السلطة السياسية في الإسلام.. نص السلطة وسلطة النص … بقلم: عمرو عبد الرحمن
وصلنا من الكاتب عمرو عبد الرحمن هذا التنويه بعد نشر المقال:
في رسالة وصلته من الأستاذ عبد الجواد ياسين أشار إلى أهمية التنبه إلى تواريخ صدور الكتب. السلطة فى الإسلام كتاب مبكر تم تجاوزه جزئيا فى الدين والتدين، وهذا بدوره تم تجاوزه فى اللاهوت. وذلك تعليقا على إشارتنا إلى موقفه من سلطة النص فى كتاب السلطة فى الإسلام.
إن المرجع الرئيسي للعقل المسلم في مسألة السلطة هي حوادث الخلفاء منذ أبي بكر، وهي حوادث تاريخية لاحقة على اكتمال النص.
فهل يمكن النظر للنص بدون تأثير هذه الأحداث التاريخية؟
بقلم: عمرو عبد الرحمن


يبدأ المستشار عبد الجواد ياسين كتابه السلطة السياسية في الإسلام بعبارة مهمة ومركّزة، وهي أنه إذا كان التاريخ مفتاح العقل، فإن السلطة هي مفتاح التاريخ. أي أننا إذا أردنا فهم عقلية مجتمع ما أو كيان ما في اللحظة الراهنة، يمكننا القيام بذلك عبر قراءة تاريخه وملاحظة التراكمات التي أدت لتشكيل الوعي في اللحظة الحالية. ولفهم هذا التاريخ يجب علينا فهم كيف تطورت السلطة وكيف أثرت فيه، خاصة في التاريخ الإسلامي.
وبما أن البداية كانت مع النص، يبدأ الأستاذ عبد الجواد ياسين في الاشتباك مع الأدوات التي تم استخدامها لتفكيك النص.
النص الذي هو ثابت، وظيفته العمل عبر الزمن والذي هو متغير، فكيف كان ذلك؟
كانت الأداة التي تم استخدامها تاريخياً لتفكيك النص كي يعمل فيما هو متغير هي اللغة. وهي أداة رغم أهميتها، لا تكفي لبيان النص.
فالنص ليس مجرد مجموعة من الألفاظ المجردة، لكنه ألفاظ مرتبطة بسياق متوقع منها التأثير على بشر في سياق آخر.
هذا الانتقال لا تستطيع الأدوات اللغوية وحدها القيام به.
قد تظن عزيزي القارئ أن الأستاذ عبد الجواد ياسين يدعو إلى قطيعة ما مع النص، لكن الأمر على العكس تمامًا.
عبد الجواد ياسين في رأيي يعتقد في مقولة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان أكثر من السلفيين أنفسهم.
ولكن عن أي إسلام نتحدث هنا؟
عن إسلام النص لا إسلام الفقه، وباستخدام أدوات مرتبطة بالنص والزمان معاً، وليس بأدوات اللغة والفقه حصريًا.
الأدوات التي تم إنتاجها في ظل سلطة تلتمس الشرعية في أفعال السلف، وفي لحظة صراع مع الشيعة.
إن المرجع الرئيسي للعقل المسلم في مسألة السلطة هي حوادث الخلفاء منذ أبي بكر، وهي حوادث تاريخية لاحقة على اكتمال النص.
فهل يمكن النظر للنص بدون تأثير هذه الأحداث التاريخية؟
عندما يتردد على مسامعك مصطلح أهل السنة والجماعة، يتبادر إلى ذهنك تيار من المسلمين يواجه مجموعة من المهرطقين المنكرين للدين.
لكن الحقيقة التي يشير لها الكاتب هي أن المصطلح سياسي أكثر منه ديني. جاء بعد تحالف الفقه السلفي مع السلطة السياسية في مواجهة الفرق المخالفة للسلطة، فالسنة هنا هي النصوص التي اعتمد عليها الفقه للتمدد بأدواته، والجماعة هم من أيدوا السلطة الحاكمة، أو بالأحرى لم يعارضوها.
يقّسم عبد الجواد ياسين التيارات الإسلامية إلى سلفية، وهي التي دخلت منظومة الفقه وتعاملت بأدواته مع النص، ولا سلفية كالخوارج والشيعة والمعتزلة.
وكانت نشأة نظرية الخلافة رد فعل لحركات الخوارج وأطروحات الشيعة، تهدف إلى إضافة مزيد من الشرعية على كل سلطة قائمة.
وبالنسبة للعقل السلفي، فأي شرعية أفضل من شرعية قائمة على نص؟!
كُتبت نظرية السلطة في التاريخ الإسلامي عبر عدة مراحل، أولها الدولة الأموية كانفجار سياسي أول ثم انفرد أهل الحديث بتدوينها وتدوين الإسلام كله بعد انقلاب الخليفة العباسي المتوكل، ليقدموا طرح على أنه الطرح الإسلامي الملزم.
أحد جوانب القضية المهمة هي الموقف من الحرية الإنسانية.
الحرية في مواجهة الإلزام أو التكليف الديني، الحرية في مواجهة الاستبداد، الحرية في مواجهة الجبر أو الحتمية.
هي سلسلة متناغمة تشريعياً وسياسياً وميتافيزيقياً، متناغمة مع الموقف من فكرة الحرية الإنسانية بالنسبة للتيارات المختلفة.
فبالنسبة للعقل السلفي، كان الاتجاه للتقييد والإلزام، ثم الاتجاه لقبول الاستبداد ومباركته، ثم الاعتقاد في الجبر والحتمية رغم أن المعروف عنها هو نفي الجبر!
يرى الكاتب أن الاختلاف بين السلفية والجبرية هو اختلاف في الشكل لا المضمون. فبينما ذهب الجبرية إلى نفي القدرة، أقرت الأشعرية وجود القدرة لكنها أنتجت مفهوم الكسب الذي ينفي عن القدرة الحادثة تأثيرها. فالكسب هو اقتران قدرة الإنسان بفعله من غير تأثير.
أراد الأشاعرة الهروب من الجبرية فأقروها، وما كانت محاولاتهم إلا محاولة لتخطي موقف أهل الحديث في مرحلة سابقة، والذي أنكر الجبر وأنكر الاختيار الاعتزالي، لأن السلف لم يخوضوا في هذه المسألة، ولأن إعمال العقل ليس خيارًا مطروحًا، والرأي مذموم، فكان الحل هو رفض كل الآراء والامتناع عن إعطاء رأي محدد!
يسأل سائل ما العلاقة بين ذلك وبين تاريخ السلطة في الإسلام؟
العلاقة هي أن الدولة الأموية كانت ترفع راية الجبرية، لتبرير مظالم الحكم ومفاسده، وإعطائه الشرعية التي يحتاجها. فكل شيء هو قضاء الله وقدره المقدور.
فقضية الحرية لم تولد هنا بغرض فلسفي وإنما في سياق سياسي فرضه الاستبداد الأموي. والموقف السلبي لمدرسة الحديث كان دعمًا للجبر ضد مقولات الحرية التي تبناها المعتزلة.
كان انقلاب المتوكل هو الانفجار السياسي الثاني، وأدى لدعم مدرسة الحديث في مقابل إعمال العقل داخل دائرة النص، والتقليد في مقابل الحرية.
في النهاية يجيب الأستاذ عبد الجواد ياسين عن السؤال الأهم هنا. هل في الإسلام أحكام مُلزمة فيما يتعلق بشكل السلطة؟
بأن الإجابة تعتمد على تعريفك للإسلام، فإسلام النص اكتمل في حياة النبي وتوقف تأثيره السياسي عند التأويل. أما إسلام التاريخ، الذي تم فيه وضع السُنة بمفهومها الجديد والمتضخم حيث استمر تدوينها تحت تأثير السلطة وصراعاتها السياسية إلى جانب أدوات الفقه كالإجماع والقياس وأقوال الصحابة والتابعين والفقهاء، ما سيجعل الإجابة تختلف بكل تأكيد.
ويمكنك أن تدرك ذلك إذا عاصرت الحياة السياسية في مصر في السنوات الماضية، وتحول موقف العقل السلفي في مصر من أن الديمقراطية حرام، ورفضهم الاشتباك مع الحياة السياسية بأدواتها الحداثية، إلى إنشاء الأحزاب ودخول الانتخابات حتى يقوموا برفع الأذان في جلسات البرلمان.
نظرية الخلافة عند العقل السلفي
نشأت نظرية الخلافة لتكون مواجِهة لنظرية الإمامة عند الشيعة التي أسسوها بناء على النص، بينما نظرية الخلافة تعتمد على الإجماع، والذي له نفس حجية النص في العقل الأصولي السني.
استوعبت نظرية الخلافة أشكال عديدة من الحكم واختيار من يخلف الحاكم. فاستوعبت دولة الخلفاء الراشدين الشورية ودولة الأمويين الاستبدادية ودولة العباسيين الأولى الدموية، ودولتهم الثانية التي فرّغت السلطة من مضمونها. ففي غياب النص كان الواقع يكتب نظريته التي تتلوى معه لتتكيف مع كل جديد. كل ما يهم هو أن تحافظ على وجودها.
السُنة.. سلطة النص ونص السلطة
يروي أبو هريرة “خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله، أتدرون ما ضلّ الأمم قبلكم؟ ألا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى”.
يضع النبي هنا يده على الشيء الذي سيغير كل شيء، وهو الوضعية البشرية في النص.
قاوم العقل السلفي النهي عن التدوين والذي هو عام وواضح وقاطع، بحديث خاص بحالة بعينها عندما أذن النبي في الكتابة لأبي شاه.
أخرج البخاري من حديث أَبُي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي فَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا الإِذْخِرَ فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ) (اللقطة/2254) ومسلم (الحج/1355).
قال ابن حجر: وَيُسْتَفَاد.. مِنْ قِصَّة أَبِي شَاه (أكتبوا لأبي شاه) أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي كِتَابَة الْحَدِيث عَنْه!
الإذن لأبي شاه أصبح إذنا عامًا رغم تناقضه مع أحاديث عامة، مثل الحديث السابق الذي رواه أبو هريرة نفسه، وحديث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ “لا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْر الْقُرْآن” رَوَاهُ مُسْلِم.
تحولت السُنة من المعلوم عن النبي بالتواتر إلى أحاديث تُطلب لذاتها، تمتلئ بها مجلدات، ليتم تعميمها وتصبح وصية على النص الخالص، فيترتب عليها أحكاماً خطيرة على العقل المسلم.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
(إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمْ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً. قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ).
السؤال هو، من هم الاثنا عشر خليفة؟
إذا بحثت عن إجابة فستغرق في بحر من الاحتمالات حاول بها السلف تأويل هذا الحديث الغريب.
أصبح التنصيص السياسي أداة هامة في العصرين الأموي والعباسي لتجد أحاديث تمدح معاوية وأحاديث تذم الحكم الأموي، وأحاديث تأمرك بالصبر على ظلم الحاكم.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية، وفي لفظ: من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية.
سقيفة بني ساعدة.. منها بدأ كل شيء
يمكننا أن نفهم أصل المشكلة من تعامل العقل السلفي مع أول اختبار سياسي بعد وفاة النبي، ألا وهو اختيار من يخلفه في سقيفة بني ساعدة.
لم يكن التعامل مع الحدث بوضعه في إطار السياسي والاجتماعي، باعتبار أن هناك أشخاص يرون في أنفسهم جدارة لقيادة الدولة الناشئة وأشخاص يعربون عن دعمهم لهذا أو ذاك بناء على معايير موضوعية سياسية أو تفضيلات شخصية أو حتى نزعات قبلية، لكن الأمر تم وضعه في إطار ديني، فالنبي استخلف أبا بكر على الصلاة في مرض موته. هنا نجد القياس.
وأبو بكر يحتج بقول للنبي بأن “الأئمة من قريش”. وهنا نجد النص من السُنة.
وأبا هريرة يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم” متفق عليه.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عند هذا الحديث: هذا الحديث وأشباهه دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش،لا يجوز عقدها لأحد غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك من بعدهم. وهنا نجد الإجماع.
تم تحويل مسألة سياسية تاريخية إنسانية بحتة إلى مسألة فقهية، استخدم العقل السلفي فيها أدوات من نص وإجماع وقياس للوصول إلى حلها الذي لا يصح إلا غيره.
يتجاهل العقل السلفي خلافًا كبيرًا حدث في السقيفة بين المهاجرين والأنصار وعلى رأسهم سعد بن عبادة من جهة، وبين أبي بكر وعلي من جهة. صراعات لم تكن لتحدث لو أن هناك نص قاطع يضبط المسألة كما نجدها في الصورة التي رسمها التنصيص اللاحق على تاريخ حدث وانقضى، فكان من السهل حينها تأويل القصة بما يخدم نظريتهم التي وضعوها، مع نصوص تعطيها الشرعية النصية اللازمة، وتنفي عنها سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد