اللاهوت الإسلامي … بقلم: عمرو عبد الرحمن
ننشر على جزأين قراءة عمرو عبد الرحمن لكتاب اللاهوت للمفكر عبد الجواد ياسين، هذا المقال هو الجزء الثاني.
بقلم: عمرو عبد الرحمن

ينهي المستشار عبد الجواد ياسين كتابه بالإقرار أن التطور الموضوعي الصريح في اللاهوت الإسلامي قدمه التصوف وليس علم الكلام عبر التصوف الإشراقي (عبر نظرية وحدة الوجود)، ومتسائلا عن حجم تأثيره في المدونة الرسمية وعلى التدين الشعبي بالإضافة إلى تيار التصوف الأوسع.
اللاهوت (2)

في الفصل الثالث يتناول الأستاذ عبد الجواد ياسين اللاهوت الإسلامي من خلال فرضيته التي يحاول التدليل عليها من البداية، وهي أن اللاهوت ليس هو المطلق الإلهي، ولكن هو تصور البشر في سياق تاريخي معين للمطلق الإلهي. وذلك عبر تقسيم اللاهوت الإسلامي إلى مرحلتين: التأسيس والتطور.
مناقشة مرحلة التأسيس كانت عبر ثلاث مستويات: الأول هو ما قبل التأسيس، وتشترك في تكوينه ثلاث مكونات هي: النسق القرشي والنسق الكتابي والنسق الحنيف. انطلق اللاهوت الإسلامي من أرضية مشتركة مع النسق القرشي عبر منظومته الطقوسية كالحج ووجود الله حاضراً في ذهن من أشركوا به، ومع النسق الكتابي في تبني القصة التوراتية للنبوة، وفكرة التوحيد. وتماهى تماماً مع الحنيفية، والتي أغلب المصادر على وجودها إسلامية، والتي يمكن اعتبارها شكل من أشكال التدين الفردي أكثر منها دين جماعي.
لم يتشكل اللاهوت الإسلامي دفعة واحدة، بل نستطيع ملاحظة الفارق بين اللاهوت المكي والمدني. واللاهوت المكي نفسه جاء على مراحل، كان بدايتها تثبيت النبي وتبرز فيها لاهوتياً فكرة كيفية تلقيه الوحي. هل رأى النبي الله؟ الأمر الذي تبلور لاحقاً في لاهوت الكلام.
يرى عبد الجواد ياسين أن النصوص تعكس طبيعة مركبة للتصور الإلهي، حيث يجتمع معنى الروح المؤدي إلى نوع من التجسيد الحي، ومعنى المطلق الكلي الذي يقتضي التجريد.
والرؤية الصحيحة للفكرة الإلهية تقتضي بين المعنى المطلق والمعنى الاجتماعي، لأنها في الواقع حاصل جمع الإلهي والبشري. لا يمكن فهم الله إلا في الإنسان، من خلال الإنسان.
في اللاهوت المكي يظهر الدين بمعناه الضيق، حيث هو يهتم بمخاطبة الفرد أخلاقياً بهدف الخلاص الديني الذاتي، متجنباً أي مظهر للصراع مع المحيط الاجتماعي. فقط التوحيد ونبوة النبي محمد كانا محور اللاهوت، إلى جانب العناية بفكرة القيامة واليوم الآخر.
أما اللاهوت المدني، فيقوم على دعامتين مرتبطين بتغير وضع المسلمين في المدينة من أقلية مستضعفة، إلى جماعة تنشئ دولة. تركزت الآيات على علاج أحوال الجماعة المسلمة بداخلها فيما بينها، وخارجها مع الجماعات المحيطة. خاطب النص المدني الجماعة المسلمة أكثر من الفرد المسلم مقارنة بالنص المكي.
لاهوتياً ظهر الله المشرع بشكل بارز على النحو العبري، فظهرت دولة تحكمها شريعة منزلة عبر الوحي. تطور يعكس تغير الواقع ويعبر عنه، يسجله النص كفعل تاريخي، لكن بسبب هذا التسجيل سيكتسب صفة القيم المطلقة ويتحول إلى حكم تكليفي مؤبد. لأن ما استقر في الوعي الديني هو أن كل محتويات النص تتمتع بخصائص المطلق، نافية عنها أي طبيعة اجتماعية تجعلها قابلة للتغيير، فأصبح من الصعب طرح أي تفسير تاريخي للشريعة من حيث هي قانون خاص ببيئته الزمنية.
الدعامة الثانية كانت احتكاك المسلمين باليهود في المدينة، من محاولات الاستيعاب والدمج في المجتمع الجديد إلى الصراع انتهاءً بالإجلاء.
ما يركز عليه الكاتب في علاقة النبي باليهود هو تداخل السياسي مع الديني إلى حد الاختلاط. مشكلة اليهود كانت مع نبوة النبي كونه لا ينتمي إلى المجتمع العبري لا مع التصور الإلهي.
محور الاشتباك اللاحق مع اليهود سيصبح هو إنكارهم لنبوة النبي، حتى أن آية (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة ٦٢، سيتم تخطيها باستخدام آلية من آليات الفقه وهي النسخ، لحساب المفهوم الاجتماعي للديانة، حيث يشترط للإيمان الدخول من بوابة هذه الديانة حصراً.
كل ديانة تمر بمرحلتين أساسيتين: التدشين ثم التدوين، انتهاءً بالتجميد حيث تفرض الديانة نفسها كمنظومة مذهبية جماعية مغلقة. وفي النهاية تنتج بنية لاهوتية لا تتطابق تماماً مع ما بدأت به من حيث المفاهيم اللاهوتية الأساسية: الله، الوحي، النص.
أدى الانفجار السياسي الأول إلى التوسع في طلب النص، لتأسيس المذهبية الناتجة عنه، ما أدى إلى تطوير في مفهوم اللاهوت عند الشيعة مستخدمين تمديد زمن الوحي بعد النبي عبر الأئمة المعصومين ومفهوم “العترة”، وعند أهل السنة والجماعة مستخدمين توسيع مساحة النص بأثر رجعي بعد انتهاء الوحي عبر إنشاء مفهوم “السُنة”.
شيعياً أدت الصراعات مع السلطة إلى استقرار منصب الإمام كمنصب ديني منفصل عن منصب الحاكم، ويمكن فهم ذلك في البدايات لصعوبة إنشاء دولة جديدة في ظل هزيمة المحاولات المتكررة لذلك. فتطور التشيع إلى حالة دينية أوسع وأقدر على البقاء، بتطوير مفاهيم إسلامية كالنبوة التي تحتاج من يتممها، والوحيد الذي أصبح مستمر في الحضور بصور مختلفة، والنص متمدداً ليستوعب الأحاديث المرفوعة للأئمة.
سنياً قفز الشافعي بمفهوم السنة من “ما جرى عليه العمل” من سنن وسوابق مشهورة إلى مجموعة من الأقوال المنصوص عليها. وحتى يُحكم النص سلطته، نشأت أدوات الفقه من إجماع وقياس، وهي في حاجة إلى بنية نصية ممتدة تربط بها كل صغيرة وكبيرة. اكتسبت الأحاديث حجية الوحي من حيث المبدأ وهي عملية اجتماعية بالكامل، من حيث إقرار سلطة أحاديث الآحاد، وعملية جمع الأحاديث نفسها بكل ما تحمله من تحويل العرف إلى نصوص مكتوبة تحمل اجتماعيات عصر النص الأصلي واجتماعيات عصر التدوين.
أما عن تطور الفكرة الإلهية، فيحاول عبد الجواد ياسين قراءته في الكلام والتصوف بالتقاطع مع المدونة الفقهية، وأنماط التفكير الفلسفي، وأنساق التدين الشعبي.
بالنسبة للمادة الكلامية فينبغي قراءتها على مستويين:
الأول: مستوى الفرق المذهبية السنية والشيعية والإباضية.
الثاني: مستوى الفرق النظرية الخالصة الأشعرية والمعتزلة…
كما أن الانشقاق المذهبي نشأ بدوافع سياسية، انطلق كلام الفرق النظرية من خلفية سياسية كالقدر وتكفير مرتكب الكبيرة في سياقات الفتنة ومواقف الصحابة منها، والاستبداد السياسي واعتباره من القدر. ثم تطور إلى مستويات أعمق كالمسائل الإلهية تحت عنوانين رئيسيين: ماهية الله (بين التجريد والتشخيص)، ومفهوم التوحيد (من نفي الشرك إلى نفي الصفات). وهو تطور لم يؤد إلى تغييرات موضوعية في صلب المسألة الإلهية كما طرحها القرآن.
مفهوم التوحيد في الإسلام له لحظتان: لحظة القرآن واهتمت بنفي تعدد الآلهة بمفهوم بسيط، مشتبكاً مع الوثنية ذات الطابع الطقوسي المتواجدة في محيط بيئة النزول، ومع الثالوث المسيحي دون مناقشة تفصيلاته. كما لم يناقش مسألة القدم بمعنى أن الله وحده هو القديم، ولم يقف أمام قضية الصفات. فقط هو ليس كمثله شيء ولم يلد ولم يولد، باعتبار أن عكس ذلك قدحاً في كمال الإله المطلق.
ولحظة الكلام، بشقيها الاعتزالي والأشعري.
يشير هنا عبد الجواد ياسين إلى تأثير السياق الاجتماعي على اللاهوت. حين اشتبك القرآن مع الثالوث المسيحي، اشتبك معه من حيث هو يشير إلى آلهة متعددة وليس من زاوية الحديث عن أقانيم ثلاثة لذات واحد. كذلك كان اللاهوت بسيطاً في البداية لأن الاشتباك كان مع بيئة وثنية بسيطة. نتيجة للسياق الجدلي الخلافي فيما بعد، كانت اللحظة الكلامية حتمية كما يحدث في جميع الديانات في عصر التدوين حيث ينزع الناس للتفكير النظري بفعل الاحتكاك بالثقافات الأخرى.
في اللحظة الاعتزالية انتقل التوحيد إلى مفهوم التنزيه، أي نفي الصفات التي لا تليق بذات الله بأدوات الجدل العقلي (التأويل). لم تتغير هذه المنطقة مع الأشعرية، لكنها استخدمت منهج توفيقي كنتاج للجدل بين المعتزلة والسلفية، لكن أبوحامد الغزالي حالة أشعرية خاصة.
قام الغزالي بالتوفيق بين الرؤية الاعتزالية والفقهية مضيفاً إليها بعداً صوفياً. فقسم مراتب التوحيد إلى أربعة: الأولى توحيد باللسان فقط يعبر عن المنافقين، الثانية والثالثة تخص العوام مضيفاً إليهم أهل الكلام حيث لا يميزهم إلا صنعة الكلام، والرابعة ذات مسحة صوفية حيث لا ترى الذات إلا الله (مع بقاء الذات وهذا يختلف عن وحدة الوجود).
رؤية الغزالي كانت إجرائية هدفها التوفيق والحفاظ على بساطة التدين الشعبي، ولم تضف جديداً على مفهوم التوحيد من حيث الموضوع.
ينهي المستشار عبد الجواد ياسين كتابه بالإقرار أن التطور الموضوعي الصريح في اللاهوت الإسلامي قدمه التصوف وليس علم الكلام عبر التصوف الإشراقي (عبر نظرية وحدة الوجود)، ومتسائلا عن حجم تأثيره في المدونة الرسمية وعلى التدين الشعبي بالإضافة إلى تيار التصوف الأوسع.
لقراءة المقال السابق من اللاهوت اضغط على الرابط التالي:
تعدد صور اللاهوت بين الوحي والنبوة والنص … بقلم عمرو عبد الرحمن
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد