تحرير اللاهوت من لاهوت التحرير .. عبد العاطي طلبة.. 5

عبد العاطي طلبه

من الجامعة الأزهرية

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8b9d8a7d8b7d98a-d8b7d984d8a8d8a9-3472480530-e1724016000835 تحرير اللاهوت من لاهوت التحرير .. عبد العاطي طلبة.. 5

(5)

تحريرُ اللاهوتِ من لاهوتِ التّحرير 

  لا يتجاهل الرفاعيُّ الشرَّ الدينيّ الكائنَ في العالَم، فهو مهموم به انهمامَه بالإنسان ذاته في مأساته الخاصّة، لذا فإنّه يدرك أنّ المقدّس قد يكون مصدرًا جامحًا للشر الأخلاقيّ، فيقول: «مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان… يمكن أن يكون التَدَيُّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة عنيفة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد». ومن أجل ذلك عمل على تجفيف تلك المنابع التي يمكن من خلالها أن يتفشّى هذا النوع من الشرّ المعتمد في وجودِه أساسًا على الدِّين وفكرة المقدَّس؛ ومن هنا جاء تعبيرُه «إنقاذ الإنسانيّة في الدِّين». 

d8b5d988d8b1-d985d8a4d984d981d8a7d8aa-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8acd8a8d8a7d8b1-d8a7d984d8b1d981d8a7d8b9d98a-d985d8acd8aad985d8b9d8a9 تحرير اللاهوت من لاهوت التحرير .. عبد العاطي طلبة.. 5

 يبحث الرفاعي في الكراهية والمصادر التي تشتقّ منها مفاهيمَها الخاصّة، ويرى التراثَ الإسلاميَّ الكلاميَّ والفقهيَّ منبعًا تَستقي منه، لذا دعا إلى ضرورة التحرّر من أسرِه العنيف عن طريق التعامل معه بوصفه استجابةً لمرحلة زمانيّة بعينها؛ لا يمكن تمريرُها وتسليط منطقها الخاصّ على جميع الأزمنة الإنسانيّة الأخرى، إذ ليس التراثُ إلّا «مجموعةَ الممارسات الدينيَّة والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، وهو مفهوم ثقافيّ أنثروبولوجيّ، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسبقات والميول، ومقدّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلّعات الدينية الموروثة من عصور سالفة». وللمحافظة على جذوة الإيمان متّقدةً، فإنه يدعو إلى إيمان نقديّ يمتلك قدرةَ تَجَاوُزِ الكمِّ التراكميِّ من الشروح والتأويلات المُتَوَلِّدة عن مُجْريَات التاريخ وأحداثه. 

  كما يدعو الرفاعيُّ إلى وجوب تطهير اللغة من عنف ألفاظِها المتراكمة عبر التاريخ، والتي يستعملها آحادُنا في أحاديثه اليومية دون دراية؛ يقول: «تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحيّة المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصِّراع الدينيّ والطائفيّ، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم». ليس الأمرُ تطهيرَ اللغة ممّا تراكم فيها من تراكيب وأساليب تتوسَّل التعبير في العنف الكامن فيها فحسب، لكن لا بدّ من التجديد فيها أيضًا، والانتقال عنها إلى غيرها، إذ يتحتّم علينا الانتقال بها من لغة الفقهاء والمتكلِّمين القديمة إلى لغة أخرى حديثة تبتعد عن ألغاز القديمة ومعمياتها، إلى لغةٍ «تستقي من المكاسب الجديدة للمعارف والعلوم والفنون والآداب، وتعبّر عن الفهم الجديد للطبيعة الإنسانية، وحقوق وحريات الإنسان».

  ولم يقف كاتبُنا عند محاولاتِه الصَّارمة تجفيف المنابع الصريحة التي يستقي منها الشرُّ الدينيُّ مفاهيمَه ومقولاته، لكنّه عمل أيضًا على رفض المحاولات المُضْمَرَة التي من خلالِها يُسْتَرَقُ الدِّينُ؛ كمحاولات أسلمة المعرفة، والتّجاوز بالدين عن حدوده الأنطولوجيّة في أيّ نسق؛ دينيًّا كان أم فلسفيًّا. من الأفكار التي أولاها الرفاعيّ اهتمامًا بالغًا ونحن في هذا الصَّدَد موضوع ترحيل الدين عن نطاقه الأنطولوجي الرّحب إلى سياقات أخرى وظيفيّة؛ تعمل على سلبه وتكريسه لخدمة أهدافٍ ضيّقة تُمِيتُ رحمانيتَه ورحابتَه الأنطولوجيّة، فتجعله أكثر عنفًا وانغلاقًا ونبذًا للآخر. ومن هنا جاء نقدُه لعلي شريعتي وحسن حنفي اللَّذَيْنِ حاوَلَا بما يملِكان من أدواتٍ معرفيَّة ومهاراتيّة اختزالَ الدين، وتحويله من ثقافة إلى أيديولوجيا عن طريق تثويره، واستلاب رسالته الأصيلة، واستنطاق اليسارِ فيه، لذا يرفض ما سُمِّي «لاهوت التحرير»، وانتقد محاولات شريعتي العشوائيّة لأدلجة الدين، ومحاولات حنفي تخفيض أبعاده الميتافيزيقيّة على حساب الدنيويّة منها. 

d985d8add985d8af-d98ad988d8b3d98ad985d98a-d8a7d984d8a7d986d8afd988d986d98ad8b3d98a-d988-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8acd8a8d8a7d8b1-d8b1d981d8b9d98a-d8b5d988d8b1d8a9 تحرير اللاهوت من لاهوت التحرير .. عبد العاطي طلبة.. 5
عبدالجبار الرفاعي في دورة بالقاهر

  لا يترك الرفاعيُّ مفهومَه عن «الأيديولجيا» عائمًا غائمًا لا يمكن الوقوف عليه، لكنّه يؤكِّد على أنّه لا يعني بها – في أي كتاب من كتبه – «علم الأفكار، أي دراسة الأفكار دراسةً علميّة… [وإنّما يعني بها] نظامًا لإنتاج المعنى السياسيّ، يصنع نسيجَ سلطة متشعِّبَة لإنتاج حقيقة متخيّلة، وفقًا لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ موهم، [وهي بهذا المعنى] تزييف للحقيقة، وطمس لمعناها عبر حجب الواقع»، فـ «الأيديولجيّ يُزَيِّف اللغةَ؛ يُحْدِثُ انقطاعًا بين الدالِّ والمَدْلُول، بين القول وبين الواقع الذي يتكلّم عليه». ومن هنا تأتي خطورتُها بشتى أنواعها وأنماطها وتجلِّياتها – في نظر الرفاعي- من أنّها «نسق مغلق، يُغَذِّي الذهنَ بمجموعةِ معتقداتٍ ومفاهيم ومقولاتٍ نِهَائِيَّةٍ، تعلنُ الحرب على أيّة فكرةٍ لا تشبهها، فتنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ في الظَّاهر من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ»، وفيها «يفتقدُ الدينُ رسالتَه، بوصفه حياةً في أفق المعنى، عندما ينزلقُ فيهجر مجالَه الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ ويسقطُ في فخِّ الأيديولوجيا. يتحوَّل الدينُ الذي تفترسه الأيديولوجيا إلى أداةٍ للصِّراع على السُّلطة والمال والثروة، وينتهي مصيرُه إلى البؤس الذي انتهتْ إليه الأيديولوجياتُ اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا».

  تحت ظلال تعريفه الأثير للدين من أنّه «حياةٌ في أُفُقِ المعنى»، يُعْمِل الرفاعيُّ مَعَاوِلَ هَدْمِه ويُلَاحِق كلَّ فكرة تتجاوز بالدين طبيعتَه وغاياتِه الموضوعة له من كونه «نظامًا لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للحياة، تفرضه حاجةُ الكائنِ البشريِّ الأبديَّةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعيَّة». ومن ذلك محاولاتُ استراقِه واستلابِه عن طريق أدلجته لدى علي شريعتي، أو تثويره فيما سُمِّي «لاهوت التحرير» لدى حسن حنفي وغيرِه. يشرح الرفاعيُّ «لاهوتَ التحرير»، فيقول إنّه «مصطلح تداوله الباحثون في الستينات من القرن الماضي، وإنْ كان مدلولُه يواكب الأديانَ في مُخْتَلَفِ العُصُورِ، فالأديانُ تسعى إلى مناهَضَةِ الظُّلْمِ والتَّسَلُّط والاستبداد والطغيان… وفي السبعينيّات من القرن العشرين اهتمَّتْ مجموعة من المفكّرين بصوغ رؤيةٍ للمقاومة، تتخطَّى الفقه، وتعمل على الاستناد إلى العقيدة كمنطلقٍ للثورة، بتحليل المدلولِ الاجتماعيِّ لأصول الدين، واستلهام الثورة من العقيدة».

  يُحَدِّثُنَا الرفاعيُّ عن علاقته بحسن حنفي وما أُطْلِقَ عليه «اليسار الإسلامي»، ومن ثَمَّ يُحَلِّلُ أفكارَ مشروعه الأساسية ومنطلقاته الفكريَّة؛ منتهيًا إلى نقدها. يقول: «لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي يختزلُ الدِّينَ في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفةَ المحوريَّةَ للدِّين. الدين أعمق من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعيّان للدين. تحويل الدين إلى أيديولوجيا يعني: اختزال الإنسان في بُعْدٍ واحد، واختزال الروح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهيّ في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة، والآخرة في الدنيا… وحين يتحوّل الدينيُّ إلى دنيويّ تختلط الحدودُ بينهما، فيجري تعميمُ الفهم الدينيّ لكافَّة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يُفضي إلى التَّضحية بالعَقْلِ والخبرة البشرية المستقلَّة عمَّا هو ديني». 

  ورغم ما وجّهه الرفاعي إلى شريعتي من نقد قد يبدو عنيفًا إلّا أنّه لم يُخْفِ إعجابَه بروحه وإيمانه وحسّه الفنيّ، وكان يدرك أنّه ينتقد فيه هذا البُعْد الأصيل من فكره، والخيط الممتدّ في أعماله من ترحيل للدين من سعة الأنطولوجيا إلى ضيق الأيديولوجيا، وأنَّ له أبعادًا أخرى كثيرة قد يقبلها ولا يرفضها. يقول الرفاعي: «تتجلّى في شخصية علي شريعتي أبعادٌ عديدة؛ تتمثّل في: المثقف الرسولي، الداعية النبوي، الأخلاقي، المؤمن، الإنسان، النبيل، الغيور، الشهم، الشاعر، الفنان، الرؤيويّ، الأديب، الناقد، العاطفيّ، العاشق، المتمرد، القَلِق، المُتَبَرِّم، الحالم، الثائر، الفدائيّ… تتداخل في تفكيرِ ومشاعرِ وأحاسيسِ شريعتي عقليةُ الفنَّان، حساسيّات الشاعر، مشاعر العاشق، غيرة المؤمن، ذوق المتصوف، ذوق العارف، أشواق العارف، بوح الشجاع، جسارة المتمرّد، تهوُّر المغامر. وهي أبعاد تبدو متنافرةً؛ ذلك لأنَّها عادةً لا تجتمع كلّها وتتوحَّد في شخصيَّة واحدة بإيقاع كأنَّه متناسق، إلّا في حالات نادرة». 

  يُسَدِّد الرفاعيُّ سهامَه أيضًا إلى فكرةٍ تراها جماعاتٌ دينيّة كثيرة أصلًا محوريًّا من أصول الديانة؛ نبع عنها كثيرٌ من العنف الدينيّ في شتّى أنحاء العالم، ما وضع الدِّين في مأزق، وجعله محلّ اتِّهام دائمٍ؛ ألا وهي فكرة الخلافة والدولة الدينيّة، فيرى القائلين بها أسرى الماضي البعيد، ولا يملكون قدرةَ تخطِّي حدود التراث الفقهيّ والعقديّ المرهون بالتاريخ في هذه المسألة، إذ لا يستطيعون فهمَ «المواطنة» فهمًا يتناغم والعصر الحديث، ولا يعرفون فكرةَ العقد الاجتماعيّ بين الحاكم والمحكوم، إلى غير ذلك من وهمٍ طوباويّ، واستدعاء للماضي في الحاضر، وكأنّ الزمان لديهم مفهومٌ جامد قد توقّف هنالك منذ قرون بعيدةٍ دون أن يجري. 

  يرى الرفاعيُّ محاولاتِ تديين السياسة وخلع أنماط دينية على السُّلطة السياسيَّة توظيفًا للدين وإظلامًا له، إذ يعني حضورُ الدينيّ في السياسيّ -لدى نظامه الفكريّ- دولةً دينيّةً تنتمي إلى «ما قبل الدولة الحديثة؛ دولةً يَعْتَمِدُ تدوينُ دستورِها ومختلفُ تشريعاتها وقوانينها وبرامجها على علم الكلام والفقه وفتاوى الفقهاء»؛ ما يؤدّي إلى استخدام «مُختلف الوسائل المشروعة كالانتخابات، أو غير المشروعة كالعنف المسلح، بغيةَ بناءِ هذه الدولة، وإغراق حياة المسلمين بأوهام الوعود الخلاصيَّة، والزَّجّ بأعداد غفيرة من الشباب إلى التضحية بمستقبلهم ومصائرهم». ويُلفِتُ الرفاعيُّ النظر إلى: «أنَّ الإنسانَ الذي هو موضوع دولة المسلمين أمس هو الإنسان بوصفه مسلمًا بالمعنى الكلاميِّ والفقهيّ، أمَّا الإنسانُ الذي هو موضوعُ الدَّولةِ الحديثة فهو الإنسان بوصفه مواطنًا. الإنسانُ بوصفه مسلمًا هو الذي كان يحدّدُ هُويَّةَ الدولة، ويتحكَّم تعريفُه بتوصيف هويتها. كلُّ تشريع وقرار وموقف يُتَّخَذُ في إطار توصيفِ مسلمٍ ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للإسلام، وكلّ ما لا ينتمي إلى الإسلام يُفترض ألّا يكون مكوِّنًا لماهية هذه الدولة”.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

اترك رد

ندوات