العلاقة بين العقل والوحي عند ابن رشد … بقلم: محمود مصطفى
هذا المقال يخص بالبحث والعرض لفيلسوف الأمة الأبرز ابن رشد وعرض نظرياته وأهم إنتاجه وأطروحاته. وقد نشر في العدد الثاني من مجلة تفكير تحت باب “من الأفكار الفلسفية لنشأة الجماعات الإسلامية”.
محمود مصطفى
دكتوراه في الهندسة الكهربية. وحاصل على ليسانس دار العلوم.
من المهتمين بالتجديد في الفكر الديني.

حياته
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن رشد (1126 – 1198 م)، من أكبر فلاسفة الإسلام، الشهير بالشارح (أي شارح أرسطو)، ولد بقرطبة سنة 520 هجرية من أسرة، لها منذ زمان طويل المركز العالي المرموق في العلم والقضاء فجده وكان يعرف مثله ابن رشد كان قاضي القضاة بالأندلس كلها وأمير الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة.
ويمثل ابن رشد، في رأي الكثير من المفكرين في العالم الإسلامي وخارجه – قمة توهج الفكر والفلسفة الإسلامية.
وفي هذا المقال سنحاول الاقتراب من فكر ابن رشد في واحدة من أهم القضايا التي شغلت عقول الكثير من الفلاسفة سواء من المسلمين أو غيرهم ألا وهي: علاقة الوحي – ونقصد به القرآن في هذا المقال – وبين الفلسفة أو الحكمة كما أطلق عليها فيلسوفنا ابن رشد.

وقد يكون من المفيد أن نشير أولا إلى: أن الحالات الممكنة والتي يصح أن تكون بين الشريعة والفلسفة لا تخرج عن ثلاث حالات:
١- الاعتقاد بالشريعة ورفض الفلسفة بالكلية، وهذا موقف رجل الدين غير المتفلسف.
٢- أن يكون الأمر بالعكس، وهذا يكون موقف المتفلسف الذي لا يبالي بالعقيدة.
٣- محاولة التوفيق بين هذين الطرفين على نحو من الأنحاء. وهذا ما يجب أن يتخذه الفيلسوف المؤمن، أو الذي يبالي بالعقيدة.
وهذا ما انبرى له فيلسوف الأندلس ومما كان دافعا إضافيا لاهتمام ابن رشد بهذا التوفيق هو الهجوم الذي شنه الإمام الغزالي (1085 – 111 م) على الفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة). وخاصة أن ابن رشد بما له من تمكن من الدين وأسراره ومن فهمه الصحيح لفلسفة أرسطو (384 – 322 ق.م) التي يراها الحقيقة وقد وصل إليها المعلم الأول عن غير طريق الوحي. كل هذا يسر لابن رشد أن يقدم بشجاعة وقوة لرأيه في تلك القضية.
ما هي الفلسفة/ الحكمة وما الحكم الشرعي لدراستها
في كتابه القيم “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال” يطرح ابن رشد منطقه في التوفيق بين العقل والوحي أو الحكمة (الفلسفة) والشريعة.
ومنطق ابن رشد كما سنرى يبدو من القوة والوضوح كأنه يثبت معادلات رياضية لا تصل إلى نتيجة إلا بعد معطيات وإثبات وبرهان.
فيقول: “فإن الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟ … أم مأمور به إما على جهة النظر وإما على جهة الوجوب؟
فنقول: “إن كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها، من جهة دلالات على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات فإن الموجودات تدل على الصانع بمعرفة صنعتها وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم”.
وهنا يعرف الفلسفة بأنها رغبة العقل في تأمل المخلوقات والكون ومحاولة معرفة ماهية تلك المخلوقات ومما تتركب وبناء عليه معرفة من أوجدها.
وكلما كانت معرفتنا أدق بالمعلومات كان أدعى أن نعرف أكثر عن خالقها.
ثم يجيب عن التساؤل التالي وهو عن رأي الشرع – ويقصد به آيات القرآن أو ما ثبت من أحاديث الرسول – فكانت نظرة ابن رشد لآي الكتاب تؤكد أن الشرع قد أوجب التفكر والاعتبار (أو النظر) فذكر ابن رشد من آيات الكتاب في قوله تعالى (أَوَلَمۡ یَنظُرُوا۟ فِی مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَیۡءࣲ وَأَنۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَهُۥ یُؤۡمِنُونَ) “سورة الأعراف 185”
وفي قوله تعالى (ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلࣰا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ) “سورة آل عمران 191”. إلى غير ذلك من الآيات العديدة.
وهنا يصل ابن رشد إلى الاستنتاج المنطقي لضرورة النظر فإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراج منه، وهذا هو القياس، أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي، وهذا هو أتم أنواع النظر بأتم أنواع القياس وهو المسمى برهانا.
كيفية الاعتبار والنظر
كما اتضح لنا من النهج المنطقي الذي لا يحيد عنه فيلسوف الأندلس أن الشرع قد أوجب النظر والاعتبار فإن المنطق السليم يفرض ضرورة أن يتسلح من أراد النظر بالأدوات الفكرية اللازمة حتى يكون البرهان صحيحا، فالمنطق العقلي يرشدنا إلى أن المقدمات الخاطئة ستؤدي حتما إلى نتائج خاطئة. ولهذا كان تأكيد ابن رشد على ضرورة امتلاك تلك الأدوات لأنه يرى أن من أهم أسباب الجفوة المصطنعة بين الحكمة والشريعة هو أن كثير ممن اتخذ جانب الشريعة وكثير ممن ادعى الحكمة قد ضعفت لديهم تلك الأدوات الفكرية فأدت بهم إلى فهم خاطئ للشرع من ناحية والحكمة/الفلسفة من الناحية المقابلة.
فيقول: “من الأمر الضروري لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يتقدم أولا فيعلم أنواع البراهين وشروطها ولماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي، والقياس الخطابي والقياس المغالطي”.
ويواجه ابن رشد الآراء التي ترى البدعة في كل اتجاه فكري جديد بحجة أنه لم يرد عن الرسول او الصحابة او التابعين، برد قوي ومنطقي يتسق مع منهجه فيقول: “وليس لقائل أن يقول إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة، إذ لم يكن في الصدر الأول ،فإن النظر أيضا في القياس الفقهي، وأنواعه هو سيء استنبط بعد الصدر الأول وليس يرى أنه بدعة ، فكذلك يجب أن نعتقد في النظر في القياس العقلي”.
منهج ابن رشد في التعامل مع الشرع (آيات القرآن الكريم)
مراتب الناس وتفاضلهم في التصديق
والمبدأ الأول يأتي كنتيجة تثبتها الحقيقة البشرية والتي يراها الجميع في كل مكان أو زمان حل فيه البشر.
وطبقا لما ذهب إليه فيلسوفنا – وأثبته – من ضرورة النظر والاعتبار باستخدام القياس العقلي وأدواته والتي وبلا شك هي أدوات ليست بالسهل امتلاكها ناهيك من أن يتقنها الشخص العادي، هنا يطرح ابن رشد تصنيفه لمراتب التصديق عند الناس طبقا لاختلافهم في الفِطَر والعقول واختلاف استعدادهم ووسائلهم إلى فهم وإدراك ما جاءت به الشريعة:
الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية.
أهل الجدل: ومنهم رجال علم الكلام، وهم الذين ارتفعوا عن العامة ولكنهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني.
وأخيرا البرهانيون: بطبعهم والحكمة التي أخذوا أنفسهم بها.

والحق أن ابن رشد ليس أول من ذهب إلى تقسيم الناس من حيث قدراتهم الاستيعابية بل ذهب إلى هذا كل الفلاسفة من مختلف المدارس الفقهية قديما وحديثا. وهذا التصنيف عنده ليس تصنيفا استعلائيا أو عنصريا بل هو إقرار لحقيقة يراها أي متأمل في طباع البشر، كما أن هذا التصنيف لم يقصد به ابن رشد أن يجعل حواجز جامدة بين الناس ولكنها قواعد تنظيمية علمية في المقام الأول تحكمها قدرة الفرد العقلية وامتلاكه لأدوات النظر ودرجة تمكنه منها، كما أشرنا لها سابقا.
وتظهر ملامح قوة النظر عند ابن رشد حيث يجد الفيلسوف الأندلسي في الشرع ما يؤيد مذهبه هذا حيث يقول: “وذلك أنه لما كانت شريعتنا قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عم التصديق بها كل إنسان إلا من جحدها عنادا بلسانه، أو لم تتقرر عنده طرق الدعاء فيها الي الله تعالي لإغفاله ذلك من نفسه“. ولذلك خص الله الرسول بالبعث إلى الأحمر والأسود لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى وذلك صريح في قوله تعالى: (ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ والموعظة ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَـٰدِلۡهُم بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ ) “سورة النحل 125”
التأويل
هو أمر يراه ابن رشد من الضروريات لأهل النظر/ الفلاسفة أكثر من ضرورته للفقهاء، لأنهم أقدر عليه، وأحق باستخدامه، ولأن دواعيهم إليه لا تقاس بها دواعي الفقهاء.
كما يراه الطريق إلى نفي ما قد يبدو من تعارض أو تناقض بين ظاهر النصوص وبين الحقائق اليقينية التي تكون نتيجة التحليل المنطقي (البرهان) عند أهل النظر والمشتغلين بصناعة الحكمة.
وفيلسوفنا يرى أن نصوص الشريعة تحوي معنى ظاهرا للعامة، وآخر باطنيا للخاصة وأن هذا المعنى الثاني يظهر بالتأويل لمن هو أهله.
ويحسن أن نشير أن وجود نصوص في الشريعة يجب تأويلها يعتبر إشارة أو دعوة من الدين إلى التفلسف لأنه لا يمكن إدراك المعاني الخفية من هذه النصوص إلا بالنظر الفلسفي وإلا كانت النتيجة الحتمية ترك جانب من النصوص بلا فهم صحيح وترك كثير من معانيها المهمة بلا إدراك، وهذا ما لا يرضاه محب للشريعة.
قواعد التأويل
ولما كان ابن رشد قد وصل الى ضرورة التأويل – وهي الكلمة التي تستخدمها الحركات الباطنية في تحميل الشرع ما ليس منه ويؤول من يشاء ما يريد من النصوص ويذيع ما يريد لمن يريد ويخفي ما يريد – بالقطع كان على فيلسوف الأندلس شارح أرسطو الكبير أن يضع قانون للتأويل يخرج به عن الخرافات ويصل بواسطته إلى التوفيق بين الشرع والحكمة.
وهذا القانون يتلخص في أن المعاني في الشرع خمسة أصناف:
1- أن يكون المعنى الظاهر هو المراد حقيقة وهذا الصنف لا يجوز تأويله مطلقا.
2 – أن يكون المعنى الظاهر ليس مرادا بل هو مثال أو رمز للمعنى المقصود حقيقة ولكن لا يمكن الوصول لهذا المعنى إلا بقياس بعيد ومركب لا يوصل إليه إلا بتعلم طويل وعلوم جمة لا يقدر عليها إلا الخواص وهذا النوع لا يجوز تأويله إلا للراسخين في العلم.
3 – أن يكون المعنى الظاهر مثال ورمز ولكن من اليسير فهمه وهذا النوع لابد من تأويله والتصريح بهذا التأويل للجميع.
4 – أن يكون المعنى الظاهر مثال ولكن يعرف بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال وبعلم بعيد لا تقدر عليه العامة ومن في حكمهم. وهذا الصنف تأويله خاص بالعلماء ويؤولونه لأنفسهم خاصة اما للآخرين الذين فهموا أنه مثال ولم يعرفوا كيف أو لماذا هو مثال فيقول لهم أنه من المتشابه الذي يجب عدم البحث عنه إلا للراغبين من العلماء أو ينقل لهم التمثيل لما هو أقرب إلى معارفهم ومداركهم.
5 – أن يكون المعنى الظاهر مثالا ورمزا لآخر خفي ولكن لا يتبين أنه مثال إلا بعلم بعيد، ومتى عرف أنه مثال يتبين لماذا اختير بذاته ليكون مثالا.
وهذا القسم من الممكن أن نقول إن الأحفظ للشرع ألا يتم التعرض لتأويله بل الأولى بالنسبة لغير العلماء أن نبطل الأمور التي من أجلها ظنوا أن المعنى الظاهر هو مثال لآخر خفي هو المراد منه.
وبعد هذا التفصيل يقول ابن رشد: “أن الصنفين الرابع والخامس يؤدي التأويل فيهما إلى اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة وإذا فشت سينكرها الجمهور”.
ومراد ابن رشد هنا أن من الخير هنا هو البعد عن التأويل وأنه لما أخذ بعض الفرق من لا تتميز لهم هذه المواضع (مثل الصوفية) في تأويل نصوص الشريعة اضطرب الأمر في الدين ووجد بين المسلمين فرق يكفر بعضها بعضا.
وهكذا يرى ابن رشد أنه لتفادي النتائج السيئة ولإيقاف العداوة بين الشريعة والفلسفة يجب بصفة عامة ألا يصرح بالتأويل وخاصة التأويلات البرهانية لغير أهلها وهم أهل البرهان.
كما يجب تظهر هذه التأويلات في الكتب الخطابية (يقصد التي توجه لعوام الناس) أو الكتب الأعلى منها والتي توجه الي أهل الجدل، وإلا أدى هذا إلى إبطال ظواهر النصوص التي يفهمها الواحد من هاتين الفئتين مع عجزهم عن إدراك التأويل البرهاني، فيضل ويقع في الكفر إن كان ما يعجز عنه من أصول الشريعة.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد