أين ذاتي، أيها اللص؟ – جحيم الآخر لدى سارتر .. بقلم: أبانوب خلّاف .. أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف
يأتي المقال هنا ضمن سلسلة مقالات عنوانها الرئيسي “أنطولوجيا الآخر في العالم المخيف”، ولكل مقال عنوان فرعي: بدأنا بـ”مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي”، وهو المقال رقم صفر. ثم نشرنا المقال رقم ١ بعنوان: “ما الذي تُحدِّق فيه، أيها الغريب؟”، وكان بمثابة مقدمة. ومن بعده نشرنا المقال رقم ٢ بعنوان: في ضيافة الموت – هايدغر ومسألة «الوجود – مع». ثم نشرنا المقال رقم ٣ بعنوان: في ضيافة الآخر – ليفيناس ومسألة الآخرية. ونحن الآن أمام المقال رقم ٤ بعنوان: أين ذاتي، أيها اللص؟ – جحيم الآخر لدى سارتر.
بقلم: أبانوب خلاف

أين ذاتي، أيها اللصُّ؟
نحن هنا بصدد حال من الوعي له بنية مطابقة لتلك البنى التي وصفناها سابقًا. إنه الوعي بالذات غير الموضوعي، [الوعي] واعيًا بذاته كخزي… بالإضافة فإن بنيته قصدية. إنه إدراك مُخزٍ، إدراك مُخزٍ لشيءٍ؛ وهذا الشيء هو أنا. أنا خزيان مما أنا إياه. لكن، هو في بنيته الأولية خزيٌ أمام شخصٍ ما.. أنا خزيانٌ من نفسي كما أبدو للآخر” 1.
تدور مسرحية “الأبواب المقفلة” 2 لـ”سارتر” حول وجود ثلاثة أشخاص في الجحيم، لا يعرف أحدهم الآخر: رجل وامرأتان، تحتجزهم غرفة في الجحيم من طراز الجمهورية الثانية، مكان بلا دموع كما يقول. ولم يكن هناك أي نوع من أنواع العذاب المعروف، لا جلاد، ولا بحيرة نار وكبريت! يسود المسرحية نوع من أنواع الملَال، إذ لا توجد وسيلة للأنس إلا ببعضهم البعض.

لكن بعد حين يتحول الأنس والهرب من الملال إلى خِلاف وإلى مُشَاجرة. إذ يحدد “غارسان” أن السكوت الآن هو المنقذ من هذا العبث الكامن في غرفة الجحيم. يقول: “نعم، ونحن… نكون قد نجونا. أن نسكت. أن يتطلع كل إلى ذاته”. لكن المرأتان تناديان عليه بين الحين والآخر، فبعد غضبه من إزعاجهن قال أننا يجب أن نغمض أعيننا ونحاول نسيان بعضنا البعض، كي تُكتَب لنا النجاة! لكن إحداهن ترفض، إذ تريد أن تختار جحيمها بنفسها، لا بما يحدده هذا المدعو “غارسان”. فيبدو أن الصمت لن يَصلُح، وأن محاولة الفرديّة فاشلة في وجود الآخَر في هذه الغرفة المغلقة، فيبدأ في الكلام مرة أخرى.
وبالطبع لا يوجد فيهم ملَاكًا أو بارًّا، فكلهم قد أجرموا ودخلوا هذا المكان بفعل خطيئة ما، لم يخبرهم أحد من الجحيم ما هي الخطيئة، لكنهم جميعًا عرفوا ما فعلوا. وبعد أن أقرَّ الجميع بذنبه أصبح كل واحد منهم في حكم الآخر، وفي سخريته أيضًا. وبعد حوار طويل، يأخذ “غارسان” باشتهاء “استيل” تحت مشاهدة “ايناس”. وكان من ايناس أن تقول في غضب “اِفعلا ما تريدان. فأنا هنا أنظر إليكما. سوف لا أتركك بناظري يا غارسان”. وكأن النظر للغير فعل عقاب عليه.
وبعد، يأتي الحكم على أفعال الآخر مرة أخرى. ثم خدعت “استيل” “غارسان”، وأصبحت الغرفة مليئة بأشخاصٍ لا يتحمل أحدهم الآخر. وكلٌّ أراد الفرار من آخرِه. حتى أن غارسان كان يفضِّل العذاب بالأحذية القديمة، بالرصاص الذائب، بالخشب، بكل ما يحترق ويمزق، كان بالنسبة له مئة عضَّة، أو الضرب بالسّوط، أفضل من أن يبقى في هذه الغرفة.
وفجأة ينفتح الباب المغلق، وللسخرية يأبى الخروج مَن كان يشتهيه. ومن بعد، يبدأ الشجار مرة أخرى بينهم. ثم يبدأ غارسان في المشي في الغرفة، وبعد تأمل بسيط يقول بسخرية: “إذًا، هنا الجحيم”. أين الكبريت والحطب والشباك؟ يا لها من مهزلة! فلا حاجة لكل هذا؛ “فالجحيم هو الآخرون!”. وبعد قليل تقول إحداهن “هل تفهمين؟ نحن معًا إلى الأبد”. المرأة الأخرى في سخرية سوداء: “إلى الأبد!”. غارسان، بسخرية هو الآخر: “إلى الأبد!”. ثم صمت طويل، يكف الضحك وتتبادل النظرات، فيقول غارسان: “لنبدأ من جديد”.
إنَّ سارتر يصوّر العالم كغرفة صغيرة تحتوي الناس جميعًا: بشر لا يعرف أحدهم الآخر، يلتقون في العالم، فيصير كل واحد منهم جلَّادًا للآخر. إن الوجود هو بالضرورة “وجود مع” كما رأينا عند هايدغر. وبالنسبة لسارتر أن الجحيم هو الآخر، لكنه جحيم مقبول؛ لأنه رفض الخروج من الغرفة نحو المجهول، المجهول الذي يقع في الخارج، والذي جاءت منه حرارة مخيفة عندما فُتِحَ فجأةً.
لذا يحدد سارتر أن “الوجود مع” هو وجود ضروري، ولا مفرّ منه، لكنه أيضًا يجلب جحيمًا، وليس الجحيم هو في وجود الآخَر “الخَام”، بل في وجود الآخر بالنسبة لي، ووجودي أنا بالنسبة له؛ فتكون نظرة الغير هي الجحيم، ويكون دخوله إلى عالمي أشبه بسرقة.
يحدد سارتر الآخر مرة كموضوع، ومرة أخرى كذات، وهو، في الحالتين، جحيم ما. تصور أنك تجلس أمام نهر ما في منتزه طبيعي، وحولك الطبيعة البهيّة، وإذ فجأة يدخل عليك هذا “الآخر”. ماذا يحدث هنا؟ يدخل كموضوع في نظر الذات؛ لأنك هنا الذي تنظر إليه وليس العكس. وبكونه من نفس طينتك، فإن الأشياء التي كانت لوهلة تتجمع حولك، أصبحت تتجمع حوله هو، كأنه بنظرته إلى ما تنظر إليه قد سرق العالم منك، وأن إزالته من المشهد ليست بنفس سهولة إزالة المقعد الذي أمامك على سبيل المثال، بل إن حضوره «حضور احتماليّ الإزعاج»؛ “فقبل أن أراه كان ما في المنتزه من موضوعات، يتوجه إلى ما لي أنا وحدي صلة به 3.
رغم هذا الوجود المزعج للآخر كموضوع، فإن الأزمة الحقيقية تكمن في وجوده كذات تنظر إليَّ؛ أنا هنا موجود كمفعولٍ به، أي الشيء الذي يراه الآخر. إن سارتر يدعونا إلى النظر إلى الآخر كذات قبل أن ننظر إليه كموضوع؛ لأنه لا يتحول إلى «موضوع ذا دلالة» إلا بكونه ذاتًا كاملة. فبأي صورة يا ترى ينظر لي هذا الآخر؟
إن الرابطة بيننا تكمن في “النظر” إلى بعضنا البعض، فكل ما أنا عليه يقع تحت ناظره، فيصير كالرقيب، وأصير أنا كالموضوع بالنسبة إليه، أي إنه يصبح في علوٍّ أعلى من عُلوِّي، وأصير أنا “موجودًا للغير”، ومن هنا ينشأ الجزع والقلق على نفسي، “إذ أشعر أن إمكانياتي مهددة من جانب الغير” 4.
نسأل مرة أخرى: فبأي صورة يا ترى ينظر لي هذا الآخر؟
“هذا “الوجود الذي هو أنا للآخرين”، هو خارج سيطرتي: إن كان الآخر يرى المرء بهذا القبح، فما هو بقادر على فعل الكثير بشأن هذا، لا لتأييد هذا الحكم أو لرفضه! للمرء أن يحتج أو أن يقص شعره أو يُجري جراحة تجميل: وقد يظل الآخر مصرًّا على رؤية القبح” 5.
ما يريد أن يقوله سارتر في مقولته “الجحيم هو الآخرون” أن هذا الآخر ليس موضوعًا لي أنا الذات فقط، بل إنه الذات التي تحول ذاتيتي إلى موضوعٍ بفعل النظر. فأختفي وأضيع في موضوعية ليست لي. بالنسبة إلى سارتر، ما يقوله الآخر لي هو: أنا في علوٍّ أعلى من علوِّك. تصور معي طفلًا يلعب منفردًا، وفجأة يجد من يتلصص عليه بالنظر، أول ما يفكر فيه الطفل: من هذا الغريب؟ أأستطيع اللعب أثناء تلصصه؟ أشعر بقيدٍ يسلسل يدي، فلا أستطيع اللعب ولا هو يكفّ النظر. أنا، في وجود الآخر، ضائعٌ وتائهٌ ومغتربٌ عن ذاتي، وكأن الذات تقول في حسرةٍ من أمرها لهذا الآخر: أين ذاتي، أيها اللصُّ؟
انتظروا الحلقة القادمة من سلسلة مقالات “أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف” ………
لقراءة الحلقات السابقة اضغط الروابط التالية:
0- مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي.. بقلم: أبانوب خلّاف.
1- ما الذي تُحدِّق فيه أيها الغريب؟ .. بقلم أبانوب خلّاف.
2- في ضيافة الموت هايدغر ومسألة «الوجود – مع» .. بقلم: أبانوب خلّاف.
3- في ضيافة الآخر – ليفيناس ومسألة الآخرية .. بقلم: أبانوب خلّاف.
هوامش ومصادر:
- كاثرين موريس: “چان بول سارتر”، ترجمة: أحمد علي بدوي، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى: ٢٠١١ – القاهرة، ص: ٢٠٣. ↩︎
- چان بول سارتر: الأبواب المقفلة، ترجمة: هاشم الحسيني، منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت. ↩︎
- كاثرين موريس: “چان بول سارتر”، ص: ٢٠٦. ↩︎
- عبد الرحمن بدوي: “دراسات في الفلسفة الوجودية”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، الطبعة الأولى: ١٩٨٠، ص: ٢٦٧. ↩︎
- كاثرين موريس: “چان بول سارتر”، ص: ٢١٧. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد