الخلافة بين تصورين.. د. عبدالباسط هيكل.. قرن من الإسلام وأصول الحكم في تفكير
يقدم د. عبدالباسط هيكل لمحاضرته عبر تفسير اختياره لعنوانها، الذي يوضح أن حديثه يعرض تصورات عن الموضوع وليس بالضرورة حقيقة ما كان، بل هي محاولة للتفكير في الخلافة من خلال تصورين ينطلق منهما د. عبدالباسط.
التصور الأول والذي تتبناه المدرسة الحرفية هو أن الخلافة أصل من أصول الدين وحتمية تاريخية. التصور الثاني يرى أن الخلافة ليست نظامًا إلهيًا للحكم، وليست أصل من أصول الدين، كما يعرض لذلك الشيخ علي عبدالرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” موضوع هذا الموسم في أكاديمية تفكير.
لماذا كتب ولماذا سكت؟
السؤال الذي يطرحه د. عبدالباسط هنا هو لماذا كتب علي عبدالرازق عن الأمر، ولماذا سكت بعدها؟
كان التوقف لسببين: الأول أن خصوم التجديد على اختلافهم يتوحدون على رفض التجديد. والثاني: أن المجددون ينطلقون من مقاربات مختلفة، فلا يتمكنون من التوحد لمواجهة أعداء التجديد. أما الحديث فكان يدفعه حلم النهضة. ولأن الحال لم يكن على ما يرام، فالإصلاح كان ضروريًا. وكما يرى الشيخ محمد عبده أن إصلاح الفكر الديني هو بداية كل إصلاح. وفي قلب هذا الفكر يأتي موضوع الدين والدولة وفكرة الخلافة الإسلامية.
الخلافة كطريق وحيد للوحدة
هل نموذج الخلافة هو نموذج ديني أنتجه الوحي أم نموذج تاريخي أنتجته الظروف الاجتماعية للزمان والمكان؟
كيف تحولت الخلافة إلى حلم يصبو الجميع إلى العودة إليه؟ ألسنا في حاجة إلى وحدة جموع المسلمين؟
نعم نحن بحاجة إلى الوحدة، لكن الوحدة لا تعني التماثل، ولا تعني العودة إلى نموذج من إنتاج الماضي في سياقات مختلفة عن سياقنا. فاختزال الطريق إلى الوحدة في العودة إلى نموذج الخلافة هو اختصار مُخِل وتفكير بسيط لا يلائم تعقيدات سياقنا الحالي.
الخلافة في القرآن
لم يقدم القرآن الخلافة بمعناها السياسي المعروف، بل كانت الخلافة والاستخلاف مفهومًا لغويًا بحتًا، يشير إلى الامتنان لا التكليف. فكل إنسان هو خليفة في الأرض بالمعنى اللغوي لا السياسي، لأنه قادر على التفكير والمواجهة والتطور.
فإذا لم يؤسس القرآن الخلافة بمعناها الديني والسياسي المعروف، هل أسس لها النبي في حياته؟
كان النبي بشرًا رسولًا، إلى جانب سلطته الروحية، كانت له سلطة زمنية يمارس بها الحكم والقضاء والقيادة العسكرية من منطلق بشري لا إلهي، إلا إذا نص الوحي على أمر بشكل مباشر. كان النبي يشاور أصحابه ويتراجع عن قراراته بل ويراجعه الوحي فيها. المعضلة هنا أن المدرسة الحرفية حولت مُجمل قول وفعل النبي إلى وحي.
خلافة النبي.. حلم مثالي أم نموذج واقعي؟
بوفاة النبي اكتمل الدين ولم تكتمل الدولة، وإلا لماذا كان الخلاف في سقيفة بني ساعدة؟ لم يسمِ الرسول خليفته، فحدث الخلاف السياسي البشري عند اختياره. الخلاف الذي أدى إلى تثبيت قيمة قريش لاعتبارات قبلية وروحية لتثبيت دعائم الدولة الجديدة.
وهنا يشير د. عبدالباسط إلى قول أن تيمية بحدوث إجماع على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، إجماع يؤكده د. عبدالباسط، على وجوب وجود سلطة وعدم العودة إلى القبلية مرة آخرى، ولم يكن الإجماع على نظام محدد للحكم بكل تفاصيله. فهذا النظام مرتبط بالبيئة الاجتماعية الموجود فيها.
كما يشير د. عبدالباسط إلى أن الدولة في عهدي أبي بكر وعمر لم تكن النموذج المثالي لدولة كما يتخيله البعض. فقد بدأ عهد أبي بكر بردة البعض وامتناع البعض الآخر عن دفع الزكاة. كانت العصبية والقبلية و”الفعل العربي” كرمز للجمود والتقليد تقاوم فكرة الدولة ووجود حاكم له سلطة عليها كمحاولة للإصلاح والتغيير، في مفارقة مع وضعنا الحالي الذي لا تزال تسيطر عليه القبلية والعصبية، وما استجد عليها أنها أصبحت برداء ديني.
التأسيس لسؤال الخلافة
متى تم التأسيس لسؤال الخلافة؟
يرى د. عبدالباسط أن التأسيس بدأ في عهد عثمان لحدوث إشكالية ارتباط طاعة الحاكم بطاعته لله عندما خرج الناس على والي الكوفة. حل عثمان الإشكالية سياسيًا بعزل الوالي لكنه لم ينتبه لأصل المشكلة وهو ربط الطاعة السياسية بالطاعة الدينية. الأمر الذي تطور في عهد علي مع الخوارج في إجابة سؤال كيف يحكم بيننا القرآن؟
إجابة علي كانت سياسية بأن القرآن لا لسان له، بينما خصومه من الخوارج كانت إجابتهم دينية فرأوا أن حكم القرآن منطوق بداخل القرآن ويجب الأخذ به. وظل الأمر في إطار النقاش والجدل بالكلمات أحيانًا والسلاح أحيان أخرى، حتى ظهر الشيعة وأسسوا لمفهوم الإمامة إلهيًا، فظهر مفهوم الخلافة كرد فعل عند أهل الحديث كمفهوم ديني إلهي.
بدأ أهل الحديث في إيجاد المقاربات لمفهوم الخلافة بشكل بطئ، ثم أصبحت المحاولات أكثر تماسكًا بسبب السياق التاريخي بتفكك الدولة السنية وزيادة نفوذ الدول الشيعية.

يشير د. عبدالباسط إلى غرابة تقديم سنوات من التاريخ كوحدة واحدة رغم اختلاف ظروفها وسياقاتها. فعندما نتحدث عن دولة الخلافة الراشدة، تسلَم كل فرد منهم الدولة في ظروف سياسية واجتماعية مختلفة تمامًا عمن يليه. الأحاديث التي تقسم التاريخ إلى عدة أزمنة تقدم ذلك كوحي من الله يقدم رؤية للتاريخ تحمل بداخلها حتمية تاريخية، فيتم تأويل هذه الأحاديث طبقًا لرؤية المفسر وسياق التفسير الاجتماعي والسياسي.
نشأ لدى السُنة نموذج الخلافة كما لدى الشيعة نموذج للإمامة. في داخل هذا النموذج كان هناك حضور لولاية الفقيه بشكل فردي على الناس في حال كان الحاكم ظالمًا، والكل ينتظر المُخلص أو المهدي المنتظر. ينتظرون من الله أن يبعثه إليهم ليقيم دولة عادلة بدلًا من أن يقيمونها بأنفسهم.
يختم د. عبدالباسط حديثه بالتأكيد على أن ما يعبر الزمن ويعيش هي القِيْم والمبادئ الكلية، بينما التفاصيل ابنة زمنها وتصورات الإنسان. يعطينا القرآن دولة خلافة ليست للمسلمين فقط بل للناس جميعًا، دولة تقوم على العدل واحترام الإنسان.
كما أن استخدام النصوص ليس حلًا، فمن سيأتي بنص ليسند به الخلافة، سيجد من يأتي بحديث مقابل يسقط خلافته ويهدر دمه. فالعبرة ليست في النص كشئ مجرد ولكن هناك إنسان يتعامل مع النص.
تشكّل مفهوم الخلافة الإسلامية في الثقافة الإسلامية المعاصرة من خلال سلطة مفسر تراثي قديم، لابد أن ندرك تأثره بسياق زمنه الذي أدى إلى تقديم الفكرة بشكل استثنائي مثالي مفارق لطبيعة الواقع والحاضر الإنساني، ولابد من الرجوع عن الهروب المستمر الذي يمارسه المسلم المعاصر ليعود إلى زمنه كي يبني دولة واقعية، فلا مكان لدولة ملائكية.
المناقشة
أشار أ. صبيح في إطار خطبة طويلة إلى مبدأ الشورى في القرآن كنظام حكم سياسي واضح، وإلى مقاضاة عمر الحاكم وقتها أحد الناس عند القاضي في تأسيس للفصل بين السلطات. واعتبر د. عبدالباسط مبدأ الشورى في القرآن من المبادئ الكلية البسيطة ولا يبني نموذجًا مُفصلًا مكافئًا للنموذج الديمقراطي. فالإسلام أقر الشورى الموجودة في البيئة العربية. لكنه لم ينتج دليلًا لممارسة الشورى. وأن بالتأكيد المتابع لسير الحكام سيجد مواقف تدلل على العدل والخير، لكنها مواقف إنسانية لا تدل على نظام ثابت تم بنائه.
سأل أ. بهاء عن سبب الاستمرار كل هذه الفترة في السؤال عن نظام الحكم الذي يجب أن يكون، والانطلاق من الماضي لا من اللحظة الراهنة. وأجاب د. عبدالباسط أن المشكلة لا تمكن في وجود الطرح القائل بمثالية الخلافة الإسلامية، لكن المشكلة هي غياب المناقشة ووصم الرأي الآخر وتكفيره مثلما حدث مع الشيخ علي عبدالرازق.
سأل أ. أشرف عن موعد اعتذار الأزهر عن موقفه السلبي مع الشيخ علي عبدالرازق. وأحال د. عبدالباسط السؤال لمؤسسة الأزهر وممثليها معربًا عن تقديره الكامل لها.
تحدث أ. فؤاد عن العلاقة بين كتاب الأحكام السلطانية للماوردي كمؤسس لنظرية الخلافة وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق كناقض لها.
أشار د. عبدالباسط إلى أن البعض لا يتوق إلى الخلافة من منظور ديني، ولكن لارتباطها في أذهانهم بالتفوق والقوة. وهي حيلة دفاعية أكثر منها موقف معرفي لتغيير الواقع. واعتبر د. عبدالباسط أن الشافعي سبق الماوردي بتأسيسه لمبدأ الإجماع في سياق الدولة السنية المواجهة لدولة شيعية.
سأل أ. عبدالله عن دولة إسلامية حالية يمكن اعتبارها نموذجًا للدولة الإسلامية التي نرجوها، وهل يمكن للدولة القومية الحديثة أن تستوعب القيم الإسلامية؟
في البداية أشار د. عبدالباسط إلى عدم دقة مصطلح “دولة إسلامية” لأن البعض يعتبر أن لكي تكون الدولة إسلامية فيجب استدعاء المعرفة الدينية للإجابة عن كل الأسئلة المعرفية فيتم تحميلها بأخطاء ومبالغات. فالدولة المنشودة تستخدم المعرفة دون النظر لديانة صاحبها، وتمنح الحقوق لمواطنيها دون تمييز. وأن الدولة القومية القطرية لا تتعارض مع الإسلام.
سأل أ. أيمن عن طرق المدرسة الحرفية في التعامل مع الخلافة، كما تساءل عن طبيعة إصلاح الفكر الديني كما يقدمه الإمام محمد عبده هنا.
أجاب د. عبدالباسط أن هناك من يتعامل مع الأمر بمبدأ حكم المضطر فالخلافة أمر ديني لكن يمكن تجاوزه بسبب الظروف والأخطار المحيطة. وهناك من يسعى لإعادة الخلافة بوسائل العصر الحديث لينتهي به الأمر ممثل حصري يملك حق إعادة الخلافة، وهناك من يستخدم السلاح إنطلاقًا من مساحة من الأرض ليتمدد بعد ذلك. أما عن الإصلاح الديني فهو يبدأ هنا من طرح الإمام محمد عبده بعدم قبول أحاديث أخر الزمان.
كان أخر المناقشين هو أ. عبدالله وتساءل عن محاولات تكييف نموذج الدولة الحديثة كمنتج أوروبي ليتماشى مع الشريعة الإسلامية.
انطلق د. عبدالباسط من تأكيده على ترابط التجربة الإنسانية والحضارية فلا يجب النظر بريبة إلى الدولة ك”منتج غربي”، أما الشريعة فيمكن استيعابها إذا اعتبرناها هي الأخلاق والمبادئ الكلية كالعدل والإحسان، لكن تنشأ الأزمة عند التعامل معها على أنها الأحكام الفقهية التي لم يحدث تحريك وتطوير لها. سبب المشكلة هنا ليس الدين ولكنه العقل المسلم الذي لم يقم بدوره في التطوير والتحديث وارتضى الجمود عبر العصور.
في الختام شكر جمال عمر د. أكمل صفوت على إدارته للندوة ود. عبدالباسط هيكل على المحاضرة، كما شكر إيمان رفاعي على تصميم الصور الدعائية للمحاضرات، وكذلك فريق ندوات تفكير على إدارته للمحاضرات القادمة في الموسم الذي تقدمه أكاديمية تفكير لنقاش كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق.
للاستماع إلى تسجيل صوتي للندوة. اضغط هنا
لمشاهدة فيديو للندوة
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد