الدين والاجتماع.. أثر متبادل ومتجدد بينهما … بقلم: عمرو عبد الرحمن

بقلم/ عمرو عبد الحمن

280709377_5758375077522788_4038074696299373968_n2 الدين والاجتماع.. أثر متبادل ومتجدد بينهما ... بقلم: عمرو عبد الرحمن

الدين والاجتماع… أثر متبادل ومتجدد
في الفصل الثاني يتحدث أستاذ عبد الجواد ياسين عن تضخم البنية الدينية وكيف أن النص يتطور مع الوقت.
في البداية يطرح فكرة كانت سائدة في الفكر الاجتماعي، وهي أن مع التطور العلمي ستتم تنحية الدين تدريجياً حتى ينتهي وجوده تماماً، حيث العلم أجاب على كل الأسئلة ولم نعد في حاجة إلى الدين.
بالطبع لم يحدث ذلك.. ولن يحدث.

يُرجع الكاتب ذلك إلى أن الدين ليس كتلة واحدة، لكن شيئين منفصلين نوعاً ما عن بعضهما.. الدين نفسه، المعبر عن الأخلاق الكلية والمعتمد على التجربة الذاتية الفردية كمصدر للإيمان، وهذا مفهوم تم تغييبه من قبل المؤسسات الدينية لفرض وصايتها.. والتدين وهو الشق الاجتماعي من الدين والمتأثر بالبيئة والزمن.

ويضرب الكاتب مثالاً على تطور الدين بفعل البيئة الاجتماعية بالعلاقة بين الرأسمالية والإصلاح البروتستانتي عند كالفن، التي تشبه التعامل الرأسمالي القائم على حسابات المكسب والخسارة بالتعامل مع الله الذي يتقرب إليه الناس بالطاعات، وهي تنازلات عاجلة مقابل وعد بمكافآت مؤجلة.

في الحالة الإسلامية، ما هي التغيرات التي أحدثها حضور الدين على الاجتماع؟ وكيف أثرت هذه التغيرات بعد ذلك في الدين؟

تبلور الدولة
مع اختلاف الدرجة بين التنظير السُني والشيعي، فالدولة في الطرحين هي دولة دينية، فالدين حاضر بقوة في أهداف الدولة سُنياً، والدولة حاضرة بقوة في صميم الدين شيعياً.
النص التأسيسي مر بمرحلتين تطور فيهما، المرحلة المكية عبّرت عن جوهر الدين وكانت فكرة الدولة غائبة عن النص. ومرحلة مدنية سجل فيها القرآن التحول إلى الدولة بفعل الحراك الاجتماعي، ولكنه لم ينشئه بتكليف صريح، لذلك لا يوجد كلام عن الدولة ككيان أو إطارها السياسي ولا نظام الحكم.

وكما فرضت ظروف الواقع نشأة الدولة، فرضت الظروف على الدولة الإطار السياسي، ونظام الحكم سُنياً تم تنظيره في الخلافة وشيعياً في الإمامة.
نظريًا الدولة في نظام الخلافة مؤسسة بشرية وضعية، عكس نظام الإمامة الذي فيه الدولة ممثلة في الإمام، تنطق باسم الله مباشرة بصلاحيات ثيوقراطية شمولية.
لكن عملياً الدولة السنية مارست الصلاحيات الشمولية خاصةً من بداية الدولة الأموية. وإن الحضور المتواصل للدولة هو الذي كرّس مفهوم الشريعة، وليس أن حضور الشريعة هو ما أوجب إنشاء دولة لتقوم بتطبيقها.

الفتوح العسكرية

النص الديني مر بثلاث مراحل للتطور. النص المكي عبّر عن جوهر الدين وطبيعته المسالمة وتقديم منظومة الأخلاق الكلية. النص المدني سجل انغماس الدين بشكل أوسع في الاجتماع، فعبر عن وقائع تاريخية خاصة بظروفها المحلية لا عن قيم مطلقة رغم ورودها بنص.
مرحلة الفقه قامت بالتأصيل للنصية. فتحولت الممارسات العسكرية الخاصة بالجيل الأول، من أحداث خاصة بسياقها الزمني إلى أفكار ومفاهيم دينية مجردة، حتى ينتهي لمفهومين جديدين هما “القتال على الدين” و “دار الإسلام ودار الحرب” رغم تناقضهما مع فكرة لا إكراه في الدين المنطقية والمنصوص عليها، والمتماشية مع المفهوم المطلق الأخلاقي.

في مرحلة النص كان التعامل مع الغنائم والفيء، لأن المواجهات لم تخرج عن طبيعة الجزيرة الصحراوية، لكن مع الفتوح واتساع رقعة الدولة كان التعامل مع الخراج، وقرر عمر عدم توزيع الأراضي على المقاتلين عكس ما كان يحصل، وهو قرار تحول لواقع ثم إلى حكم فقهي.

حركة الفتوحات شيء منطقي بالنسبة لدولة ناشئة تحركها مثل كل الدول وقتها غريزة التمدد، ولأن الدولة كانت دينية نستطيع فهم التضارب بين جوهر الدين والسلوك السياسي لدولة دينية، الذي أنتج أخلاق تتعارض مع القيم الكلية ذات الطابع المطلق، ليميز الفقه بين البشر في حرمة الدماء، والأموال، والأعراض، ويقبل فكرة العبودية، ويرتب عليها تمييزاً في الحقوق بين الناس.
إلى جانب الدافع السياسي كان هناك دافع اقتصادي. فيمكن أن نشبّه الفتوح بحركات الهجرة التي كانت تحدث في الجزيرة العربية نتيجة الجوع. ويمكن القول أن الفتوح كانت تطورات طبيعية نتيجة السياسة والاقتصاد، وفر لها الدين مركز لجمع الناس وشحن حماسهم.

إلى أي مدى يؤثر التمدد الجغرافي على التدين؟
يرصد الكاتب تأثر نمط التدين باتساع الرقعة الجغرافية. فاليهود تبنوا الآلهة البعلية الزراعية للكنعانيين إلى جوار يهوه بعد خروجهم إلى فلسطين. وانصب مجهود أنبياء مثل إيليا واليشع على مقاومة اتساع نفوذ الآلهة البعلية مقابل نفوذ يهوه.
تراجع النموذج الرعوي في النصوص إلى نموذج أكثر مدينية وزراعية، وبدلاً من الخيمة المتنقلة ينشأ الهيكل ويظهر مفهوم الكهانة المركزية والأماكن المقدسة.

أما في المسيحية فالتأثير الجغرافي أوضح. فحركة يسوع الناصري ظلت حركة إصلاح لليهودية إلى أن أصبحت ديانة مستقلة عندما نقلها بولس إلى مدن السواحل الرومانية. ومع تخلي بولس عن العناصر الاجتماعية المرتبطة بالتاريخ اليهودي مثل الشريعة، حدث التناغم مع التكوين الهيكلي الروماني، مما مكن الدولة من لعب دور صريح في نشر الديانة الجديدة، بل وتأسيس بنيتها اللاهوتية الجديدة في مجمع نيقية.

تضخم البنية الدينية في الإسلام
على عكس المسيحية حدث التطور في الحالة الإسلامية داخل بيئته الأصلية، ولا يمانع العقل السلفي الاعتراف بهذا التطور، لكنه يعتبره مرتبط بالعلوم لا بالدين نفسه، لأنه تم تمريره عبر نصوص سواء بتأويل النص الأصلي أو باصطناع نص جديد عبر الأحاديث وروايات الأئمة.

يعاين الكاتب التأثير الجغرافي من خلال عاملين. أولهم هو التسرب خلال النص الجديد، وهو يظل محدوداً نظراً للانشغال بتأصيل سلطة الحديث كمعنى مرادف للسُنة، وتأصيل سلطة السُنة كجزء من الوحي، فلم يظهر الاعتراف بقيمة العُرف إلا في مدونات متأخرة، لأن الشافعي كان يرى النصوص كافية للتشريع ولا يجوز إعمال العقل في وقائع جديدة إلا بالقياس على نص.
المشكلة هي أن تنصيص السنة في جوهرها تنصيص للعُرف، أي لتقاليد وعادات محلية ذات طابع اجتماعي صريح.

سنجد التسرب حدث عبر الإسرائيليات في منطقتين، أولهما المنطقة السياسية في الصراع الذي حدث بين الصحابة وامتد في عهد الدولة الأموية، مثل ما نقله أبو هريرة عن كعب الأحبار أن محمد بن عبد الله مُلكه في الشام. والمنطقة الأبرز هي لاهوتية فيما يتعلق بالتشبيه والصراع الذي أدى لنشأة علم الكلام.

العامل الثاني لتأثير الجغرافيا، هو التسرب عبر المنظومة الثقافية.
حاول العقل السلفي إبعاد تأثير الثقافة العامة عن منطوق الدين، ونجح بشكل كبير فيما يتعلق بمنظومة الفقه المبكرة، لكن الثقافات الأجنبية استطاعت أن تؤثر في مجالات مثل علم الكلام، والتصوف، والتاريخ، والأدب.

يناقش الكاتب تأثير الصراع السياسي على بنية الدين، ويراه العامل الأبرز في تطورها. فبعد الافتراق إلى السنة ممثلة الدولة المتغلبة، والشيعة ممثلة المعارضة العلوية، والإباضية وريثة معارضة الخوارج، كان لابد لكل طرف أن ينصص لنفسه ويؤول النصوص الموجودة للتأسيس لسلطته.
فمع الشيعة ظهر مصطلح الإمامة كمكمل للنبوة، وتم تأويل النصوص للتأسيس لاستحقاق نسل علي للإمامة دون غيرهم. وأصبحت الإمامة مفهوم منفصل عن الحاكم.
على المستوى السُني ظهر التطور في إنشاء النص الجديد والدور البارز للشافعي بتنصيب الرواية محل السنة، وجعلها مرجعية منفصلة عن القرآن ومكافئة له.

مع وفاة النبي كان مفهوم النص المقدس ينطبق فقط على القرآن، مع شيء من التحفظ بسبب أن الجمع الشامل لم يكتمل إلا في عهد عثمان، إلى جانب نقاشات تمت على عملية الجمع من حيث الموضوع والمنهج ولزومية الجمع الحصري.

الجانب الأهم هو كيفية تعامل الصحابة مع القرآن كنص تشريعي. فالصحابة تعاطوا مع النص من خلال النص المُنجم أي المرتبط بوقائع، وهذا يفسر وجود نزعة اجتهادية صريحة لديهم ليست متطابقة مع أحكام صريحة في القرآن، لأنه لم يكن هناك وعي بقاعدة لا اجتهاد مع النص التي نشأت مع أجيال متأخرة.

المثال الأبرز هو تشريعات عمر بن الخطاب المتجاوزة للنص، والتي كانت معبّرة عن مرونة تشريعية متفاعلة مع الواقع، ومعبّرة عن المقاصد الكلية للنص من وجهة نظره.
طبعاً هذا تفسير لم يكن له قبول عند المتأخرين الذين أسسوا لسلطة النص، فتم تأويل تشريعاته لجعلها مُنطلقة من النص وليس من سلطة تشريعية منفصلة ولا تفاعلاً مع الواقع، بآليات مثل الإجماع، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم، والاجتهاد في فهم النص لا في مقابل النص.

في ذلك الوقت لم تكن السنة نصاً بالمعنى الذي كانه القرآن. ولم تصبح حتى انفصل الفقه عن القضاء وأسس للنص الجديد.
المشكلة كانت في اعتبار النص كافياً للتشريع، ما أدى لتمدده ليشمل أخبار الآحاد، فكانت المشكلة عند العقل السلفي هي حجية أحاديث الآحاد دون الالتفات للمشكلة الأكبر، وهي كون النص نفسه مرتبط بالعُرف الاجتماعي في زمنه.

الحديث لم يغط فقط تشريعياً المساحة التي تركها القرآن خالية، وهي مساحة كبيرة. لكن بسببه تمت إعادة قراءة النص القرآني في ضوء الروايات، وكان لها القول الفصل في توجيه دلالة النص القرآني إلى حد التغاضي عن منطوقها الصريح مثل حكم الرجم.

في الواقع الفقهي أسفرت الممارسات عن هيمنة الرواية على النص الأصلي، وهي هيمنة تشير لسيطرة الاجتماع على النص، وتحميل النص بالعُرف الاجتماعي السائد في عصر النص والتنصيص.

لقراءة المقالات السابقة من سلسلة الدين والتدين بقلم عمرو عبد الرحمن، اضغط على الروابط التالية:
3- هل التشريعات الدينية مطلقة أبدية؟ …. بقلم عمرو عبد الرحمن
2- التشريعات في إطار الاجتماع … بقلم عمرو عبد الرحمن
1- الدين.. والتدين.. الطبيعة المزدوجة للنص … بقلم عمرو عبد الرحمن

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

2 comments

اترك رد

ندوات