلك مجموعة محرم بك أطلقوا على أنفسهم فيما بعد اسم المدرسة السلفية واختاروا هذا الاسم تعبيرًا وتأكيدًا على طبيعة تجمعهم التي تنأى بنفسها عن الصدام مع النظام؛ فحرّموا الاشتراك في النقابات العمالية أوالمهنية والأنشطة السياسية والترشح للمجالس النيابية وغير ذلك بل أنكروا على غيرهم من الجماعات الإسلامية التي تبيح ذلك، فتمسكت بتلك المبادئ واستمرت تقاوم هنا وهناك برعاية من الأجهزة الأمنيه أحيانًا أو الصدام معها أحيانًا أخرى.

screenshot-2024-07-25-at-18.16.11 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

بعد ثورة يناير والإطاحة بالرئيس محمد حسني مبارك ظهرت السلفية  بمختلف اتجاهاتها كفصيل منافس بقوة، لتكن تلك الفترة بمثابة جني ثمار الجهد في الدعوة خلال كل تلك السنوات.

أخرجت ثورة الخامس والعشرين من يناير الحياة السياسية في مصر من حالة الجفاف التي ألمت بها طيلة عقود لتفتح أبواب المشاركة السياسية أمام الجميع حتى وصل عدد الأحزاب الحاصلة على الترخيص الرسمي حوالي ستون حزبا وبعد مشاورات رأت “الدعوة السلفية” أنه حان وقت الظهور، وفي شهر مايو من عام ٢٠١١ وافقت لجنة شئون الأحزاب على الترخيص بالعمل السياسي لأول حزب سلفي يتم تأسيسه في مصر، ففرحت وغنت لذلك النصر والجبر بلهجة شعبية قائلة: 

screenshot-2024-07-25-at-18.18.49 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

بحلول خريف ٢٠١١  تضاعف عدد أعضاء الحزب وطرح مرشحين في جميع الدوائر الانتخابية وانتشرت ملصقاته في كافة محافظات وقرى مصر ليفوز بأكثر من ٢٥ بالمائة من مقاعد مجلس الشعب.

screenshot-2024-07-25-at-18.17.51 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

أوحت السلفية في البداية بالقدرة على التنظيم والحشد بشكل اقتربت فيه من منافسة الإخوان المسلمين التنظيمية، حتى بدا للمنتمين لها بأنها مقبلة على زمن الصحوة والازدهار الكبير والانتشار والدعوة بلا خوف أو ملاحقة من الأجهزة الأمنية، لكن بعد توالي الأحداث كشفت أنها ربما صحوة ما قبل الأفول وتوالت الانشقاقات فبين من رأى ضرورة الفصل بين الدعوة والسياسة متخذين النموذج التركي دليلًا وبين من رأى في الحزب ذراع قوة لحماية الدعوة السلفية ونشاطها بالداخل وتمثيلا لنفس الأفكار من رفض ظهور المرأة أو قبول عضوية الأقباط وغيره لكن على نطاق أكثر اتساعًا، نتج عن ذلك تأسيس حزب الوطن كتصور جديد يحمل شعار فصل السياسة عن الدعوة وتفضيل الكفاءة على الولاية للشيوخ، وبعد عامين من الصراع هنا وهناك نجح حزب النور في التماسك والتواجد ليكون هو الذراع الأساسي والممثل الوحيد للدعوة السلفية.

بعد فوز الدكتور محمد مرسي برئاسة البلاد، حاول الحزب في البداية التأقلم مع الواقع السياسي الجديد وتجنب انتقاد الرئيس محمد مرسي حتى كان الاتفاق على المادة الثانية من الدستور وإضافة المادة ٢١٩ التي تعزز من تحكيم النصوص الدينية، كان ذلك دافعًا قويا ليمثل به الإخوان والسلفيون تحالفا ضد القوى الأخرى.

 بعد تمكن الإخوان، رأت القوى المشاركة إقصاءًا من الإخوان وابتدائهم في السيطرة على الوزارات خاصة الضعيفة منها، فبدأ ذلك يثير قلق الدعوة السلفية بعدما اقترح الرئيس محمد مرسي عمل نقابة للدعاة وهي خطوة رأت فيها الدعوة السلفية خطورة وإعلان للسيطرة  من الإخوان على المجال السياسي والدعوي معًا خاصة وأن كثير من المشايخ لا يحملون شهادات دينية.

مع تبني بعض القوى المعارضة للحكومة ما أطلقوا عليه أخونة الدولة في استنكار لعدم اعتبار الاخوان المسلمين للقوى الأخرى و بعد استقبال الرئيس محمد مرسي للرئيس الإيراني واتهم السلفيون الرئيس محمد مرسي بالتشيع وتحويل مصر لدولة شيعية، ابتدأ حزب النور وبشكل واضح ينضم لصفوف الأحزاب المعارضة للرئيس. 

screenshot-2024-07-25-at-18.20.57 ماذا ترك السلفيون لأبنائهم....بقلم: سماء معاوية

بعد أحداث الثلاثين من يونيو وإعلان وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في بيانه الثالث من يوليو أن الرئيس محمد مرسي لم يعد رئيسًا لمصر وأن الجيش سوف يشرف على تطبيق خارطة طريق، ظهر في الخلفية أمين عام حزب النور السلفي إلى جانب شخصيات ليبرالية ممسكا بيد شيخ الأزهر من ناحية  وبابا الإسكندرية من الناحية الأخرى .

بررت الدعوة السلفية هذا الموقف بأنه السبيل الوحيد لحماية الهوية الإسلامية في الدستور وأنه الضمان الوحيد لوجود حزب إسلامي قادر على صون صوت التيار الإسلامي ككل ويحافظ على هوية الدولة الإسلامية وهو خيار أفضل من خيار الحكومة الإخوانية فالعلمانيين او العسكريين لا يحق لهم التدخل  في الدين وهو المجال الرئيسي للدعوة والذراع الأقوى للبقاء.

في صباح اليوم التالي لبيان الثالث من يوليو عام ٢٠١٣، أمر القضاء الإداري المصري بالإغلاق النهائي للمحطات التليفزيونية الدينية المؤثرة التي كانت تتبنى صوت داعم للتيارات الإسلامية في تلك الفترة كخطوة احترازية تحصن بها الثغور وتقطع دابر الشرور.

وهكذا تبدو لنا السلفية كفكرة قديمة ومتكررة عبر الزمن بأشكال مختلفة، تأتي كمفهوم مسعف على التوازي مع مفاهيم أخرى انتشرت، حتى يمكننا أن نتدارس كيف تكشف لنا الحاجة لاستدعاء هذا المفهوم عن شكل التأزم المعرفي والإيديولوجي وكيف تشرح لنا عن توتر الهوية المتجذر منذ بدايات القرن الماضي، فكيف لا يتأزم الأبناء وقد تصدرت لهم أفكار هي بالأساس قد اكتسبت شرعيتها من الاجتماع كذراع للسلطة والتمكين المكتوم، قاوم ونافس به الآباء سلطة دولة قاهرة فأعادوا إنتاج أساليب الجبر والقمع والاستخدام والاستغلال، لتتحول النصوص لمجرد أدوات تُستدعى لكسب مزيد من التمكين والبقاء، فيحل نص محل نص وهوية جاهزة محل هوية مأزومة، ويتم حجب المعرفة بالواقع الاجتماعي وعزل الإمكانات وكبت الحريات لتعاد إنتاج ذوات مستنسخة مجتزأة في وجودها منفصلة عن زمانها، ويغيب كل أساس فكري وكل وعي تربوي وكل تأصيل معرفي يمكن أن يكون خطوة حقيقية تمهد طريقًا لمستقبل يليق بأبنائنا.

سماء تعرض مقالتها وتناقشها في الدورة

المراجع:

تاريخ الحركة العمالية – رؤوف عباس حامد

كل رجال الباشا – د. خالد فهمي

أحمد حسين تحولات ثائر- د. علي شلبي

مقدمة في توتر القرآن – جمال عمر

ما بعد السلفية – أحمد سالم ، عمرو بسيوني

مفهوم الإيديولوجيا وفكرة الثنائية في المعرفة السوسيولوجية الحديثة – د. محمد حسين الرفاعي

السلفيون في مصر- محمد حامد

مذكرات الزعفراني – د. إبراهيم الزعفراني

مجلة المنار الإسلامية – مجلد ٣٤ – ج ٦

السنن والمبتدعات – محمد عبد السلام خضر الشقيري الحوامدي.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات