استئناف العدوان على غزة.. مقال ختامي وإطلالة عبر النار والدم!… بقلم: شادي عمر الشربيني
بقلم: شادي الشربيني

مازال لدي الكثير لأقوله..
وكيف يمكن أن يتوقف القول والدم الزكي يسيل ويتدفق أنهارا في غزة الغالية ويتم التنكيل بالضفة الشريفة..؟!
وكيف يمكن أن يتوقف القول وحصار التجويع والتعطيش الوحشي قائم ومستمر لتحقيق طموح تهجير أصحب الأرض أو على الأقل كسر أرادتهم ومحوها..؟!
وكيف يمكن أن يتوقف القول واليمن المناضل المقاتل من أجل غزة الشهيدة تحت القصف والعدوان الأمريكي المجرم، والعرب بعضهم يتسلى بالمشهد والبعض الآخر يشارك تحت المائدة في العدوان والإجرام الأمريكي ويبارك..؟!
وكيف يمكن أن يتوقف القول وإسرائيل تحتل التلال والقرى في الجنوب اللبناني والمؤامرة ضد المقاومة وبيئتها الحاضنة في الضاحية تشتد لنزع سلاحها وتسليم رأسها للإسرائيلي مثلما فعلت سالومي بيوحنا المعمدان..؟!
وكيف.. وكيف.. وكيف.. وألف مليون كيف كل منها تستفز الروح وتدعو إلى يقظة العقل وتنبه الوعي.. فإما الوعي أو العدم!!
لكن طبائع الأحوال وطاقات البشر تفرض علينا أن نصل بتلك السلسلة من المقالات عن استئناف العدوان على غزة إلى خاتمة. إن الكتابة، عندما تكون حرة أصيلة، هي من أغلى ما يكشف عنه هذا الوجود، هي الطريق والسبيل إلى الوعي، ولا أمل في أي تقدم والوصول إلى أي نصر بدون وعي يقظ ومتنبه ومتحفز، ولا ينبه الوعي ويحفزه إلا المعرفة، المعرفة الصادقة التي تتألف من معلومات دقيقة ورؤية تجمع تلك المعلومات في إطار جامع يسمح ببناء الصورة الواسعة، فنبصر أين نحن وأين يكون الآخرون!
هذا كان هدفي عند كتابة تلك السلسلة من المقالات، أن أسعى بين شلال الأخبار الغامر الذي يجرف ويهدر، فنصعد ولو فوق تلة فنبصر المواقع ونرى ماذا يريد أعداؤنا؟ كيف تحركون؟ من يستهدفون؟ فالإجابة عن تلك الأسئلة هي التي تحدد ما يجب أن نفعله وما علينا تحاشيه وما ينبغي تجاوزه. حاولت وحاولت، وسأظل أحاول وأسعى، فهذا هو دور الذي رسمته لي الأقدار كواحد من تلك الأمة العريقة الممتدة بامتداد التاريخ ذاته.
هذا المقال الختامي هو عود على بدأ، عود للمقال الأول الذي أوضحت فيه بمنتهى الوضوح والقطعية، أن أيا كانت دوافع إسرائيل والولايات المتحدة للقيام بتلك المذبحة المستمرة في غزة والتنكيل بالضفة والعربدة في سوريا ولبنان، وأيا كان ما يمكن قراءته من ظرف عالمي يبدوا مؤاتيا لما سبق، إلا أن كل ذلك يجد أسبابه الأولى ليس في حالة الضعف العربي العام بل في انهيار النظام العربي ذاته. هذا المقال الختامي سيسعى لكشف جذور ما يحدث خلال التوقف أمام عنوانين رئيسيين.
نحن وأمريكا:
“كل رئيس كان يعد بهذا لسنوات وسنوات.. بأننا سنعترف بعاصمة إسرائيل وننقل السفارة إلى القدس.. ولكنهم لم يفعلوا!.. أتفهم ذلك.. لأنني بمجرد وصولي للرئاسة لا تتخيلون الضغط الذي عانيته.. كان الضغط المطبق عليَّ كبيرا بسبب مطالبات دول كثيرة.. أتلقى اتصالات من الجميع، يقولون “رجاء لا تفعل ذلك”.. “رجاء لا تفعل ذلك”.. لم أتلق اتصالات هاتفية بآخر أسبوعين.. تلقيت اتصالات من ملوك.. تتخيلون ذلك؟!.. تلقيت اتصالات من الجميع حتى لا أفعلها.. “رجاء لا تقم بذلك”.. ثم فعلت ما قلت.. هل تعلمون ماذا فعلت؟.. لن أتلق اتصالاتهم وسأتصل بعد عدة أسابيع.. فقلت (للموظف): أسد لي خدمة.. قل لرئيس الوزراء أنني سأعاود الاتصال بعد أسبوعين.. إنني مشغول! (ضحك من جمهور القاعة!).. قال: أسبوعين! ذلك وقت طويل.. قل للملك أنني سأتصل به بعد عدة أيام.. فقمت بذلك (نقل السفارة).. ثم أجريت كل هذه الاتصالات، وشهدت شهرة كبيرة.. فعلناها وكانت قصة كبيرة.. فعلنا ذلك وعلم الأمر وأصبح خبرا مهمًا.. لم يحدث شيء!.. هل تذكرون أن العالم كان سينتهي. لم يحدث شيء!.. بقيت أقول “هل نحن بخير؟”.. “نعم”.. هل هناك أي مظاهرات؟ “لا”.. بعد مرور 3 أو 4 أيام أسأل ما الذي يحدث؟ هذا الأمر غريب.. ثم بدأت بإجراء المكالمات.. وقلت له أيها الملك ماذا تريد؟ ما الذي يحدث أيها الملك؟ (تصاعد ضحكات جمهور القاعة!).. فقال: “أردت أن اتصل بك.. للقول لك.. إننا سنعارض بشدة..”.. فقلت: آه.. كنت أتمنى لو تحدثت معك قبل الآن، آسف. (ضحكات عالية وعاصفة تصفيق ساخر ومرحب لجمهور القاعة!).. هذه حقيقة”
“ترامب” في كلمة أمام مؤيديه، يوم الأحد 13/10/2019، ويقلد بأسلوب ساخر، أحد الملوك العرب لم يحدد هويته، وقت إعلان نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، في السادس من ديسمبر/ كانون الأول 2017 قبل عامين. (فيديو1، فيديو 2)
تقديري أن خطاب ترامب هذا ليس كاشفًا فقط، بل فاضح. في المقالة الثالثة من تلك السلسلة، التي تم فيها بحث جذور الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل ودعمها اللامحدود، أوضحنا الأسباب الجيوسياسية العميقة لهذا الانحياز، ولكن في الوقت نفسه قلنا بمنتهى الوضوح أن هذا الانحياز لم يبدأ كاملا متكاملا، بل اتخذ مسار تصاعدي حتى وصل إلى ما نراه الآن من اندماج إسرائيلي عضوي مع الولايات المتحدة. أسباب هذا التصاعد عديدة، وألقينا عليها ضوء واسع في تلك المقالة، ولكن السبب الرئيسي، والذي يتفرع وينسل منه باقي الأسباب، أن الولايات المتحدة لم تدفع في عالمنا العربي أثمان تذكر نتيجة لذلك الانحياز المستمر وتصاعده، بل على العكس ووجدت في أغلب الأحيان أن عوائدها من هذا الانحياز تفوق أي أثمان!
عقب الحرب العالمية الثانية نظرت الكثير من الشعوب، ومن ضمنها شعوب الشرق الأوسط وفي قلبه مصر، إلى الولايات المتحدة، المنتصر الأكبر في تلك الحرب الكبرى، أنها يمكن أن تكون خير عون للتحرر من قوى الاستعمار الأوروبي التقليدي، على رأسه الاستعمار البريطاني والفرنسي؛ إلا أنه مع التعامل مع الولايات المتحدة وتراكم الخبرة، أصبح واضحا لتيارات التحرر الوطني والقومي في المنطقة، أن القوة الأمريكية ربما تأتي المنطقة مندفعة ومتلهفة، ولكن هدفها إرث الاستعمار وليس تحرير الشعوب، هدفها الاستيلاء على الامتيازات وليس رد الحقوق، هدفها إخضاع المنطقة لنفوذها وهيمنتها لا مجرد الحفاظ على مصالحها عبر التفاهم المشترك والاحترام المتبادل.

لم تستخدم الولايات المتحدة إسرائيل فقط لضرب قوى التقدم والتحرر في الأمة العربية، بل والتفت حولها من خلال التعامل والتحالف مع النخب الاجتماعية التقليدية والقبائلية التي نشأت وصعدت إلى السلطة في كنف الاستعمار. إن تلك الطبقات والشرائح الاجتماعية وجدت في صعود تيار التحرر القومي؛ وما يحمله من تطلعات الاستقلال والوحدة والعدل وإنهاء احتكار الثروة، هو أكبر تهديد لها ولكراسيها وعروشها، لذلك تلاقت مع الولايات المتحدة وأيضا إسرائيل في التآمر على ذلك التيار القومي والكيد له وتوريطه واستنزافه حتى كانت الضربة الكبرى في يونيو 1967.
لم تكن إسرائيل فقط هي أداة الولايات المتحدة في المنطقة، بل وذلك الانقسام الذي حدث في العالم العربي بين القوى الثورية التقدمية والقوى المحافظة الرجعية.
لقد كانت السنوات العشرين بين منتصف السبعينيات ومنتصف التسعينيات كارثية على العالم العربي.
كانت البداية أن ذلك التحالف العربي الكبير الذي خاض حرب أكتوبر 1973، والذي كان بلا سابق في التاريخ العربي الحديث، وكذلك بلا لاحق حتى هذه اللحظة – راح يتفكك جميعه وتحللت روابطه. فالحرب في أكتوبر 1973 دارت بالسلاح على جبهتين: مصر وسوريا، واصطف وراء الجبهتين دعم شعوب الأمة كافة، وبإصرار عنيد ووراء الإصرار إمداد متدفق بالعتاد والمال وقوة النفط، وجاءت النتائج التي تحققت في ميادين القتال في مطلع المعركة باهرة – لكن الطرق تباينت وسط القتال!
كذلك فإنه عندما توقفت المعارك – كان العالم العربي في مأزق، لأن مصر آثرت أن تستكشف وحدها ما يسمى بطريق السلام.
ثم توالت العثرات من الحرب الأهلية في «لبنان» – إلى الحروب في القرن الأفريقي بما أدى إلى تآكل دولة الصومال – إلى الصراع بين الجنوب والشمال في السودان – إلى الحرب العراقية الإيرانية – وبهذا وغيره فإن بنيان المشروع العربي الذي ظل واقفا رغم ما كان فيه من ثغرات – راح يتصدع، فعندما خرجت مصر بصلح منفرد مع إسرائيل سنحت الفرصة لتجمعات إقليمية أو عائلية مكبوتة تحت ضغط الظروف؛ ولها تجمع دول الخليج تبتعد بها عن القلب العربي تاركة له قضاياه الكبرى، آخذة معها ثرواتها الطائلة، وهكذا نشأ «مجلس التعاون الخليجي» وفي مقابله أن اقترح العراق ما سُمي «مجلس التعاون العربي» وفيه «العراق» و«مصر» و«الأردن» و«اليمن»، ثم جرى طرح ومناقشة اتحاد الدول المغاربية، ثم انقض الغزو العراقي لـ «الكويت» وانفجر النظام العربي، حتى وإن حاولت الأشلاء أن تلتحق بالأشلاء!!
إن مقاومة غزو «الكويت» فتحت باب الذرائع لتدمير «العراق» نفسه وفجرت الانقسامات ودفعت بتحالفات متناقضة ومتبدلة، وتحولت الأمة العربية إلى ساحة من الصراعات والحروب العبثية، كل هذا أزاح القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي إلى الأركان والهوامش!
لسنا هنا بصدد التأريخ للوجود الأمريكي في منطقتنا أو رصد ما حدث من فوضى وخراب سياسي واجتماعي وثقافي في عالمنا العربي خلال الخمسين سنة الماضية وأكثر ومستمر في ازدياد وطأته وتدهورًا، ذلك يحتاج إلى رصد وبحث موسع كي نفهم ونعي ونسعى لمستقبل مختلف، لكن فقط كنا نسلط بعض من الضوء على كيف وصلنا إلى هنا، إلى حيث أصبحنا مثار سخرية علنية من ترامب كما واضح في تلك الخطبة التي أوردنا نصها. ومما سبق ينكشف أمامنا أمران رئيسيان:
1- أن الولايات المتحدة بدواعيها ودوافعها وحركتها الإمبريالية في منطقتنا، ثم وقوع اختياراها على إسرائيل لتكون وكيلها الإقليمي الأول وأداتها التنفيذية، فإنها قدمت نفسها بكل وضوح كعدو لتلك الأمة. وبدلا من التكاتف في مواجهة هذا العدو والعمل على لجم مطامعه وتعديل سلوكه العدواني، فإن كيانات وقوى اجتماعية وسياسية تحالفت معها ضد تيارات التحرر والتوجه الوحدوي، وهكذا تم السماح باختراق أمريكي واسع وقاسم للأمة العربية.
2- أن العالم العربي، وهو الذي يقع في أهم مناطق الصراع العالمي، لم يسعى بجدية لبناء أمة موحدة تستطيع أن تجابه تحديات كبرى لأزمنة وعصور جديدة، وبدلا من ذلك خضع للانقسام والتشظي، فأصبح ساحة مفتوحة للصراع العالمي، تصول وتجول بل وتعربد فيه قوى السيطرة والهيمنة العالمية، وذلك بسبب سيادة ظنون لدى الكثير من سلطاته الحاكمة أن كل منهم يستطيع أن يرتب أموره مع القوى العالمية ويحقق نجاته الخاصة بالقفز من السفينة العربية. ومع أن التجربة والتاريخ أثبت أن تلك القفزة كانت نتيجتها الغرق في محيط مظلم يعج بالوحوش والأعاصير، إلا أن أوهام النجاة الفردية مازلت هي المسيطرة في عالمنا العربي!
لذلك فإن دوافع وأسباب الاندفاع الأمريكية لدعم إسرائيل الكامل والمفتوح في حربها الحالية في غزة، والممتدة إلى لبنان وسوريا، والتي أفردنا لها المقال الرابع، تجد جذورها في حالة الضعف والتحلل العربي الناتجة عن انقسامه وتشظيه وأوهام النجاة الفردية. إن ترامب، أو حتى أيًا من الرؤساء والإدارة الأمريكية المختلفة، لم يكن ليندفع ويتعامل معنا بهذا الشكل المهين والتكبر والوحشية إلا لأننا سمحنا بذلك، سمحنا به عندما هربنا من المواجهة، وتخلينا عن إطار الوحدة والتماسك، وتشبعنا بأوهام أنه يمكن تحقيق تأمين الأنظمة أو تحقيق رخاء اقتصادي يلهي الجماهير ويخدعها عبر صفقات فردية مع المتربصين بهذه الأمة وأعدائها.
مصر.. الوسيط المستحيل:
في الجزء السابق من هذا المقال حملنا مسئولية العربدة الأمريكية والبلطجة الإسرائيلية لكل الأنظمة العربية، كلها بلا استثناء، وليس فقط المحافظ والرجعي بل وأيضا الثوري منها الذي اتخذ من الادعاء والمزايدة سبيل لإثبات ثورية فارغة مثل الطبل الأجوف، أو تحولت الثورية على يديه إلى مغامرات عبثية واندفاع نحو مجهول فتحت الطريق للعدو وأعطته المبررات لتغطية اجرامه وبلطجته أمام العالم وهيئاته الدولية. الكل مدان والتجربة وراءنا في حاجة إلى فحص شامل ودراسة متقصيه، وإجراءات تحدث قطيعة مع ممارسات عبثية أو خائنة أو متهورة لا تقرأ خريطة الواقع فتتحرك في ظل الأوهام أو أحلام اليقظة!
بالرغم من ذلك، فإنه يجب التذكر أنه حتى عندما يكون الجميع مسئولا، فإن المسئوليات لا تتوزع بالتساوي، فالمسئولية توزع بقدر الأدوار التاريخية والحضارية المنوطة للقائمين على الأمر، توزع تبعا للثقل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي لكل طرف. وهكذا فإنه كان لا يمكن أن أصل لخاتمة تلك المقالات دون التعرض للمسئولية في مصر عما حدث ووصلنا إليه.
إحساسي بالهم والثقل، الحزن والألم لما يحدث في غزة كمصري يفوق إحساسه حتى كعربي ملتزم قوميا ووجدانيا بقضايا الأمة ومصيرها، ففي قضية فلسطين بالذات مسئوليتنا المصرية قائمة قبل أي مسئولية أخرى. إن فلسطين هي الأمن الوطني المصري مباشرة قبل حتى أن تكون أمن قومي عربي. ما يحدث في غزة وطريقة معالجة السلطات في مصر له لم تعد فقط فضيحة سياسية بل وصلت إلى كونها سقوط أخلاقي وإنساني!
لم أفاجأ عندما رفع الإمام صوته بالدعاء لغزة وأهلها في الركوع الأخير لصلاة العصر وأنا والمصلين نردد وراءه آمين ويا رب بكل حرقة وألم ورجاء! خرجت من المسجد ذاهبًا في موعد لمقابلة مجموعة من الأصدقاء، وبدون أن أثير الموضوع، بدأ الحديث عن غزة وتحدثن عن لوعتهم وتمزق قلوبهن لمشاهد القتل والتدمير وتطاير الأجساد البريئة الطاهرة في الهواء جراء الغارات الإسرائيلية بالطائرات والقنابل الأمريكية!!

الشعب المصري حزين ومكتئب ومستفز أكبر استفزاز لما يحدث في غزة. في حلقة برنامج المسائية على قناة عربية دي دبليو DW الألمانية، بتاريخ 17 أبريل 20225، قالت مذيعة البرنامج للعميد خالد عكاشة – المعروف بتأييده المطلق للدولة وأجهزتها – أنها عندما كانت في مصر لمست بنفسها حجم الغضب الشعبي لما يحدث في غزة والإحباط الواسع في الشارع المصري. إن هذا الغضب الذي يغلي به مرجل المصريين ينبع ليس فقط من أن مذبحة غزة تجري على حدوده مباشرة، لكن أيضا لأن غزة الشهيدة لا حدود لها من غير كيان الاحتلال إلا مع مصر، مما يرسخ في الذهن العام صورة بتواطؤ ولو حتى غير مباشر وغير مقصود مع المذابح الإسرائيلية وحصار التجويع والتعطيش لأهلنا الغزاويين.
ويأتي الرد على ذلك من قبل الفريق الداعم للسلطة وسياستها، أن مصر لم تبدأ الحرب في غزة ولم تختار توقيتها حتى تكون ملزمة بالتدخل لوقفها!! وهذا الرد العبثي بلا أي معنى وهو مجرد تنطع آخر جديد وذلك لأن:
أ- لم تكن السلطة المصرية مثلا تجهز للتحرك ناحية غزة بأي شكل، فجاء طوفان الأقصى ليفسد توقيتها ويعثر حركتها مثلا! الحقيقة قبل طوفان الأقصى أن وقائع تصفية القضية الفلسطينية كانت تتوالى وقطار التطبيع الخليجي مستمر في سيره والاتفاقات الإبراهيمية تنعقد بمنتهى النشاط لتنشئ ما يقارب التحالف مع إسرائيل، في مقابل صمت تام من السلطات المصرية، وحتى الترحيب الرسمي بما يحدث!
أي طرف يريد أن يصبح من مكونات قرار المقاومة الفلسطينية عليه ببساطة أن يكون قريب من نضال وكفاح الشعب الفلسطيني المشروع، وليس منخرطًا في تنسيقات أمنية مع إسرائيل!
ب- هذا الرد يوحي بذلك الإحياء الخالد الذي عملت سلطات كامب ديفيد دائما على ترسيخه في ذهن المصريين على مدار نصف قرن، وهو أن أي تحرك إيجابي تجاه فلسطين ونصرتها يعني الذهاب مباشرة إلى الحرب، بكل ما تعنيه تلك الكلمة من أهوال وفظائع! في حين أن الحرب والصدام العسكري يأتي دائما في مؤخرة القرارات والإجراءات، السبل والطرق مفتوحة للعمل السياسي والدبلوماسي والشعبي والجبهوي والتحرك على أصعدة كثيرة ومتنوعة ومختلفة، وكم من مواجهات تدور حولنا في هذا العالم بدون أن تصل إلى محطة الصدام العسكري.
الحقيقة أن السلطات في مصر متمسكة في أفضل الأحوال بموقع الوسيط بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي، وهذا بالضبط الموقف الذي يريد الإسرائيلي والأمريكي حشر مصر فيها وحبسها في قمقمة، فلا تغادره أبدًا!
في شأن مسألة الوساطة تلك، يحضرني لقاء الأستاذ هيكل مع الإعلامية جزيل خوري سنة 1997، حينما طرحت عليه السؤال التالي:
خوري: مصر طبعا دائما لعبت دور في حلم الوحدة العربية، اليوم هل ترى أنها الآن تملك موقع سياسي رائد في العالم العربي؟
هيكل: الإجابة هنا يمكن أن تنقسم إلى نوعين من الاجابات. في إجابة المجاملة سأقول نعم، الريادة لا تزال والقيادة لا تزال والزعامة لا تزال. لكن أنا إذا أردت أن أكون أمين مع نفسي سأقول على الفور أن القيادة والزعامة والريادة هي مسئوليات، وليست إرثًا، ليست مرسوما صادرا يعطي لأحد أيا ما كان دور القيادة. أمريكا تقود العالم لأنها الأقوى اقتصاديا والأقوى عسكريا ولأن عندها تصور لمستقبل ما هو قادم. في أوروبا هناك تحالف ألمانيا وفرنسا حيث هناك رؤية لأوروبا الموحدة ويعمل عليه ويتحمل مسئولياته ويطرح اليورو رغم كل العقبات الفظيعة. ما أريد أن أقوله أن مصر تاريخيًا عليها مسئولية في المنطقة، وبهذه المسئولية إذا أدتها تستطيع أن تحصل لنفسها على مكانة، وإذا لم تؤدى هذه المسئولية، فليست هناك مكانة لأحد لمجرد الادعاء أو لمجرد الاسم. أرجوا أن أكون واضحا.
خوري: كيف إذًا ترى دور الإدارة المصرية اليوم؟
هيكل: أنا لا أزال أقول، حتى هذه اللحظة، أن الإدارة المصرية مطالبة أن تشخص الوضع العربي بوضوح، وأهم من هذا كله، أن تشخص بوضوح ما هو دور ومسئوليات مصر. على سبيل المثال، أنا مصاب بذعر من أن أحد يقول لي نحن مهمتنا الجمع بين عرفات ونتنياهو، وأن نسهل الحل بينهما! لكن هذا يعني ببساطة أن مصر تتخلى عن مسئوليتها، مصر ليست وسيط ولا يمكن أن تكون وسيط وهي ليست مسهل! مصر طرف. أنا تعنيني فلسطين، حتى من الناحية الاستراتيجية، تعنيني فلسطين تاريخيًا، تعنيني سياسيًا، تعنيني هذه الأمة – كل من فيها – تعنيني أن مصر تعلم أن هذا العالم تنتمي إليه عضويا وليست متفضلة للاهتمام به بين وقت وآخر!
حوار هيكل مع خوري، الذي جرى منذ أكثر من ربع قرن، ينطبق على ما يحدث أمامنا الآن. السلطة المصرية هاربة من مسئوليتها التاريخية تجاه أمتها، وكأنه يمكن لأحد أن يخالف الجغرافيا ويخون التاريخ، ويظن أن في ذلك أمنه وسلامته! كما أن تلك السلطة مازالت ترى في تقزيم الدور إلى وسيط وحامل حقائب ورسائل في القضية الفلسطينية هو الممكن الوحيد، وكأنه ممكن أن تترك أمنك القومي على بوابتك الشرقية تنهش فيه الوحوش وتأمن أن تلك الوحوش لن تلتفت إليك بعدها والدم الفلسطيني يسيل فوق مخالبها ويخضب أنيابها!!
ما حصاد كل ذلك؟
الحصاد أنه حتى سيناء التي قبلناها منزوعة السيادة في كامب ديفيد، أصبحت هدف مباشر للأمريكي قبل الإسرائيلي. النتيجة أن مصر أصبحت مطالبة بأن تكون موطن تهجير الفلسطينيين وأن يتم حشر ورقة كامب ديفيد المهينة في فمها، وتبلعها وهي صامتة ومكسورة وبدون حشرجة اختناق وصيحة استغاثة!

إن مصر لا تستطيع إلا أن تكون طرف في الصراع العربي – الإسرائيلي، ليست طرف بل الطرف الرئيسي في هذا الصراع. مصر ليست مطالبة أن تواجه وحدها، فضلا أن تقاتل أو تحارب وحدها، بل أن تعمل على أن تستعيد الصراع مع إسرائيل لكي يكون عربيا ولا تترك الفلسطينيين ليستفرد بهم الإسرائيليون والأمريكيون. مصر مطالبة برؤية ومشروع لإعادة بناء النظام العربي، لبناء جبهة عربية متكاملة تتصدى لتحديات العدوان الصهيوني الأمريكي ولتحديات عصور وأزمنة جديدة لا مكان فيها لأي كيان منعزل عن محيطة وينسلخ عن تاريخه، فيصبح عاري حتى من الجلد نفسه أمام عواصف وأعاصير تطيح بكل الضعفاء وتهشم كل المعزولين.
<<<<<<<<<<<<<<
<<<<<<<<<<<<<<
عندما نقول في هذا المقال الختامي إن الولايات المتحدة عدو يجب مجابهته والتصدي له، فإن هذه ليست دعوة لتجاهل قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو التعامي عن جبروتها. وإذا كان الاندفاع في صدام مباشر مع العدو الأمريكي هو شكل من أشكال الانتحار، فالأكيد أن المواجهة ليست مستحيلة، بل إنها هي الممكن الوحيد. المواجهة سياسيا واقتصاديا ورفع كلفة أي تدخل عسكري وبناء وعي شعبي واسع وعميق، فذلك هو السبيل لبناء جبهة داخلية صلبة تستطيع أن تواجه على أساس عقائدي متين.
وكما أن مؤشرات كثيرة تشير إلى أن الولايات المتحدة قوة في انحدار وشمس تجري نحو المغيب، فإنه في الوقت نفسه نجد حول العالم الكثير من النماذج التي لم تخضع للهيمنة والسيطرة الأمريكية، وخاضت مع الولايات المتحدة صراعات محسوبة بدون أخطاء كارثية أو صدامات انتحارية. نحن مدعوون للانفتاح على هذه التجارب وقراءتها بوعي وعمق، فمواجهة الولايات المتحدة في منطقتنا أولى من مواجهتها في أي مكان أخر في العالم، فأمريكا وإسرائيل تستهدف في تلك المنطقة وجودنا ذاته.
ثم إنه بالرغم من التوحش الإسرائيلي المتجاوز في تلك الجولة من الحرب فإن تلك الجولة أيضا كشفت عن خواء إسرائيلي مدوي! فالجيش الإسرائيلي يهرب منه احتياطيه ويحتج العاملين فيه ويعترضون على استمرار الحرب، وهذا معناه خطير في جيش هو قائم بالأساس على الاحتياط، بل هو ليس سوى احتياطه، ثم إن تلك الحرب وصمود المقاومة المحاصرة في غزة والصمود الذي حدث في الضاحية وجبهة الإسناد اليمني المذهلة، كشفت عن الانقسامات القاسية داخل الكيان الإسرائيلي، وباستثناء نتنياهو وفريقه فإن كل التيارات في داخله تجمع على أن إسرائيل قد خسرت الحرب وأنها على شفى حرب أهلية نتيجة للصراع الداخلي ومزايدات التوراتيين!
إن الدرس الواضح والماثل أمام الجميع أنه استراتيجيا، قبل أن يكون أيديولوجيا أو عقائديا، فإنه لا يمكن لطرف عربي منفرد، أو حتى عدد من الأطراف منعزلين، أن يحقق أي أمن حقيقي، ومن ثم فلا يمكن لأي تنمية حقيقية أن توجد خارج مشروع عربي جامع وجبهة موحدة تحقق التحرر من قلب الصراع وبناره!
للاطلاع على المقال السابق اضغط هنا
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد