مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي.. بقلم: أبانوب خلّاف…أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف
يأتي المقال هنا كبداية لسلسلة مقالات مُعنْوَنَة ب”أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف.”
بقلم: أبانوب خلاف

لِمَ نبدأ بأفلاطون، ولْم نبدأ مثلًا بمقدمةٍ عن ما نسعى إليه؟ إن أفلاطون ليس فيلسوفًا عاديًّا ظهر في قِدَم التاريخ ومضى، بل إنه، بالأحرى، طريقة في التفكير؛ فأنا هنا، وبشكلٍ خاصّ، أعتقد بأن تاريخ الفلسفة بأكمله يدين لأفلاطون، وأن ثمة الكثير والكثير من الأفكار المعاصرة وغير المعاصرة تنتمي لأفلاطون، أو تجد لها أساسًا لدى أفلاطون، أو تنطلق ضد أفلاطون. لذا، أليس من الواجب أن نبدأ بأفلاطون؟
مرايا الهوية 1 – نبوءة معبد دلفي:
حسنٌ، حسنٌ، سمعنا هذا الرجل الذي يقول “فِرّ يا صاحبي إلى وحدتك”، لتهرب منهم، إني أراك فريسة للسع الذباب! اترُك كل شيء الآن وفتِّش عن ذاتك بعيدًا عنهم. اتُرك الآخرين، اترُك العالَم، لتجد ذاتك! لكنْ قُلْ لي يا أخي: هل وجدتها –أي ذاتك– في وحدتك المزعومة؟ إنك، في بُعدِك عن العالَم، تبتعد عنكَ؛ فلن تجد نفسك الحقّة إلا في أعينِ آخَرٍ، ووجهِ آخَرٍ. إنك تبدأ من ذاتك، لا مفرّ من ذلك، لكنك لا تصل إلا بآخَر، إلهيّ كان أو بشريّ، إلى المعرفة الحقة. ومن هنا ندخُلُ إلى ما يحاول قوله الرجل الإلَهيّ، أي أفلاطون.
في دلفي، وعلى جدران معبد أبولون، نُقِشَتْ هذه العبارة الغامضة: «اعرف نفسك». ولم ينزل وحيًا إلهيًّا ليخبرنا المقصد، بالأخص أنها نُقِشَتْ على معبد المذكور سلفًا؛ فإن أبولون له أسماء عديدة مثل “لوكياس”، والذي يعني في اللغة اليونانية «المائل» و«الملتوي»؛ ربما لأن وحيه غامض ومشكك. ولم يترك الفلاسفة هذه العبارة عبثًا بالطبع؛ فكيف للفيلسوف أن يرى غموضًا ويصمت؟ فكان منهم أن فسّروها بطريقتهم وحاولوا فهم جوهرها الغامض.

كان أفلاطون في “محاورة السيبيادس” يتساءل: ما معنى أن يعرف المرء نفسه؟ وكيف يعرف المرء نفسه؟ تأتي الإجابة السقراطية محددة معرفة النفس بـ«البصر». كيف البصر يا سقراط، ماذا تعني؟ يتساءل محاوره. يجيب سقراط: “إنْ قال لك شخص ما إن العين التي «ترى نفسها» مثلما يمكنك أن تقول لإنسان «اعرف نفسك»، كيف تفترض أن تكون الطبيعة والمعنى في هذا الخصوص؟ إن ذلك بالتأكيد هو أن العين يجب أن تنظر إلى ذلك الذي سترى فيه نفسها؟” 2. يشير سقراط إلى نوع من «المرايا» التي تنظر النفس فيها فتجد حقيقتها. فما هي هذه المرايا إذًا؟ إنه يضرب لنا مثلًا بـ«عَيْنُ الآخَر»؛ عين الآخر التي نراها وننظر فيها. ثمة مرايا عاكسة في كل عين لا يعرف المرء ذاته إلا بالنظر فيها. لكن، لِمَ يا سقراط ينظر المرء في عين أخيه ليعرف ذاته، ولا يكتفِ مثلًا بالنظر في المرآة؟
إن الآخر هنا –السمائي أو الأرضيّ، مع اختلاف درجة المعرفة– هو الشريك في معرفة الذات؛ ذاك الذي أرى فيه نفسي، ويرى نفسه هو الآخر فيَّ. إنها علاقة تبادلية لا تقوم على طرف دون آخر.
إن النفس لتعرف نفسها ينبغي أن تنظر لنفسٍ مثلها، أن تتسلل بفعل الحكمة إلى ذلك الجزء الخفيّ الواقع في العين البشري والمفتوح على الألوهة؛ لأن هذا الجزء –في رأي سقراط هنا– هو الأشبه للألوهة والأقرب منها. والنظر فيه، ومعرفته، يجعل النفس تعرف ذاتها بمساعدة نفس مثلها مفتوحة على العالم الإلهي، ذاك الذي أتت منه قبلًا ودخلتْ بخطيئة النسيان إلى العالم. لكن سقراط يضرب المثل هنا كي يقول أن هناك ما هو أصفى من عين الآخر يمكن أن يوصلنا لذاتنا، عن مرآة «أكثر تلغيزًا»، مرآة الإلهي التي ننظر فيها فتعكس ذواتنا، عن «الآخَر الكبير».
لكن مثال عين الآخر لمثال بديع يدل على مرآة أكثر عمقًا، مرآة معرفة الذات، تلك التي نبحث عنها جميعًا، المتمثِّلة في الآخر الكبير (الإلهي) أو الآخر الصغير (الأرضيّ). “في عين الآخر، ينتظم الخواء والليل، يصبحان كوزموسًا، أي عالَمًا” 3. فهو ليس مجرد غاية للوصول إلى وسيلة معرفة ذاتي، أي أداة، بل إنه العالم بأكمله، معرفتي التي سحبتُها من عينيْهِ ومن فَمِهِ. “ما ألمحه في المرآة و/ أو العين، ليس إذًا هويتي فقط، بل هوية كل شيء” 4. يقول سقراط: “إن من يفعل ذلك سيكون الأكثر احتمالًا لأن يعرف نفسه” 5.
إن الآخر هنا –السمائي أو الأرضيّ، مع اختلاف درجة المعرفة– هو الشريك في معرفة الذات؛ ذاك الذي أرى فيه نفسي، ويرى نفسه هو الآخر فيَّ. إنها علاقة تبادلية لا تقوم على طرف دون آخر.
انتظروا الحلقة القادمة من سلسلة “أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف” ………
- اقتبسنا العنوان هنا من كتاب لـ”جان فرانسوا ماركيه”، ترجمة: كميل غادر. ↩︎
- أفلاطون: “محاورة السيبيادس”، المجلّد الرابع من المحاورات الكاملة، إصدار: الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت – الحمراء، ١٩٩٤، ترجمة: شوقي داود تمراز، ص: ٣٢٨. ↩︎
- جان فرانسوا ماركيه: “مرايا الهوية – الأدب المسكون بالفلسفة”، ترجمة: كميل غادر، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى: بيروت – ٢٠٠٥، ص: ١٧. ↩︎
- نفسه، ص: ١٨. ↩︎
- المحاورات، ص: ٣٢٩. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
6 comments