كيف بدأت الصحافة المصرية بأكاديمية تفكير مع أ. أسامة الرحيمي.. تغطية: أنسام النجار
تقدم أكاديمية تفكير دورة عن تاريخ الصحافة المصرية وأشكال الكتابة يقدمها الأستاذ أسامة الرحيمي الصحفي بالأهرام، وهذ محتوى الجلسة الأول بقلم أنسام النجار
أنسام النجار

حول نشأة وبدايات الصحافة المصرية في نهاية القرن 18 وبداية القرن 19
كيف بدأت الصحافة المصرية؟
كل ما كنا نعلمه أن الحملة الفرنسية أصدرت صحيفة. وبالقراءة العادية اكتشفنا أنها قدّمت أربع صحف. كما كنا نعرف أن محمد عليّ قدم فقط جريدة الوقائع، وهي إنشاء أدبي موازِ لمشاريعه الكبرى التى أنجزها. أراد إخبار الناس بإنجازاته عبرها.
ومن ذلك الوقت إلى نهاية القرن ١٩ بلغت الإصدارات الصحفية المصرية 200 مطبوعة. وكانت تطبع وتوزع أكثر من٢٠٠ ألف نسخة. ومهم أن نعرف تعداد سكان مصر وقتذاك كان حوالي مليونين ونصف المليون نسمة. ونسبة توزيع الصحف مقارنة بهذا التعداد يعتبر كبيرا جدا. خاصة إذا قارناه بالآن حيث يبلغ تعداد مصر إلى 110 ملايين نسمة، وتراجعت نسبة توزيع الإصدارات الصحفية الورقية إلى 50,000 نسخة فقط.
ويبدو أن ازدها الصحف في نهاية القرن 19 كان يعود لحيوية الطبقة المتوسطة، ووجود جاليات أجنبية بأعداد كبيرة، وانتشار التعليم منذ أنشأ محمد علي المدارس.

أتوقف هنا لحظة. في لمحة خاطفة لتأمل «جدارية بهو مبنى جريدة الأهرام»، وهي تعني رموز رحلة الصحافة عبر التاريخ وإلى الآن. حيث كانت الرسائل الأولى بين الدخان، والحمام الزاجل، والإبل والخيول، ثم الدواب، وأخيرا وسائل النقل الحديثة من بواخر وقطارات وطائرات. وأظن لو كانت تكنولوجيا النت موجودا وقتها لوضعوا له رمزا، وإن كانت توجد إشارة للبثّ!!
ما يعني أن الصحافة (بمفهومها البدائي) إرتبطت منذ القدم بتطور التاريخ الانساني وتدرجت معه في تطوره، وما تزال، واستفادت الآن بالتطور التكنولوجي شأن مختلف التخصصات في عصرنا الجاري.
هذه الجدارية صنعت عام ١٩٦٩ فى عز إزدهار الصحافة المصرية.
نعود لفترة دخول الحملة الفرنسية إلى مصر 1798، وقرار نابليون بإصدار أولى صحفه في القاهرة، وهو كما نعلم جميعا جاء جيش على رأس جيش جرار، وفريق كبير من العلماء والباحثين (150)، ومطبعة بالفرنسية، وأخرى بالعربية، تلك التي استخدمها بطباعة بياناته الأولى للمصريين. وهذه البيانات كانت ـ في تقديري ـ أول فكرة صحافة في تاريخ مصر. ذلك المنشور (المطبوع على ورق وبحروف صغيرة لأول مرة) وأعلن بونابرت فيه أن هدفه الأول هو «تخليص المصريين من ظلم المماليك». وحين إستقرت الأمور نسبيا قام بتقديم جريدتين بالفرنسية لخدمة الجيش الفرنسي.
ونابليون قادم من مجتمع شهد واحدة من اكبر واشهر الثورات في تاريخ العالم الحديث. وكان الأدب والصحافة والفنون والعلم كلها مزدهرة فيه لحد كبير، خاصة بعد إسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية ضمن أحداث الثورة الفرنسية، وكانت نخبة المجتمع وطبقته المتوسطة مثقفة، وبهذا قدم نابليون قادم من مجتمع أكثر تقدما وتحضرا إذا قارناه بمجتمعنا الذي لم يشهد غير النذر اليسير من تلك الأشياء.
أول صحيفتين لنابليون
وهنا نتذكر الاحتفال بمرور 200 سنة على الحملة الفرنسية وما ردده البعض وقتها: «رحلت المدافع وبقيت المطابع»، بقصد أن الأضرار ذهبت وبقيت المنافع، ومطابع الحملة وصحفها تلك كانت هي الأساس والسبب لنشأة الصحافة المصرية.

وكا أصدر نابليون «الجريدة الرسمية» للفرنسيين، عن أخبار الجيش وما كان يتوصل له العلماء المصاحبين للحملة.
وجريدة «بريد مصر» وكانت توزع خمس أيام فى الأسبوع، وتقوم بتغطية أخبار مصر، وما يسجله علماء الحملة عن آثار مصر، وعاداتها وتقاليدها، وتعداد سكانها، وموسيقاها الشعبية (قاموا بكتابتها في النوتة) وكانت بعض تلك الأخبار والانجازات نشرها فى الصحيفة.
وللأسف لا توجد نسخة واحدة في مصر من تلك الصحف، فلم تكن فكرة الأرشيف موجودة عندنا وقتها، وبالتالى لم نحصل على أية نسخ منها، لكن وجدنا أخبارا عنها فى كتب أو من النسخ الموجودة لدى فرنسا.
وثالث تلك الصحف كانت «الحوادث المصرية» وهي اول جريدة تصدر بالعربية عل الإطلاق في مصر. ورأس تحريرها «إسماعيل الخشاب». صديق الشيخ حسن العطار، وعبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المشهور.
والجريدة الرابعة للحملة الفرنسية هي «التنبيه»، ورئيس مينو القائد الثالث للحملة الفرنسية.
ونتوقف هنا قليلا أمام اسماعيل الخشّاب، الذي يُعدّ بشكل ما «أول رئيس تحرير مصري» لجريدة مطبوعة بالعربية في مصر حتى لو كانت مملوكة للحملة الفرنسية. وهو أيضا من أشار على صديقه الجبرتى بكتابة التاريخ، ويبدو أن الجبرتي كان النسخة الأنضج من إسماعيل الخشاب، كونه أظهر قدرات أجمل في كتابة الحوادث بطريقة ولغة أفضل.
وكان الشيخ حسن العطار قد قام بجمع ديوان أشعار اسماعيل الخشاب بعد وفاته، ولم يطبع إلا بعد ذلك بأكثر من ثمانين سنة.
وكانوا يسمون الخشاب وقتها «إمام زمانه»، وذكر الجبرتي (فى الجزء الرابع ص ٢٣٨) فى كتابه «تاريخ الجبرتي»: «أنهم عيّنُوه لكتابة «الحوادث اليوميه»، ثم يجمعون الملخص ويرفع فى سِجلّهم، فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم». يقصد هنا وصف الصحيفة التي رأس تحريرها الخشاب.
وقال أحد مؤرخي تلك الفترة، أن صحيفة الحوادث إنطفأت برحيل الفرنسيين عن مصر.
ومما يستحق الذكر أن الخشاب والجبرتي كانا أصدقاء للشيخ الزبيدي اليمني صاحب كتاب «تاج العروس». وكان قد أتى لزيارة مصر فبقي فيهان ودرّس بالأزهرن لم يغادرها حتى وفاته.
وكان الزبيدي قد طلب من الجبرتي مساعدته في جمع معلومات من شواهد القبور، لأنه يجهّز لوضع كتاب عن وفيات الأعيان، وقطع الجبرتى شوطا كبيرا فى هذا الأمر، وجمع قدرا كبيرا من المعلومات. لكن الزبيدي مات فجأة، وبعدما خفّ حزنهما عليه، أشار الخشاب على الجبرتي كتابة ما جمعه من معلومات، وكانت تلك بداية تأريخ الجبرتي للأحداث.
ومن المعروف أن القاهرة قبيل مجيء الحملة الفرنسية كانت تضم عددا غير قليل من الصالونات الثقافية، وكان من أشهرها صالون نفيسة خاتون، أو نفيسة البيضا كما كانوا يطلقون عليها، وهي كانت زوجة علي بك الكبير، وفيما بعد تزوجت مراد بك أحد مماليك علي بك وكان يقتسم حكم مصر مع إبراهيم بك وقت دخول الحملة الفرنسية، ويقال أن نابليون حضر صالون نفيسة خاتون الثقافي ذات مرة.
صحف محمد علي

لم يتبق من الحملة الفرنسية بعد رحيلها، أي أثر يذكر سوى إستمرار فكرة الصحافة كهاجس لحوح في الأفق المصري الذي اشتعل بالمشاعر الوطنية والحماس. وحين استولى محمد علي على الحكم بالحيلة والدهاء، كان مهووسا بما فعلته الحملة وصحافتها مما سمعه عن فترة وجودهم. وفي فترة حكمه اهتم جدا بفكرة الحوارات الصحفية. كما يظهر من أرشيف الكونجرس مثلا الذي يضم كل حوارات محمد علي. وأمر الأرشيف هذا كان يحتاج لجهود واهتمام أكبر من هذا. لكن للأسف لم يبذل أحدهم أي شيء.
ومما يذكر لنابليون قوله إن «الصحافة من دعائم الحضارة والعمران».
ومن المعنى نفسه تعامل «محمد علي» مع الصحافة، فلن يعرف الناس إجازاته إن لم تكن هناك صحافة.
ومعروف أن الحملة الفرنسية غادرت مصر سنة ١٨٠١، وتولى محمد علي الحكم ١٨٠٥، وخلال الأربع سنوات تلك كان محمد على في مصر، ضمن الحامية العثمانية التي وصلت مصر بعد خروج الحملة.
وحين انتهى من تأسيس دواوين دولته في المحروسة والمديريات، أراد أن يُعرّف الناس ما يفعله، كما أراد تقريرا شهريا إجماليا عن كل ما يحدث فى مصر، فأنشأ «جورنال الخديوي»، وهو فعليا أول جريدة مصرية خالصة. وبعدما كانت تقدم له تقارير مكتوبة بخط اليد استورد عدة مطابع ليستخدم إحداها في طباعة جورناله الجديد. وعرفت باسم «مطبعة جورنال الخديوي»، وكانت تكتب وتطبع بالعربية والتركية. ووضعت فى القلعة. ولمّا اتسعت أنشطته ورؤيته للأمور ومشاريعه، استحضر مطابعا أخرى حتى اصبحت تسع مطابع، على رأسها مطبعة بولاق الكبرى. وتولى جورنال الخديوي فريق عمل، اهتم بجمع الأخبار من المديريات، وتبويبها واختيار اهمها لتكون بين يدي الباشا كل شهر، لكن الباشا وجد أن الشهر فترة طويلة، فأمر بجعلها أسبوعية، ولم يكن يُطبع منها سوى مئة نسخة فقط، تذهب منها خمس نسخ للباشا وامراء الأسرة الحاكمة، والبقية توزع على كبار الموظفين.
وفي نفس التوقيت أرسل المسابكي (رجل شامي) إلى ميلانو في غيطاليا ليدرس الطباعة، وبقي هناك أربعة سنوات، وواشترى مطبعة بولاق الكبرى، وأشرف على إنشائها بنفسه وبمساعدة فريق كتخصص بالمطابع. وهي ما زالت موجودة في امبابة كما هي غرب النيل.
وفي الوقت نفسه كان إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي يعملان بأكبرهمّة وعلى قدم وساق في تأسيس الجيش، ولم ينجح معهم غير الفلاح المصري الذي اذهلهم باستيعابه لكل فنون العسكرية الحديثة.
كانت اللغة التركية هي الغالبة في الجورنال بالبداية، وأماكن النشر المميزة في الصفحات كانت محجوزة دائما لحضرة صاحب الجناب العالي الخديوي، وكذلك في جريدة الوقائع، ولم تأخذ الجريدة الشكل والتبويب الحديث إلا فى وقت الشيخ رفاعة الطهطاوى.
وكان الجناب العالى هو رئيس التحرير الفعلى، فكل المواد يجب عرضها أولا على الباشا قبل نشرها، ودائما ما يصدر أوامره بتعديلات عديدة. وكان يشير عادة بالكتابة عن شخصه وعن إنجازاته الكبرى.
ويبدو أن بعض الأخبار قد مرت دون أن يراجها، مثل حادثة نشرت في العد ٤٤٩ بقسم حوادث ديوان الخديوى، فقد نشروا خبرا عن قاطع طريق إسمه «محمد المغربي» كان يتحرش بالناس في الشارع ويقتل، ولأن الباشا لم يراجع الواقعة، وفوجئ بها منشورة كتب إليهم: « لقد أخذنا العجب من نشر مثل هذه الحوادث، فتجنبوا نشر ما لا يليق نشره، ويجب أن تلاحظوا ذلك بكل تدقيق ويجب أن تكونوا على انتباه وبصيرة».
وبهذا يكون الباشا أول من حدّد المحاذير، حيث انسخ تذهب إلى الأمراء والحرملك. ونشر خبر عن رجل متحرش بالناس وأعراضهم، في ذلك التوقيت، كان يعد كلاما نابيا لا يجب أن يدخل على الحريم.

وكان الباشا قد امر بإعداد مقر لجريدة الوقائع ومحرريها عند إنشائها عام 1828، وتخصيص محررين على رأسهم محمود أفندي، وموظفين، ومراجع أزهري، ورغم وجوده ظلت تظهر الأخطاء.
وفى عام 1841 تولى الشيخ رفاعة الطهطاوى تحرير جريدة الوقائع، وعمل مفهوم لما يجب نشره فى الوقائع وأضاف مادة الأخبار الخارجية، مثل أخبار أوروبا، وكان ذلك بمثابة نقلة نوعية وقتها وتوسيع للتبويب برؤية الشيخ رفاعة.
كما تم الاهتمام أيضا بالأخبار الداخلية، مثل أسعار المحاصيل الزراعية، وغيرها.
ولم تنتظم أعداد الوقائع، ولا تاريخ نشرها، فقد كان هناك تخبط فى الأعداد المنشورة، لأنها تعتمد على وجود أخبار جديدة، لكن الباشا ألح بالنشر حتى ولو لم توجد داخلها أخبار.
ولم يفهم أحد سبب اختيار شعار الزهرية (لوجو جريدة الوقائع)، لكنه تغير لاحقا، وأصبح قرص شمس وهرم ونخلة.
كما أحدث الشيخ رفاعة نقلة كبيرة فى اللغة، والتبويب لاستفادته من الصحافة الفرنسية المزدهرة في باريس، لفترة كافية ليحدث تطويرا الوقائع. وضم فريقا من تلاميذه للتدرب في الجريدة ليشكل منهم فريق التحرير، كما بدأت في عهده تغطية أخبار مجلس المشورة الذى كان يجتمع برئاسة محمد على بشكل دورى.
ولكن النقلة النوعية البرى حقيقة حدثت على يد الشيخ محمد عبده حين تولاها في نهاية عهد الخديوي اسماعيل، وبداية عهد الخديوي توفيق. وللحديث بقية
ــــــــــــــــ
*أسامة الرحيمي صحفى بجريدة الأهرام
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد