إله الألم .. تأليف: هارلان إليسون .. ترجمة: أنطونيوس نبيل
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

كانت الدموعُ مستحيلةً عليه، مع أنَّها كانت إرثَهُ. كان الحزنُ عصيًّا على إدراكه، مع أنَّه كان حقَّهُ المُكْتَسَبَ بالولادة. الوَجَعُ الذي كان مُحَرَّمًا عليه، لم يكن لَهُ بضاعةٌ يُتاجرُ بها سواه. ففيما يَخُصُّ ترينتي، لم يكن هناك شقاءٌ ولا بهجةٌ ولا قلقٌ ولا عناءٌ ولا عُمْرٌ ولا زمنٌ ولا إحساسٌ.
وهذا بالضَّبطِ ما خطَّط له إيثوس أن يكونَ.
فقد تَمَّ تنصيبُهُ مِنْ قِبَلِ إيثوس-سلالة من الكائنات، في مكانٍ ما/مِن زمنٍ ما، بَسَطَتْ نفوذَها الأخلاقيِّ والقِيَمِيِّ على العوالم جميعِها- إلهًا للألمِ. ترينتي، الذي لم يُضطرْ إلى مقاومة تيار الزمن الجارف والذي لم تُعَوِّقْهُ متطلباتُ العواطفِ، وَقَعَتْ على كاهلِهِ المسئوليةُ الأبديَّةُ عن توزيع الألم والحزن على الحشود الغفيرة التي لا حصرَ لها من المخلوقات التي صارتْ بها العوالمُ مأهولةً.
كان ترينتي محتجبًا في خلفيَّةِ النُّجومِ المتبدِّلةِ، يبعثُ مِن مقصورتِهِ مُتَعَدِّدَةِ الأوجِهِ شقاءً وبؤسًا، بنِسَبٍ تبلغُ من التعقيدِ ما تضيقُ عنه العبارةِ، إلى كُلِّ المخلوقاتِ سواء تلك الواعية منها أم تلك التي بالكادِ تقدرُ على الإتيانِ بردِّ فعلٍ لا تملك الكائناتُ أحاديَّةُ الخليَّة غيرَهُ.
كان ترينتي إلهَ الألم لكلِّ العوالم، فهو الذي يوزِّعُ ما يُعَكِّرُ صفوَ الحياةِ مِن لحظتِها الأولى إلى لحظتِها الأخيرة: الدموعَ والوجعَ وما يسحقُ الرُّوحَ مِنْ فزعٍ وبلاءٍ. وفي منأى مِن الشيخوخةِ والموتِ والإحساسِ، كان وحيدًا فريدًا في مقصورتِهِ، يمضي في عَمَلِهِ بلا تردُّدٍ ولا توقُّفٍ.
لم يكن ترينتي أوَّلَ مَن تقلَّد منصب إلهِ الألمِ، فقد تحمَّلَ هذه المسئوليةَ مِن قبلُ آخرون. لم يكن عددُهم كبيرًا بل كانوا محضَ حفنةٍ قليلةٍ، وأمَّا السببُ وراءَ تنحيتِهم، فهو أمرٌ لم يتساءل عنه ترينتي قطُّ.
كان هو المُجْتَبَى مِن سلالةٍ شبهِ سرمديَّةٍ، وكان عَمَلُهُ أَنْ يُمَرِّرَ جرعاتٍ دقيقةٍ مِن الكَمَدِ، بكميَّاتٍ مُعَايرةٍ بإتقانٍ ومُطَابِقَةٍ لما حدَّدَهُ إيثوس. لم يكن عملُهُ منطويًا على أيِّ إحساسٍ أو قلقٍ، بل مُقتصرًا على الانتباهِ إلى واجبِهِ فحسب. ظلَّتْ هذه وظيفتَهُ وفي ذات الوقتِ فريضتَهُ التي لم يَشُبْهَا أدنى تقصير، وكَمْ كان عجيبًا أَنْ يشعر بعد كلِّ هذا الزمنِ بالقلقِ.
لقد بدأ القلقُ منذ وقتٍ مديدٍ، وإذ لم يكن لديه إدراكٌ للوقتِ، فالتاريخ الوحيد المحَقَّق الذي يتذكَّره هو حينما صارت الأميبا أكثر انتشارًا من الباراميسيا (جنس من الأوليَّاتِ المُهَدَّبةِ) في المحيط العظيم الذي سيصير صحراءَ جابي في القريب العاجل. وعبر القرون التي تُقاس بالسنتيمترات، نما هذا القلق طبقاتٍ فوق طبقاتٍ من الأبدِ، واستقرَّ كضبابٍ ليُشّكِّلَ الطبقات الجيولوجية للماضي.
والآن، ها هوذا الآن.
على الرُّغم مِن الألمِ الغريبِ في غُدَّتِهِ العصبية المركزية، والإعتامِ المتفاقمِ في مقلتي عينيه، والأفكارِ المجنونةِ التي أفرزها مُخُّهُ الألمعيُّ ثلاثي القبابِ بسرعةٍ بلغتْ حدَّ التعلثمِ والتي كان على يقين أنُّه عاجزٌ عن الإتيان بها، على الرُّغمِ مِن كلِّ هذا كان ترينتي يؤدي مهامَهُ الآنية وفقَ ما يقتضيه منصبُهُ.
كان قد أرسل ألمًا لا يُطاقُ إلى سُكَّان كوكبٍ ثلاثيّ الشموسِ يقعُ في عنقودٍ نجميٍّ يُسَمَّى سنيل (الحلزون)، وأمطرَ عناءً مُحْتَمَلًا على مستعمرةٍ زراعيةٍ برزتْ على وجه كوكبِ جاكوبيتي يو، وصَبَّ شقاءً لا يُمكنُ تصوُّرُهُ على طفلٍ عنكبوت لطيمٍ يتيم الأبوين في كوكبِ هايديج التاسع، وأوقعَ عذابًا شديدًا بلا رحمةٍ على عِرْقٍ بريءٍ مِن السُّكَّان الأصليِّين البُّكْمِ لكوكبٍ أجدبَ بلا اسمٍ يدورُ حول شمسٍ مُحْتَضَرةٍ في النظام الكوكبيّ 707.
وخلال كلّ هذا، كان ترينتي يُعاني وهو يؤدي مسئولياتِهِ.
ما لم يكن بالإمكان، كان. ما لم يكن ليقع، وقع. إنَّ المخلوقَ الذي لا روحَ له ولا مشاعرَ، والذي لم يَحِدْ عن النظامِ الصَّارمِ مطلقًا، والذي اصطفاهُ إيثوس ودعاهُ “إلهَ الألمِ”، قد أدركَهُ مَرَضٌ. لقد بدأ يُبدي اهتمامًا ممزوجًا بالقلقِ. أخيرًا، بعد قرونٍ طويلةٍ مُخْتَزَنةٍ عميقًا في وعيِهِ حتَّى صارَ مِن المُحالِ الكشفُ عنها أو إحصاؤها، بلغَ ترينتي اللحظةَ الآنيَّةَ التي لم يَعُدْ قادرًا بعدها على أن يَدْعَمَ أعمالَهُ التي لا طاقةَ لَهُ بتَحَمُّلِها.
كانت المظاهرُ الجسديَّةِ لاضطرابِهِ العقليّ جَمَّةً. أصبح رأسُهُ المستطيلُ الشَّكلِ، يَئِزُّ ألمًا خافقا؛ ومقلتا عينيه يغشاهما الإعتامُ، بقدرٍ أكبرَ قليلًا كُلَّ عَقْدٍ من الزمان؛ وقروحُهُ المعويَّةُ (الاثنا عشريَّة) الضروريَّةُ لنظامِ الغُدَدِ الصَّماءِ لديه للقيامِ بوظيفته الطبيعيَّة، أخذتْ في إظهارِ خللٍ بَيِّنٍ جعلها تبدو كشمعاتِ إشعالٍ تالفةٍ في سيارةٍ قديمةٍ؛ وضربةُ ذيلِهِ السمندليِّ الهائلةُ صارتْ فريسةً للوهنِ المُطَّرِدِ، مما يَدُلُّ على أَنَّ استجاباتِه الحركيَّة أصبحت أضعفَ. صارتْ ملامحُ ترينتي، الذي كان يُعَدُّ دائمًا مثالًا جميلًا لسلالته، تُعْلِنُ تدريجيَّا عن حزنِهِ وإنهاكِهِ، بل حتَّى عن مسحةٍ مِن بؤسٍ يُثيرُ الشفقةِ.
وأرسلَ ترينتي البلاءَ إلى مخلوقٍ مُدَرَّعٍ يطيرُ، له مُخٌّ بحجمِ السُّوسَةِ، يسكنُ كوكبًا مُعْتِمًا على حافةِ سديم كيس الفحم؛ وبعثَ الخوفَ والقشعريرةَ إلى طيفٍ كالدُّخان يُمَثِّلُ كُلَّ ما بَقِيَ مرئيًّا من عِرْقٍ عظيمٍ تعلَّمَ الاستغناءَ عن الأجسادِ منذ قرونٍ مديدة، في الشمسِ المُسَمَّاةِ ڨيرتِل؛ وجعلَ همَّتَهُ وإخلاصَهُ أجنحةً للتعاسةِ والرعبِ والغُمَّةِ، ووجهَّهم إلى كوكبٍ خماسيّ الشموس يقعُ في العنقود النجمي المسمَّى الحصان الأبيض، ليُصيبَ بهم عُصبةً مِن القراصنةِ السَّفَّاكين للدماء، ورَهْطًا مِن السياسيِّين المُحَنَّكين، ومَبْغًى للعاهراتِ اللواتي لا سبيلَ إلى هدايتهن. هناك في ظُلْمةِ الفضاء توقَّفَ وحيدًا، وعقلُهُ يَحِّومُ الآن في هبوطٍ لولبيٍّ للمرة الأولى في غُرفةٍ غريبةٍ مُرْبِكَةٍ مِن التفكير، لقد تَلَوَّى داخل نفسه.
لقد تمَّ اصطفائي لأنني كنتُ مُطَهَّرًا من كَدَرِ العُسْرِ الذي أُبْدِيه الآن. ما هذا العذاب؟ ما هذا الإحساس الكريه النَكِد الذي لا راد لبُرَحَائه ولا مُعَقِّب لجَورِهِ والذي يفترسني ويمزِّقني ويجنحُ بأفكاري للزَّيْغِ ويصبغُ كُلَّ رغباتي بالعتمةِ؟ هل مسَّني الجنون؟ إنَّ الجنونَ وسلالتي لنقيضانِ؛ فلم يمسس أحدًا منها جنونٌ قطُّ. هل طالَ بي المُكْثُ في هذا المنصبِ إلى حدِّ الشَّططِ، هل أخفقتُ في الإيفاءِ بواجباتي؟ لو كانَ هناك إلهٌ أشدُّ قوةً منِّي أو مِن الآلهةِ إيثوس، لكنت قطعًا سألوذُ بِهِ طالبًا الغوثَ، ولكنْ ليس هناك إلَّا الصمت والليل والنجوم، إنني وحيدٌ أتجرَّعُ وحدتي حتَّى الثمالة، هأنذا إلهٌ ليس له أنيسٌ هنا سوى الوَحْشَةِ، أؤدي ما يَجِبُ عليَّ فِعْلُهُ، مُسْتَفْرِغًا فيه غاية الجهدِ بلا دَعَةٍ ولا تقصير. وأخيرًا: يَتَحَتَّمُ عليَّ أَنْ أعرف، يتحتَّمُ عليَّ أن أعرف!
.. بينما كان يفتلُ مَسَدًا من الكآبة مُدَلًّى إلى مخلوقٍ حشريٍّ له قفصانِ صدريَّانِ على قمر آيو التابع للمُشْتَرِي، ويَرْكُزُ رمحًا مِن الهلعِ في كتلة من الطين تملكُ أدنى درجاتِ الوعي على كوكب أكاراس الثالث، ويدفع بمهماز الألم إلى شفا الانتحار موجةً كهربائية لها القدرةُ على توليد توافقياتٍ ساحرة ذات خمس عشرة نغمةً على كوكب سيندون بيتا الخامس، ويجرَّدُ شيئًا شبيهًا بالبّزَّاق مثيرًا للشفقةِ مِن نصفِ ملذاتِهِ في كهوف الميثان على كوكب كككللل الرابع، ويغزلُ مِن المرارةِ والتعاسةِ أكفانًا لرجلٍ يُدعى كولن مارشاكعلى كوكبٍ لا يُؤْبَهُ لَهُ يُدعى سول الثالث، الأرض، تيرا، العالَم…
وأخيرًا: يَتَحَتَّمُ عليَّ أَنْ أعرف، يَتَحَتَّمُ عليَّ أن أعرف!
التقط ترينتي نموذجًا مصغَّرًا للأرضِ مِن صندوق العرض، وأخذَ يُحَدِّقُ فيه. يا لَهُ مِن شيءٍ ضئيلٍ، يا لَهُ مِن شيءٍ عاجزٍ، ذاك الذي سيستعينُ به إلهُ الألمِ في إسرائه ليلًا.
لقد انتقى أحدثَ مَنْ كانوا محطَّ انتباهِهِ، بما أنَّهم جميعَهم سواسيَّةٌ أمامه، وغادرَ مقصورتَهُ المُغَلَّفةَ باحتجابِها، تاركًا إياها مُعَلَّقةً كشيءٍ شفَّافٍ في خلفيةٍ مِن النجوم. ها هو ذا ترينتي، إلهُ الألمِ لكلِّ العوالم للمرةِ الأولى، في كُلِّ تلك القرون التي قضاها في حياةٍ من البذلِ لم يَجْنِ خلالها أيَّ شيءٍ قَطُّ، يغادرُ موضعَهُ، ويغادرُ لحظتَهُ الراهنةَ ويمضي بعيدًا ليكتشفَ. ليكتشفَ… ماذا؟ لم يكن لديه سبيلٌ إلى معرفةِ ما الذي خرج مِن أجلِ اكتشافِهِ. وكانت هذه المغادرة هي الإسراءَ الليليَّ الأوَّل لإلهِ الألمِ.
وُلِدَ بيتر كوسليك في مقاطعةٍ قَزَمَةٍ، تقعُ في دويلةٍ بأوروبا الوسطى كانت قد ابتلعتها منذُ زمنٍ بعيدٍ قوةٌ ضئيلةٌ صارت الآن عضوًا في السُّوقِ المشتركة. وفي باكورة العشرينيَّات من القرن العشرين غادر أوروبا مبحرًا على متنِ سفينةِ شحنٍ متوجهةٍ إلى بوليفيا، وبعد أَنْ شقَّ طريقَهُ كادحًا عبرَ نصفِ دزِّينةٍ من جمهوريات الموز كمساعدٍ على سطح السفنِ وكعاملٍ، انتهى به الحالُ على أحد الشواطئ الداخليَّة للولايات المتحدة الأمريكيَّة وذلك في عام 1934.
ومن فوره هبط إلى الأرض ليُثْمِرَ ويصيرَ بدينًا. عملَ فترةً قصيرةً في مخيَّمٍ لوحدة الصيانة المدنيَّة، وفترةً أقصرَ كحارسٍ لملهى ليليّ في ولاية كانساس، ومُدَّةً في مَشْغَلِ ولايةِ إلينوي، وأمضى مُدَّةً طويلةً على خط تجميع شركة بونتياك يصنعُ جزءًا غامضًا لقطعةٍ مبهمةٍ مِن مكونات باطن الطائرة بوينج بي-17، وفترةً وجيزةً أشبه بالنَّزوةِ العابرةِ كمالكٍ لمزرعة توتٍ، ثُمَّ أمضى زمنًا مديدًا كمتشرِّدٍ وسِكِّيرٍ. وفي هذا مُوجَزٌ وافٍ لحياتِهِ.
الآن، في اليوم المعلنُ عنه في أيِّ روزنامةٍ يملكُهَا رجلٌ عاقلٌ، كان بيتر كوسليك مُخًّا خَضِلًا- مدمنًا للخمر غارقًا في لُجَّةٍ مِنْ أرائجَ وأبخرةٍ تتصاعدُ مِنْ افتقارِهِ إلى الخمر حتَّى صارَ تمييزُهُ كإنسانٍ أمرًا أشبهَ بالمُحَالِ.
هوذا راقدٌ مِن فرطِ الثَّمالة ولكن في سكونٍ، في زقاقٍ على بُعْدِ مبنيين من محطة حافلات جرايهاوند في وسط مدينة لوس أنجلوس، هوذا بيتر كوسليك -العمر 50 عامًا، الوزن 95 كيلو جرامًا، الشعرُ وَضِرٌ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، العينانِ حمراوانِ ورطبتانِ ومغمضتان- قد مات كالكلب الشريد بلا صلاةٍ ولا إكرامٍ. لقد مات بيتر كوسليك بهذه البساطةِ واللامبالاةِ، لم يكن في موتِهِ ما هو جديرٌ بالذِّكرِ بالنسبة لجميع الرجالِ -الوافدين على باكورةِ شيخوختِهم والمرتدين معاطفَ مفرطةَ الطولِ مِن بقايا الملابس العسكريَّة- الذين مرُّوا بمدخلِ الزقاق بلا انتباهٍ ولا اكتراثٍ.
لقد انهارَ مُخُّه، وتوقَّفتْ رئتاهُ عن الشَّهِيقِ، وأبَى قلبُهُ أنْ يَضُخَّ، وجَمُدَ الدمُ في أوردتِهِ، وأحجمتْ أنفاسُهُ عن المرورِ بشفتَيْهِ. لقد مات وفي موتِهِ نهايةُ قِصَّةٍ وبدايةُ قِصَّةٍ.
بينما كان يرقدُ ميتًا هناك وشطرٌ من جذعِهِ مُتَّكِئٌ على جدارٍ من الطوب يحملُ إخطارًا ممزقًا يُعْلِنُ عن مباراةٍ للملاكمةِ من الوزنِ الخفيفِ تجمعُ بين ملاكمَيْنِ أخرقَيْنِ صارا منذ زمنٍ بعيدٍ مُكَفَّنَيْن بضباب النسيان ومدفونَيْن عميقًا في أضابيرِ مجلةِ رينج المُخْتَصَّةِ بالملاكمة، بَلَغَ بخارٌ رقيقٌ معتدلُ الحرارةِ وشاحبُ الاخضرارِ جثَّةَ بيتر كوسليك وتَلَمَّسها ثُمَّ تلبَّسها؛ هوذا ترينتي قد هبط إلى كوكبِ الأرض، سول الثالث.
لو كان بالإمكانِ صُنعُ مرثيةٍ مرقومةٍ على البرونز وتعليقُها رُبَّما على جدار الزّقاقِ كشاهدِ قبرٍ للمخِّ الخَضِلِ المشبَّعِ بالخمرِ، فإنَّ أنسبَ صياغةٍ لها ستكون كالآتي: هنا يرقد بيتر كوسليك. ما مِن شيءٍ في حياتِهِ أجدرُ بالذِّكْرِ مِنْ رحيلِهِ عنها.
كان الخطيبُ البدينُ القائمُ على صندوق شحنٍ خشبيِّ قد اجتذب إليه حشدًا ضخمًا وكانت رخصتُهُ المغلَّفةُ بالبلاستيك مُسَمَّرةً في عصا مِكْنَسَةٍ شُحِذَتْ وغُرِزَتْ في الأرض. وعلى الجانب الآخر من المنصَّةِ المؤقتةِ كان العلمُ الأمريكيُّ معلَّقًا في ارتخاءٍ على ساريةٍ، وكان العلمُ يحتوي على ثمانٍ وأربعين نجمةً؛ فقد تمَّ شراؤه منذ زمنٍ بعيدٍ قبل انضمام ولايتي هاواي وألاسكا إلى الولايات المتحدة، ولكن الأعلام الحديثة ليستْ مَجَّانِيَّةً-
“أولئك السَّفَلَةُ! إنهم مياهُ الصرف الصحيِّ تُصَبُّ في دمائكم! انظروا إليهم، هل يشبهونكم في الشكلِ؟ هل يشبهونكم في الرائحةِ؟- تلك الروائح، بل تلك النتانة التي تسعى بيننا مُتَنَكِّرةً على هيئة بشرٍ! هذه هي حقيقةُ أمرهم، إنهم نتانةٌ لها حقُّ التصويت، جميعهم، الزنوج، اليهود الذين رفضوا التأشير بعلامةِ إكس على أوراق دخولهم لبلادنا كراهةً منهم للصليب والذين يملكون الأراضي والمساكن التي تعيشون فيها، الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم ذوو شأنٍ عظيمٍ! الغُثاء اللاتينيّ، النَّجَسُ البورتوريكيُّ الذي يحتلُّ شوارعكم ويغتصبُ نساءكم ويُدَنِّس بأَيَادٍ مُقَمَّلةٍ طُهرَ بناتِكم الصغيراتِ البيضاواتِ، أولئك الأوباش…”
كان كولن مارشاك واقفًا وسط الحشدِ، يصوِّبُ نظراتِهِ نحو الخطيب البدين ويداهُ المرتجفتانِ ملحودتانِ عميقًا في جيوبِ معطفِهِ الرياضيّ، ورأسُهُ يَؤُزُّها نبضٌ أليمٌ، وسيجارةٌ مُهْمَلَةٌ لم يُشعلها تتدلَّى مِن بين شفتيه. كُلُّ كلمةٍ لَكْمَةٌ.
“…الشيوعيُّون يغزون الدوائر الحكوميَّة، أهذا ما ينبغي علينا القبولُ به؟ عاشقو الزنوج وبيادق اليهود النُغَلَاءِ الذين يمتلكون الشركات. إنهم يريدون قتلكم جميعًا، قتلنا جميعًا، يريدون قتل كلّ فردٍ منَّا، إنهم يريدون أن نقولَ لهم: أهلًا بكم، هلمَّ ضاجِعُوا أخواتنا وزوجاتنا، ومارِسُوا كُلَّ الأفعالَ البذيئة التي تُلَطِّخُ نقاءَ عِرْقِنا! هذا ما يُخْبرنا بِهِ الشيوعيُّون في الدوائر الحكوميَّة الذي يسيئون استغلالَ ثقةِ الجماهير. وبِمَ نَرُدُّ عليهم نظيرَ ما يخبروننا بِهِ؟ إننا نقول بملء أفواهنا: لا فرصةَ لكم بيننا أيُّها اللاتينيون الحُقراء والبورتوريكيون النُّغلاء والزنوج الوُضعاء الراغبون في سلبِ إرثنا الطاهر! نقول لهم، اذهبوا إلى الجحيم، مباشرةً إلى الجحيم غير مأسوف عليكم، أيُّها الزَّوَانُ الذي نبتَ وسطَ حنطتنا وعلينا أن نجتثه ونحزمه ونلقي به إلى النار…
عند هذا الموضع من الخطاب، تسلل رجال الشرطة بهدوءٍ وسط الحشد مسحورين وصامتين كأفاعٍ من نوع الكوبرا وسط تجمُّعٍ لأعدائهم النُّمُوس، واعتقلوا الخطيبَ البدين. وحالما أخذوه بعيدًا، استدارَ كولن مارشاك وخرجَ من الجمعِ المتطاحن، بينما يُفكِّرُ بمرارةٍ وخوفٍ: لِمَ سُمِحَ لبشاعةٍ كهذه أَنْ تُوجَدَ؟ سار في طريقه خارجًا من ميدان بيرشِنج (“ميدان بيرشِنج حيثُ أقاموا سياجًا لزَجْرِ الفاكهةِ عن قَطْفِ البشرِ”) ولم ينتبه إلى العجوزِ ذي العينَيْن الرَّطبتَيْن الذي يتعقَّبه إلى أَنْ صارَ على بُعْدِ ستةِ مبانٍ. استدارَ كولن فكادَ الرجلُ الهَرِمُ أن يرتطمَ به.
سأله كولن “هل هناك شيءٌ أستطيعُ فعله لك؟”
ابتسمَ العجوزُ ابتسامةً خافتةً كَشَفَتْ عن لِثَتِهِ الشَّاحبةِ التي تتسنَّمُ أطلالَ أسنانٍ باليةٍ متباعدة. “لا يا شيدي لا لا يا شيدي لكد كنت أتبعك من فترة لأرى إن كان في وشعي أن أحشل على بضعة شنتات كي أشتري حشاء مكرونة الدجاج، الجو شاقع وفكرت أن…”
بينما كان كولن يفكُّ شَفْرَةَ ما نطقَ بِهِ العجوزُ، بدا وجهُهُ عريضًا ومُضْحِكًا إلى حدٍ ما. “إنَّك على حَقٍّ أيُّها العجوز، الجو باردٌ وعاصفٌ وسيءٌ إلى حدِّ البؤسِ، وأعتقد أنَّك جديرٌ ببعضٍ مِن حساءِ مكرونةِ الدَّجاج. في هذا البردِ القارسِ لا بُدَّ لشخصٍ ما، أن يكونَ جديرًا بالحصول على بعضٍ من الحساء، والله وحده يعلمُ مَن يكون.” صَمَتَ كولن هنيهةً ثُمَّ أضاف قائلًا “رُبَّما يكون أنا.”
رافقَ كولن الرجلَ الهَرِمَ قابضًا على ذراعِهِ، غافِلًا -على ما يبدو- عن حالةِ ملابسِهِ الرَّثَّةِ والمتعفِّنَةِ. سارا على طول الطريق خارج الحديقةِ ثُمَّ انعطفا نحو أحدِ الطُّرقِ الجانبيَّة التي تغصُّ بمطاعمَ رخيصةٍ ليس بها طاولاتٍ لحملِ الأكل والشراب بل كَرَاسٍ ذات ذراعٍ واحدٍ عريضٍ عِوضًا عنها، وتكتظُّ بفنادقَ زهيدةٍ لا يتجاوزُ ثمنُ قضاءِ الليلةِ فيها أربعين سنتًا.
“وربما شطيرة لحم البقرِ المشوي الساخنة مع بطاطس مقلية يغمرُها مَرَقُ اللحمِ” قالها كولن وهو يقودُ الحُطَامَ البشري العجوزَ ذا الرائحة النفَّاذة إلى مطعمٍ. كان كولن يتفرَّس في العجوزِ أثناء احتساء القهوةِ وتناول كعكة مخلب الدُّب.
“وَيْكَ، ما اسمُك؟”
“بيتر كوشليك.” غمغمَ الرجلُ الأدرد غيرُ القادر على نطق حرف السين بجانب حروفٍ أخرى بينما بخارٌ حارٍّ يتصاعدُ أمامَ عينيه المُتْرَعَتَيْن بالدموعِ مِن كوبِ القهوةِ الأبيض الثخين. “لكد كنت مشابًا بالمرضِ، كما تعلم.”
“إنني أعلمُ أيها العجوز. كثيرٌ من دَمِ الدِّنَانِ المسفوك.” قال كولن مارشاك. “كثيرٌ مِن دمِ الدِّنان المُهْلِكَة صنعَ بكثيرٍ منَّا ما صنعَه بِكَ. أبي وأمي كلاهما شخصان طيِّبان جمعهما الحُبُّ برباطه الوثيق، قد ذهبا معًا يدًا بِيَدٍ إلى دارٍ لرعاية مدمني الخمر المُسِنِّين، وكان هذا مشهدًا يُمَزِّقُ نياطَ قلبِ الصَّخْرِ.”
“إنَّك تشعرُ بالأشف على نفشك، أليش كشالك؟” نوَّهَ بيتر كوسليك بهذهِ الملاحظة، وسريًعا غضَّ بصرِهِ خافِضًا عينيه نحو قهوتِهِ.
حَدَّقَ كولن فيه وقد احتدمَ غضبًا. هل تَرَدَّى في الحضيضِ إلى هذه الدرجة، هل بلغَ بِهِ الهوانُ حدًّا يُتيحُ لأدنى المتشردين الموبوئين بالصراصير المتسكعين في أقذرِ الأطمارِ الباليةِ أن ينتقدَهُ بقسوةٍ لا توريةَ فيها ولا حياءَ ويجترئَ على مجابهته بتلك الصراحةِ الوَقِحَة ويُلاحظَ ما وصلتْ إليه حالتِهِ مِن تعاسةٍ وبؤسٍ؟ حاولَ كولن أن يرفعَ كوبَ القهوةِ، فاختلج في يدهِ وفاضتْ القهوةُ الممزوجة بقليلٍ مِن القشدة من حافَّةِ وانسكبتْ على معصمِهِ. تَأوَّهَ وأنزل الكوب على عَجَلٍ.
“إنَّ يديكَ ترتجفان على نحوٍ أشوأ مِن يديَّ يا شيدي” قالها بيتر كوسليك بنبرةٍ مُشَبَّعَةٍ بالفضولِ وخاليةً مِن الإحساس أو الإشفاقِ، فبدتْ أشبه بإقرارٍ بملاحظةٍ.
“نعم، إنَّ يديَّ ترتجفان، يا سيد كوسليك. ترتجفان لأنني أكتسبُ رزقي مِن اقتطاعِ الأشياء من الحجرِ، وعلى مدارِ العامَيْن السالفَيْن لم أتمكَّن مِن نَيْلِ أيَّ شيءٍ مِن الحجرِ سوى أكوامٍ مرتَّبَةٍ من الغُبارِ الصَّخْريّ.
قال كوسليك بفمٍ مملوءٍ بالكعك المحلَّى “إنَّك أحد شانعي التماشيل، أقشد إنَّك نحَّاتٌ.”
“هذا ما أنا عليه بالضبط يا سيد كوسليك، إنني أنتزعُ الجمالَ الخلَّاب مِنْ الصَّخْرِ والجرانيتِ والجِصِّ والمَرْوِ والرُّخام. مشكلتي الوحيدة هي أنني لستُ بارِعًا، لم أكن بارِعًا على الحقيقةِ قَطُّ، لكنني مع ذلك استطعتُ أن أعيشَ حياةً لائقةً مِنْ بيعي لقطعةٍ هنا وقطعةٍ هناك، ودَجَّلْتُ على نفسي مؤمنًا بأنني عظيمٌ وأنني أخلقُ لنفسي حياةً مهنيَّة باهرة، حتَّى الناقدُ الفنِّيُّ جون كانداي كَتَبَ عنِّي في جريدة التايمز بعضَ الأشياءِ الطيِّبةِ. ولكن حتَّى هذا صارَ بائدًا يعلوه الصدأُ؛ فليس بمقدوري الآن أن أجعلَ الإزميلَ يمتثلُ لإرادتي، لم يَعُدْ بإمكاني أن أصقلَ أو أقطعَ، إنني عاجزٌ عن نقشِ كلماتٍ بذيئة على الأرصفةِ إن حاولت فعلَ ذلك.”
تفرَّس بيتر كوسليك في كولن مارشاك مَلِيًّا، وفي عينيه الدامعتَيْن الكاسِفتَين العجوزَيْن كانت هناك نارٌ تتَلَظَّى. لقد راقبَ وعاينَ ورأى يديه اللتين ترتجفان على نحوٍ يتعذَّرُ التحكُّمُ فيه، لقد رآهما تتلويان إحداهما مقابل الأخرى كأنهما شيئانِ مصابان بالجنون. حتَّى عندما تتشابكان، كانتا تواصلان الارتجاف على نحوٍ رهيب. و…”
تَنَبَّهَ ترينتي، المحصورُ في صَدَفَةٍ غريبةٍ، لشيءٍ بسيطٍ. هذا المخلوقُ المغزولُ مِن ذرَّاتِ الكربون الواهنة وبعضِ العناصرِ الأخرى، الذي لم يكن من المحتمل وجوده للحظةٍ واحدةٍ أو طرفةِ عينٍ في حلبة الفضاء القاسية، كان يُحْتَضَر. في الباطن، كان المخلوقُ يختمُ دورةَ حياتِهِ، بسبب التعاسة التي أمطره بها ترينتي. كانت المسئوليةُ عن الألمِ الرَّاجفِ الذي أضنى كولن مارشاك وجعلَ يديه نهبًا للتشنجاتِ، تقعُ على عاتقِ ترينتي وحده. وقد حدث ذلك منذ عامَيْن وفقَ زمنِ كولن مارشاك، ومنذ لحظاتٍ قليلة وفقَ عِلْمِ ترينتي المتجاوزِ للزمنِ. والآن تبدّلتْ، بما حدثَ، حياةُ هذا المخلوق جُمْلَةً وتَفْصِيلًا.
كان ترينتي يراقب هذا الكائنَ البشريّ الغريبِ، الذي هو حَصِيلَةُ شِرْذِمَةٍ زهيدةٍ مِنْ الاحتياجاتِ والاشتهاءاتِ الانطوائيَّة، هنا على هذه الحمأةِ الكرويَّة التي تدور حول نجمٍ لا قيمةَ له في نقطةٍ قَصِيَّةٍ مِنْ اللا مكان. أيْقَنَ ترينتي أنه يجب عليه أن يتعمَّقَ أكثر، أن يُوغِلُ أكثر في خوضِ التَّجْرِبَةِ التي تتعلَّقُ بمشكلتِهِ. اِنْسَلَّ البخارُ الشَّفَّافُ شاحبُ الاخضرار –الذي هو ترينتي- مِن عَيْنَي بيتر كوسليك وتسلَّلَ بأناةٍ إلى داخل كولن مارشاك، وتركَ ذاتَهُ مفتوحةً على مصراعيها زاجًّا بها على وسعها؛ لتكونَ عُرضةً للارتجافات التي تستبدُّ بكولن. أحسَّ ترينتي بالتأثيرِ الكاملِ للألمِ الذي كان يُنزلُهُ مُنَجَّمًا بقدرٍ معلومٍ على كُلِّ المخلوقات الحيَّةِ في جميع العوالم. إنَّ فعلًا بسيطًا اجترحَهُ مُرْغَمًا بسبب المرضِ، تَكَشَّفَ له عن أمرٍ بالغِ الحِدَّةِ والضراوةِ، يُنْبِيءُ بمزيدٍ من الإدراكِ ويَعِدُ بمعرفةٍ أعظم. بسبب الخوف وذكرى المخاوف الغابرة، أدركَ ترينتي أنَّ عليه أن يتعمَّقَ أكثر فأكثر في أقصى غَوْرٍ للتجربةِ؛ لأنَّه إلهُ الألمِ وليس محضَ سائحٍ عابرٍ في بلادِ الألمِ. اجتثَّ عقلَ مارشاك المُرْتَجِف الهزيل وفرَّ به إلى الخارج هناك بعيدًا، بعيدًا جدًّا حتَّى امتنعَ الزمنُ عن المُضي قُدُمًا وصارَ الفضاءُ خاملًا بلا أوهى أثرٍ، وطافَ بكولن مارشاك عبرَ العوالم، عبرَ اللانهائيَّةِ المُطلقةِ للزمنِ والفضاء والحركة والمعنى الذي صارَ هاويةً وَأَدَتْ فيها الحياةُ نفسها. رأى الكُتَلَ الطينيَّةِ، والأشياءَ المجنَّحةَ التي لا تَكُفُّ عن الدوران، وأشباهَ البشرِ فارعي الطولِ، والكائناتِ المجنزرة التي أحدُ شطريها بشريٌّ والآخرُ آليٌّ والتي سيطرت على قطاعَيْنِ مِنَ الفضاءِ المفتوح. أَظْهَرَ كُلَّ هذا لكولن مارشاك، غَمَرَه بطوفانٍ من العجائبِ، أَتْرَعَهُ كأنَّه الكأسُ الأكثرُ أهميةً على الإطلاقِ بينِ جميعِ ما خلقَهُ الإيثوس، سَكَبَ فيه إلى حدِّ التُخْمَةِ الحبَّ والحياةَ والجمالَ المُذْهِل للكونِ. وبعد أَنْ أتَّم فعل هذا، حوَّمَ بروحِ كولن ونفسِهِ هابطًا إلى الصَدَفةِ الليفيَّةِ التي كانت جسدَهُ، وصَبَّ الروحَ مجدَّدًا في الجسدِ. ثُمّ جعلَ الصَدَفةِ البشريَّةِ تخطو مُتَجِّهةً إلى بيتِ كولن مارشاك وأطلق سراحها. و…
عندما استيقظ النحَّاتُ، منبطحًا على وجهِهِ وسط شظايا الرُّخامِ والغبارِ بالغِ النعومة، رأى قاعدة التمثال أوَّلًا، ولم يكن حتَّى يتذكَّر شراءَهُ لقطعةٍ من الحجرِ بهذه الضَّخَامَةِ، لذا نَهَضَ على يديه وركبتيه وفخذيه، وجلس هناك يُصَعِّدُ النظرَ من قاعدةِ التمثال إلى قمتِهِ، بدا كأنُّه سيمضي في رؤية التمثالِ إلى الأبدِ، وعندما رأى أخيرًا ما خلقَهُ بيدَيْهِ –هذا الشيء المفعم بما يُذْهِلُ مِن البهاءِ والمعنى والحكمةِ- أجهشَ بالبكاء. بكى بصوتٍ خفيضٍ، لم يكن نشيجُهُ صاخبًا، بل عميقًا، لكأنَّ كُلُّ أنَّةٍ تنبجسُ مِن أَغْورِ أعماقِهِ. لقد فعلها هذه المرَّة، ولكن حينَما رأى أنَّ يديه ما زالتا ترتجفان وتتهامسانِ بهمهمةٍ من التشنجاتِ، أدركَ أنها ستكون المرَّةَ الأخيرةَ، بيضةَ الديكِ التي لا ثانيَ لها. لم يكن لديه أيُّ ذكرى عن كيف ولماذا وحتَّى متى… ولكنه كان على يقينٍ تامٍّ مِن أن هذا التمثالَ من صُنْعِ يديه، لأنَّ الآلامَ المُبَرِّحةَ بمعصمَيْهِ تُخْبِرُهُ بذلك. إنَّ لحظةً فاصلةً تسمو فوقه سامقةً في جلالٍ، متلألئةً في حقيقةِ الرُّخام ورُخامِ الحقيقةِ، ولكنها لحظةٌ مِن حياتِهِ لن تأتيَ في إثرها لحظاتٌ شبيهةٌ أخرى، فهذه اللحظة هي حياةَ كولن مارشاك بكاملها، الآن. كان صوتُ بُكائِهِ يَتَهَدَّجُ بشكل متكرِّرٍ ومنتظمٍ، فقط عندما يشرعُ في احتساء الخمرِ.
كان الإيثوس ينتظرون وترينتي يعلمُ أنَّهم سيكونون في تَرَقُّبِهِ. كان هذا أمرًا محتومًا، ومِن الحماقةِ أَنْ يعتقدَ أنَّهم لن يكونوا على درايةٍ بالأمرِ.
– لقد انتبذتَ بنفسِكَ مكانًا قصيًّا عَن مهامِ منصبِكَ.
“لقد وَجَبَ عليَّ أن أعرفَ، فهناك شيءٌ حيٌّ بداخلي لم يَكُفّ عن النمو. كان عليَّ أنْ أعرفَ، وكانت هذه هي الطريقةَ الوحيدةَ. لقد ذهبتُ إلى كوكبٍ وعِشْتُ داخل مَن يُسمَّونَ “بشرًا” ولقد عرفتُ. أعتقدُ الآن أنني أفهمُ.”
– ما الذي تعرفه؟
“أعرفُ أن الألمَ هو أكثر الأشياءِ أهميةً في العوالمِ جميعها. إنَّه أعظمُ مِن البَّقَاءِ، وأرقى مِنْ الحُبِّ، وأجلُّ من الجمالِ الذي يَتَمَخَّضُ عنه؛ فلو لم يكن هناك ألمٌ فمحالٌ أنْ تُوجَدَ مُتْعَةٌ، ولو لم يكن هناك حزنٌ فمحالٌ أنْ تُوجَدَ سعادةٌ، ولو لم يكن هناك شقاءٌ فمحالٌ أن يُوجَدَ جمالٌ، ولو لم تكن كلُّ هذه فتصبح الحياةُ خلودًا لعينًا: أبديَّةً محتومةً مِن اليأسِ والفشلِ.”
– لقد بلغتَ الرُّشْدَ.
“أعرفُ… هذا ما حدثَ لآلهةِ الألمِ الذين سبقوني. لقد نَمَوا فَعَظُمَ قلقُهم واحتدَّتْ رغبتُهم في المعرفةِ ثُمَّ…”
– ضلُّوا، وصاروا بالنسبةِ لنا بمنزلةِ المفقودين.
“لأنهم لم يتمكَّنوا مِن اتِّخاذِ الخطوةِ الحاسمةِ، لم يتمكَّنوا مِن الذهابِ إلى أحدِ أولئك الذين يمطرونهم بالألمِ، لذلك لم يتعلَّموا، وصاروا بلا جدوى كآلهةٍ للألمِ. أمَّا أنا فقد تعلَّمتُ وعُدْتُ.”
– وماذا سوف تفعلُ الآن؟
“سأقومُ بإرسالِ الألم بقدرٍ لم يسبقْ لي إرسالِه في أيِّ وقت مضى. سأرسلُ ألمًا أكثرَ وأعظمَ.”
– سترسلُ ألمًا أكثر؟
“سأرسلُ أكثرَ بكثير، ولن أَكُفَّ عن الإسرافِ في هذا. لن يكونَ إفراطًا منِّي، لأنني الآن أفهم. إنَّه مكانٌ رماديٌّ مُوحِشٌ الذي نحيا فيه جميعنا متأرجِحِينَ بين اليأسِ والفراغ، وما يجعلُهُ جديرًا بالحياةِ فيه هو الاهتمامُ والجمالُ، ولكن إن لم يكن هناك نقيضٌ للجمالِ، وإن لم يكن هناك ضدٌّ للمتعةِ، فباطلُ الأباطيلِ الكلُّ باطلٌ وقبضٌ مِن الترابِ وكومةٍ مِنْ النُّفاياتِ.”
– إنَّك الآن تعرفُ مَن أنتَ.
“إنني الأوفرُ نعمةً مِن الإيثوس، وإن كنت الأدنى شأنًا بينكم. لقد منحتموني المقامَ الأكثرَ سُمُوقًا وإيثارًا في كُلِّ العوالم، إذ أنني إلهُ كلِّ البشرِ، إلهُ كُلِّ المخلوقاتِ صغيرها وكبيرها، سواءٌ عليَّ أَدَعَوْنِي باسمي أم لا، أنا إلهُ الألمِ. إنَّ رسالتي في الحياةِ، مهما طالَ بي العمرُ، أنْ أُعاملَهم بأفضلِ طريقةٍ سيُعاملون بها على الإطلاقِ. سأمنحهم الألمَ؛ كي يكونَ بمقدورهم أَنْ يعرفوا المتعةَ. شكرًا لكم.”
قد ذهبَ الإيثوس وهم مطمئنون أخيرًا مِن أنهم قد عثروا على ضالتهم، فبعد كلِّ هذه الدهورِ الداهرةِ مِن آلهةِ الألمِ المتعاقبين، الذين خَرُّوا تحتَ نِيرِ التَّوترِ ووطأةِ القلقِ لأنهم لم يجرؤوا على القيامَ بالإسراءِ الليليِّ، عثرَ الإيثوس أخيرًا على إلهَ الألمِ الذي سيبقى حقًّا إلى أبد الآبدين. لقد بَلَغَ ترينتي الرُّشدَ.
وبينما كان في مقصورتِهِ بعد إيابِهِ، معلَّقا كالنجمِ الثَّاقبِ وشفَّافًا مُحْتَجِبًا في الفضاءِ، يعلو فوقَ كُلِّ شيءٍ وهو جزءٌ مِن كُلِّ شيءٍ، الكائنُ الذي لن يموتَ أبدَ الدهرِ، والذي عاشَ داخلَ الجسدِ المُتَعَفِّنِ لبيتر كوسليك، وعاشَ للحظاتٍ قليلةٍ في روحِ كولن مارشاك وموهبتِه، هذا الكائنُ الذي يُدْعَى إلهَ الألمِ تعلَّم شيئًا آخَرَ وهو يتفرَّسُ في النموذج المُصَغَّر لكوكب الأرض الذي عرفَهُ.
لقد عرفَ الإحساسَ بدمعةٍ تتشكَّلُ في قناةٍ وتنسكبُ حُرَّةً في مقلةِ العَيْنِ وتنهمرُ باردةً على الوجهِ.
لقد عرفَ ترينتي السعادةَ.

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد