السرد ضرورة قرآنية ج1 … بقلم: د. محمود فرغلي

بقلم: د. محمود فرغلي

d985d8add985d988d8af-d981d8b1d8bad984d98a السرد ضرورة قرآنية ج1 ... بقلم: د. محمود فرغلي

تتسم السردية القرآنية بأنها ذات طابع أدائي على كل مستويات إنتاجها وتداولها، هذا ما حاول محمود فرغلي في دراسته المعنونة ب(بلاغة الأداء السردي في القصص القرآني 2022م) مقاربة طبيعته وجمالياته، وهذه السردية لخصوصيتها لا تخلص لعملية الحكي المجرد، بل تتساوق مع النص، ومن ثم تؤدي وظائفَ وأدوارا أكثر من مجرد التسلية أو الإمتاع الفني، وقد حاول الباحث أن يفيد من حضور الأداء الواسع في مختلف الأنشطة البشرية والطابع التداولي للأداء اللغوي ليلقي الضوء على تفرد السردية القرآنية بما يؤكد مصدرها، إن السرد القرآني فعل لغوي أدائي مثير للدهشة، فكثيرا ما تتم مسرحة مشاهد بكاملة بكل ما يعنيه فعل المسرحة، وكثيرا ما تأتي القصة مكتنزة دلالتها من تساوقها، لتضرب مقاصدها في عدة اتجاهات زمنية تمتح من الماضي لتوجه الحاضر وتضبط المستقبل، لقد نزل القرآن على بشر وبلغة البشر، ومن ثم فهو يتضمن كل مقومات الأداء اللغوي التي تعرفها اللغة البشرية، مضافا إليها كل ما يحمله القرآن من رؤية كلية ترتبط بكلية علم الله سبحانه؛ وذلك انطلاقا من طبيعة السرد بوصفه طريقة في التفكير والبناء والنمذجة جُبل الإنسان عليها، فالبشر في مجال السرد أمام شكل أصيل من أشكال تحصيل المعرفة وبناء الفعل وتنظيم الخبرة، أي أننا لا نتعامل أساسا مع نموذج تمثيل، بل مع نموذج خاص لبناء الواقع وتكوينه، وبناء الإنسان وفق فطرة الله هو الهدف الأسمى للقرآن الكريم.

حاول الباحث تطبيق رؤيته للسرد القرآني وطبيعته الأدائية، من خلال مناقشة قضايا رئيسة تبرز جماليات الأداء السردي في القرآن الكريم، وهي كما نلاحظ تختلف عن التحليلات السردية الاعتيادية وهو ما تفرضه طبيعة النص وخصوصيته بكل معنى الخصوصية والتفرد، وأول هذه القضايا خاص بتساوق السرد داخل النص، فالسرد القرآني خطاب منسجم في سوره وآياته، لا يختلف عنها أسلوبا أو أداء، حيث تبرز كل سورة ذات نسيج أسلوبي وتركيبي واحد في إطار ما يطلق عليه البعض الوحدة العضوية مستعيرا المصطلح من الشعر، أو ما يعرف بالوحدة البنائية، هذه الوحدة التي لا تنفي التعدد وتتوجه للقارئ بالأساس، تستحثه على التدبر، وتأمُّل ما قد يراه من اختلافات ومتشابهات؛ لاستجلاء نقاط تقاطعها وما يبدو له أنه متشابه فينظر في اختلافه؛ ولهذا جاء الفصل المخصص للحديث عن التساوق بين السرد والخطابات داخل السور والآيات في إطار الوحدة الكلية للنص، وهو يتعلق فيما يتعلق بعملية دمج ورصف للسرد بأشكال التعبير والتوجيه والخطابات الأخلاقية، أي بمجمل المقاصد الدينية التي تم استيعابها داخل النص، دون إخلال بالتماسك النصي أو النسيج السردي.

وقد اقتضت خصوصية السرد القرآني أن يضرب صفحا عن مصطلحات في علم السرد لا تتوافق مع السرد القرآني في كل مستوياته، فالقصص القرآني لا يخاطب متلقيا سلبيا بل يسعى بمختلف السبل إلى استثارة عاطفته ودعوته إلى التدبر العقلي وترسيخ العقيدة بالحجة والبرهان، والقصة والمثال، وفي هذا الإطار يقف الباحث أمام القارئ المتدبر والمعتبر، خاصة أن الدعوة إلى التدبر والتفكر مبثوثة في مختلف آي النص الحكيم، والتي نصت على صنوف من القراء منهم من عضدته، ومنهم من رفضته وكشفت مثالبه، ومن جهة حضور الله وهيمنة إرادته الإلهية في القص استوقف الباحث الحضور الإلهي على ما عداه، وهو حضور هيمنة وتوجيه ونصرة وتدخل مباشر وكسر لقوانين الكون والزمن في مراحل ممتدة من التاريخ البشري، وقد تمظهر ذلك في مختلف القصص السابق للرسالة المحمدية، التي بموجبها حدث تغير في التدبير الإلهي وفق جدلية الغيب والواقع.

وفي هذا الإطار درس الباحث الأداء السردي في بابين رئيسيين، كل باب يتضمن خمسة مباحث.

جاء الباب الأول مهادا نظريا لتوضيح محاور أساسية حول مفهوم الأداء وعلاقته بالسرد القرآني، وفي هذا المهاد النظري توقف الباحث أمام ما ارتأى أنه يمهد لما يقصده بالأداء السردي فتوقف أمام إشكاليات قراءة القصص القرآني، خاصة ما يتعلق بقراءات القدماء والمحدثين الذين نظروا إلى تاريخية النص بصورة خطيرة شوهت كثيرا من مقاصد القصص، أو حاولت أنسنة النص إنتاجا وثقافة على نحو ما رأينا في ثلة من الباحثين العرب المسلمين وكثير من المستشرقين، لقد رأى الباحث أن السردية القرآنية ذات طابع أدائي على كل مستويات إنتاجه وتداوله، فهو كتاب عقيدة وهدى ورسالة خاتمة، وكل رسالة تتضمن مرسلا ومرسلا إليه، كل على شروطه، والقرآن الكريم بطبيعته لا يخلص لعملية الحكي المجرد، بل يتساوق مع النص ومن ثم يؤدي وظائف وأدوارا أكثر من مجرد التسلية أو الإمتاع الفني، وربما أفاد الباحث من حضور الأداء الواسع في مختلف الأنشطة البشرية والطباع التداولي للأداء اللغوي، فالسرد القرآني فعل لغوي أدائي مثير للدهشة، فكثيرا ما تتم مسرحة مشاهد كاملة بكل ما يعنيه فعل المسرحة، والقصص في حركيته يتحرك زيادة ونقصا إيجاز وتفصيلا وفصلا ووصلا، فقد يقتصر الأمر على ذكر اسم الرسول، أو ذكره في آية واحدة أو أكثر من آية أو في خبر سردي بسيط قوامه الفعل ورد الفعل، وقد تأتي القصة مفصلة بأحداث وشخصيات وفضاءات متعددة، ناهيك عن تكرار مشاهد وحوارات والسكوت عن مشاهد بعينها لترد في سياق آخر إلى غير ذلك من ظواهر مثيرة للدهشة والتأمل مما لم نره ولن نراه في سرود البشر، ومما يعطي السرد فاعلية وعنفوان وتنوع يبرزه في صور الأداء الفذ المغاير الذي ما كان للبشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

لقد نزل القرآن على بشر وبلغة البشر، ومن ثم فهو يتضمن كل مقومات الأداء اللغوي التي تعرفها اللغة البشرية، ملاصقا لها كل ما يحمله القرآن من رؤية كلية ترتبط بكلية علم الله سبحانه. كما كانت لحظة الغار إيذانا بدخوله إلى رحاب اللغة لمقتضيات التواصل والفهم، ولبشرية الرسول ﷺ ذاته، دون نفي لمصدره الإلهي، أو اختلافه النسقي عن سائر الخطاب، ومن هذا المنطلق درس الباحث العلاقة بين السرد وهوية النص على اعتبار أن لكل نص هوية تشبه الهوية الشخصية البشرية، وتَبرز هوية النص من أداءه المختلف على كل مستويات الأداء بنية وخطابا، وعليه فإن الباحث يرى أن قراءة القصص القرآني لها منطلقات مؤسَّسة على خصوصية النص في كليته، ومن ثم توقف أمامها في محور ثالث، حيث يختلف الاستخدام الإلهي للغة عن الاستخدام البشري.

كذا يختلف السرد القرآني عن السرود البشرية في أنه لا يقدم لمجرد المتعة الفنية، كما يخالفها في الحضور الإلهي في السرد بصورة تشبه حضوره في الكون، وهو ما يفتح الباب واسعا لمعرفة العلاقة بين الله والإنسان من جهة والعلاقة بين الإنسان والكون الذي خلقه الله فيه من جهة أخرى، فهذا السرد القرآني شأنه شأن القرآن كله -وشأن الكون كله- يدعو إلى التدبر وإعمال العقل والفكر من قبل المتلقي، ويؤكد ضرورة التعامل مع قدر أهميته ومركزيته في حياة الإنسان المؤمن به والمتعبد بتلاوته، وما ينطبق على السرد ينطبق على مختلف أنواع الخطاب القرآني من خصوصية في التشكيل والصوغ الأسلوبي والمقصد التواصلي، مما يستنفر المتلقي لعمليات عقلية وفكرية عديدة إضافة إلى تذوق الجانب الجمالي الملازم له، وأين الرسالة التي تتغيا التأثير ولا يكون الجمال بكل مستوياته لصيقا بها نظما وترتيبا وشكلا ومضمونا؟

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

اترك رد

ندوات