كيف تم جمع المصحف في مصر في بداية القرن العشرين..تاريخ المصحف الحالي..المقال الأخير..جمال عمر.. إعداد: سماء معاوية
تأتي هذه السلسلة من المقالات ضمن مشروع كتاب عن تاريخ المصحف الحالي للمفكر جمال عمر، كان البحث مجموع في صورة مرئية أو مجموعة فيديوهات على الإنترنت فعملتُ على تحريره وتحويله من صيغته الشفاهية إلى مكتوب، ليتنسى للقارئ الاطلاع عليه والاستفادة منه وإضافة لحقل الدراسات القرآنية باللغة العربية، نشرنا خمس مقالات، كان الأول بعنوان إشكالية تاريخ المصحف، وتناول المقال الثاني مصحف المدنية المنورة، والثالث مصحف القاهرة 1952 أما الرابع عرضنا فيه مصحف القاهرة 1924, والخامس عرضنا فيه مصاحف قبل مصحف القاهرة 1924 ومصاحف بعده في مقالنا السادس والأخير نتناول تقرير لجنة مصحف القاهرة 1924 في في في ف……………………………..سماء معاوية
جمال عمر

في المقالات السابقة بدأنا حديثنا من المصحف المنتشر والذي يعرفه الناس اليوم، مصحف مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، هذا المصحف الذي طُبع منه خلال خمسة وثلاثين عامًا ما يقارب أربعمئة مليون نسخة، وُزع بالمجان على الحجيج في مواسم الحج، حتى صار المصحف الأكثر انتشارًا بين المسلمين في العقود الأربعة الماضية. ثم توقفنا عند اللجنة التي أُسندت إليها مهمة اعتماد الطبعة الأولى سنة 1984م. ووضحنا كيف أن مصحف مجمع الملك فهد كان امتدادًا لمصحف القاهرة 1952م. ثم تعرضنا لمصحف القاهرة 1952، وأشرنا للتعديلات التي أدخلت عليه مقارنة بالنسخة التي سبقته في مصحف القاهرة 1924 أو ما يسمى بالمصحف الأميري أو مصحف المساحة. وتتبعنا مسار هذه المصاحف ورصدنا التحولات التي طرأت عليها لنصل إلى أن مصحف 1924 هو الأساس الذي بنيت عليه المصاحف المنتشرة اليوم في العالم الإسلامي، وفي مقال سابق تناولنا عمل لجنة مصحف القاهرة 1924 ورصدنا مصاحف تأثر بها هذا المصحف ومصاحف تأثرت به، واليوم سنقف أمام التقرير الذي وضعته لجنة المصحف في طبعة مصحف 1924 ونتأمل تفصيلاته عن قرب.
الجمع المصري للمصحف في القرن العشرين
لم يكن اختياري لهذا العنوان محض صدفة فقد بدا لي واضحًا أن هذه اللحظة تعد أول مرة يتم فيها تشكيل المصحف عبر لجنة رسمية، وهو تطوّر فارق إذا ما قورن بما كان عليه الأمر طيلة أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. فدائمًا ما كنا نسمع عن لجنة جمع مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، لكن ما تلا ذلك من محاولات في مجال كتابة المصاحف، من سنة 24 هـ حتى 1342 هـ، كانت في أغلبها جهودًا فردية، يتولاها خطاطون وعلماء ضمن مبادرات أهلية وعمل فردي.
في بدايات القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1914، بدأت وزارة المعارف المصرية في تشكيل لجنة علمية مختصة لعمل مصحف جديد. وقد تحدثتُ سابقًا عن أعضاء هذه اللجنة، التي عملت بجد من عام 1914 تقريبًا حتى 1918، واضعة الأسس الأولى لهذا المشروع. فقد جاءت ثورة 1919 في مصر، ومعها الاضطرابات السياسية، ثم تبِع ذلك إلغاء الخلافة العثمانية. وهنا سعى الملك فؤاد الأول إلى أن يملأ هذا الدور، وأن يُقدّم نفسه كخليفة محتمل للمسلمين. وفي هذا السياق، تقرر طباعة المصحف رسميًا سنة 1924.
لجنة مصحف القاهرة



- محمد علي خلف الحسيني الحداد (1865 – 1939)
شيخ المقارئ
- حفني بك ناصف (1855 – 1919)
المفتش الأول للغة العربية وأكبرهم سنا ومقاما
- الشيخ مصطفى عناني
- الشيخ أحمد الإسكندري(1875 – 1938)
مدرسان بمدرسة المعلمين الناصرية
- الشيخ نصر عادلي
رئيس المصححين بالمطبعة الأميرية
المصحف… كتاب نُقل بالرواية
حين نقف أمام تقرير لجنة المصحف التي أشرفت على تكوين مصحف القاهرة سنة 1924، سنجد أنفسنا أمام وثيقة بالغة الأهمية، لا في مضمونها الفني فقط، بل في دلالتها على منهج قائم على الرواية الشفاهية، تمامًا كما في الحديث والشعر واللغة وسائر العلوم.
تبدأ اللجنة في تقريرها بتعريف واضح ودقيق: “كُتب هذا المصحف وضُبط على ما يوافق رواية حفص عن عاصم”.
وقد يمر القارئ العادي على هذا النص دون أن يتوقف، لكن من المهم أن ننتبه جيدًا: هذا المصحف الذي بين أيدينا اليوم منقول بالرواية، اعتماد على سلسلة متصلة من النَّقلة، تمامًا كالروايات في الحديث.
فاللجنة لم تعتمد على نسخ مكتوبة سابقة، بل عادت إلى الرواية الشفاهية كما يرويها العلماء والقراء المتصل سندهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
اعتمدت قراءة حفص بن سليمان الكوفي، راوي هذه الرواية الذي وُلِد في الكوفة وتوفي سنة 180 هـ / 796 م. ويروي حفص عن شيخه عاصم بن أبي النجود، الذي توفي سنة 127 هـ، أي بعد وفاة النبي بنحو 110 سنوات. أما عاصم، فقد تلقى قراءته عن أبي عبد الرحمن بن حبيب السلمي، أحد كبار قرّاء الصحابة، المتوفى سنة 74 هـ. وتمتد الرواية من السلمي إلى عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، وكلهم من أوائل من حملوا المصحف وأتقنوا قراءته.
حفص عن عاصم جامع للسنة والشيعة
يبدو أن اختيار رواية حفص عن عاصم لم يكن خيارًا فنيًا فقط، بل ربما كان فيه جانب توفيقي؛ ففي سند هذه الرواية علي بن أبي طالب، مما يجعلها مقبولة لدى الشيعة من ناحية، كما هي الرواية التي اعتمدتها الدولة العثمانية من ناحية أخرى؛ لأنها توافق قراءة الإمام أبي حنيفة النعمان، إمام المذهب الرسمي للدولة. وعاصم كان شيخ أبي حنيفة في القراءة.
في مصر، كانت القراءة المنتشرة هي قراءة ورش عن نافع، وورش نفسه كان مصريًا، وقراءة الدوري عن أبي عمرو، لكن مع دخول الدولة العثمانية، التي اعتمدت مذهب أبي حنيفة في الفقه، ورواية حفص عن قراءة عاصم، ووقوف الأوقاف الدينية خلف مقارئ تتبنى قراءة حفص عن عاصم، بدأت هذه الرواية تأخذ موقعها ومع الدعم المالي والمؤسسي أصبحت هذه الرواية هي السائدة.
فانتقلت الرواية من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأُبيّ بن كعب منهم إلى أبي عبدالرحمن السلمي(693/ 74) الذي أرسله عثمان إلى الكوفة وكان كفيفًا، ثم إلى عاصم ابن أبي النجود الكوفي التابعي ( 745/ 127) وهو زوج أم حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي( 796/ 180) الذي روى القراءة عن عاصم وبسلسلة رواة تمتد حتى محمد خلف الحسيني الحداد (1865/ 1282 – 1939/ 1358).
كان الشيخ محمد علي خلف الحسيني الحداد، شيخ عموم المقارئ المصرية، ينتمي إلى عائلة من أهل الإقراء في صعيد مصر، وتلقى العلم عن عمه الشيخ حسن، الذي تلقاه عن الشيخ المتولي، أحد أهم شيوخ الإقراء، والمولود في زمن محمد علي باشا سنة 1832.
ورغم أن الشيخ خلف الحداد لم يكن الأكبر سنًا حين تولى مشيخة الإقراء عام 1905، إلا أن النسب والسند العائلي كان له دوره، فاختير شيخًا لأنه يحمل سلسلة متصلة من الرواية، تمتد عبر أربعين جيلًا، حتى تصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن اللافت أن نسبة كبيرة من نقلة القرآن عبر العصور كانوا من المكفوفين. فعاصم نفسه كان كفيفًا، وكذلك الشيخ المتولي، وغيرهم كثير. هؤلاء حملت قلوبهم وعقولهم القرآن وانتقلت روايتهم لأجيال بعيدة.
أوضحت اللجنة أن المصحف نُقل بالرواية الشفاهية بسند متصل إلى النبي، يبدأ التقرير في بيان كيف سعت اللجنة إلى تحويل هذه الرواية الحيّة إلى نص مكتوب، مضبوط بالهجاء والضبط والرسم، لتُرسى معالم المصحف الذي نقرأه اليوم.
هجاء المصحف بين الرواية والاجتهاد
اعتمدت لجنة طباعة المصحف على ما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها الخليفة عثمان بن عفان إلى الأمصار الكبرى: البصرة، الكوفة، الشام، مكة، والمدينة، بالإضافة إلى مصحف قيل إنه خص به نفسه. ومع أنه لا توجد نسخ أصلية باقية من تلك المصاحف العثمانية، فإنّ كل ما وصل إلينا عنها هو مجموعة روايات شفاهية التي وصف فيها النُسّاخ أو القرّاء ما رأوه في تلك المصاحف، فنقلوا إلينا هيئة كتابتها وهجائها كما كانت في عصورهم.
استندت اللجنة في اعتماد طريقة هجاء هذا المصحف على ما نقله كبار علماء الرسم مثل أبي عمرو الداني (ت 444 هـ) وأبي داود سليمان بن نجاح (ت 496 هـ)، مع ترجيح مذهب أبي داود في حال وقوع الاختلاف. اللافت أن هذا الاختيار لا يقوم على أقدمية الرواية بقدر ما يقوم على قوة التوثيق وانتشار العمل بما قاله الخلف، وإن كان الداني أقرب زمنًا إلى صدر الإسلام. وهذا يعكس مسلكًا علميًا لا يُقدّم فيه السلف الزمني دائمًا، بل تُرجّح فيه أقوال الخلف إذا استندت إلى تحقيق وتحرير أدق وهي مفارقة مهمة.
ويُلاحظ أن رسم المصحف الذي بين أيدينا لم يُبْنَ فقط على الرواية عن الصحابة والتابعين، بل أيضًا على ما تلقّاه علماء متأخرون بالرواية عمّن سبقهم، في سلسلة نقل شفهية استمرت قرونًا، ما يجعل رسم المصحف – لا قراءته فقط – محكومًا بمنطق الرواية والنقل الجماعي.
طريقة الضبط
في ضبط الحروف، لم تعتمد اللجنة ضبط المصاحف المغربية أو الأندلسية كما هي، بل أخذت قواعد الضبط التي وضعها محمد بن عبد الله عبد الجليل عبد الله التنسي (1417/ 820 – 1494/ 899) وطبّقتها بأسلوب المشارقة، أي وفق علامات الضبط التي قررها الخليل بن أحمد الفراهيدي ومن جاء بعده من علماء المشرق.
ومثال على الاختلاف: في بعض المصاحف المغربية، توضع نقطة القاف أسفل الحرف وأخرى فوقه، بينما توضع نقطة الفاء أعلى الحرف فقط، بعكس ما هو مستقر في المشرق. فدمجت اللجنة بين قواعد مغربية وتقاليد كتابية مشرقية.
هذا الانتقاء العلمي لم يكن محصورًا في الهجاء والرسم، بل شمل أيضًا اختيار رواية معينة من بين عشرين رواية متواترة، هي رواية حفص عن عاصم، وهي رواية كوفية، ولذلك تبنّت اللجنة معها العد الكوفي لآيات المصحف في عدد الآيات، كما سنفصل لاحقًا.
عدّ الآيات
تماشيًا مع اعتماد اللجنة على رواية حفص عن عاصم – وهي رواية كوفية – تبنّى مصحف القاهرة عد الآيات وفق العد الكوفي، وهو ما نُقل عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي. وهذا العد تم توثيقه لاحقًا في قصيدة “ناظمة الزهر” للإمام الشاطبي (ت 590 هـ)، أحد كبار أئمة القراءات في الأندلس، والذي ألّف منظومة شعرية لتسهيل حفظ أصول عدّ الآيات وأماكن الوقوف.
أصبح هذا النظم أساسًا في تعليم العد الكوفي، إلا أن اللجنة لم تكتفِ به وحده، بل اعتمدت شرحه الذي وضعه الشيخ رضوان المخللاتي (ت 1893م)، أحد أواخر علماء القرّاء في مصر، وصاحب مصحف معروف باسمه كما ذكرنا سابقًا. وبين الشاطبي والمخللاتي نحو تسعة قرون.
كما استفادت اللجنة من مؤلفات أخرى مثل تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي، شيخ قرّاء الديار المصرية، لتأكيد العد الكوفي الذي يبلغ في مجموعه 6236 آية، وهو يختلف عن غيره من أساليب العد المتّبعة في مصاحف أخرى كالمكي أو المدني أو الشامي.
فعد الآيات شأنه شأن الرسم والضبط مبني على الرواية والتلقي، وتظهر فيه تباينات تعكس مدارس قرائية متباعدة في الزمان والمكان، وقد اختارت اللجنة مدرسة محددة ضمن هذا التنوع، بما يخدم توحيد المصحف وطباعة مصحف مضبوط مستقرّ على رواية واحدة ومنهج محسوم.
بداية الأجزاء والأحزاب
لم يكن المصحف زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه مقسمًا إلى أجزاء أو أحزاب أو أرباع. تقسيمه إلى ثلاثين جزءًا، ثم إلى ستين حزبًا، ثم إلى أرباع الأحزاب، هو من جهود العلماء المتأخرين، لتيسير القراءة والحفظ والتعليم. وقد اعتمدت لجنة مصحف القاهرة في بيان أوائل الأجزاء والأحزاب على كتب مثل غيث النفع للصفاقسي (المتوفى 1706م)، وناظمة الزهر، و إرشاد القراء والكاتبين لأبي رضوان المخللاتي. وبالتالي، فإن هذا التقسيم هو اجتهاد بشري لاحق لم يكن جزءًا من المصحف العثماني الأول.
تحديد الآيات المكية والمدنية
لم يكن وصف السور بكونها “مكية” أو “مدنية” أمرًا منصوصًا عليه في العهد النبوي، بل هو تصنيف اجتهادي مبني على توقيت نزول السورة. اعتمدت اللجنة في تحديد المكي والمدني على كتب القراءات والتفسير، وكذلك على كتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي (توفي نحو 400هـ). وهناك اختلافات جزئية في تحديد بعض السور، ما يؤكد أن ما نراه اليوم هو ثمرة اختيار من بين اختيارات متعددة.
مواضع الوقف والوصل
بيان الوقف والوصل في المصحف هو من أعقد جهود الضبط، ويعتمد على اكتمال المعنى اللغوي. اللجنة اعتمدت على ما قرره الأستاذ محمد علي خلف الحسيني الحداد. واعتمادًا على فهمه لمعاني الآيات، قامت لجنة المراجعة سنة 1952 بتغيير 800 موضع للوقف والوصل في المصحف، ما يدل بوضوح على أن هذا الضبط خاضع لاجتهاد بشري متجدد.
مواضع السجدات
أُخذت السكتات الواجبة عند رواية حفص من الشاطبية وشروحها، ومن التلقي الشفهي عن المشايخ. وتحديد هذه المواضع يختلف أحيانًا بين طريق الشاطبية وطريق الطيبة، وهي طرق نقل للرواية الشفهية. مثلًا، الإمام الشاطبي (590هـ) شرحه الشيخ المخللاتي (توفي 1311هـ)، وتناقله علماء كالمتولي والحداد، وكلهم اجتهدوا في مواضع السكتات.
اصطلاحات الضبط
كل علامات الضبط التي نعتمدها اليوم (مثل: الصفر المستدير، الصفر المستطيل، الحروف الصغيرة…) لم تكن موجودة أيام النبي، ولا في عهد الصحابة، بل هي إضافات لاحقة وضعت لتقريب النطق الصحيح. فالمصحف العثماني لم يكن منقوطًا، ولا مشكولًا، ولا معجمًا، ولم تكن فيه علامات للوقف أو رؤوس الآيات، وإنما أُضيفت كل هذه العلامات لاحقًا.
خيار العودة للأصل
حين قررت لجنة نظارة المعارف المصرية وضع مصحف موحد يُطبع ويوزَّع، لم يكن الهدف مجرد إخراج نص قرآني مُدقق فحسب، بل كان أيضًا استحضارًا متقنًا لتقاليد الكتابة الأولى للمصحف. وقد عبّر عن هذا التوجّه حفني ناصف، رئيس اللجنة، بقوله إن اللجنة لا تسعى إلى كتابة المصحف وفق قواعد الإملاء المعاصرة، بل تسعى للرجوع إلى الرسم العثماني، أي الطريقة التي كُتب بها المصحف في عهد عثمان بن عفان، والتي لم تكن تحتوي على نقط، ولا على حركات إعرابية أو إعجام، ولا حتى فواصل واضحة بين الآيات كما نعرفها الآن.
ويعكس هذا التوجّه رغبة أصيلة في الحفاظ على طابع النص القرآني كما وصلنا عن طريق السند والرواية، فحتى في مسألة دقيقة مثل اعتبار البسملة آية في سورة الفاتحة، اختارت اللجنة أن تتبع ما استقر عليه جمهور القرّاء، مع الاعتراف بوجود اختلافات في القراءات حول اعتبارها من عدّ الآيات أو لا، وهو ما يعيدنا إلى قضية “العد” التي تعدّ من المسائل التفصيلية المعتمدة على الرواية والاختيار.
ومن الأمثلة على العودة إلى الرسم العثماني أن اللجنة أبقت على صورة الكلمات كما هي في المصاحف الأولى، مثل كلمة: “ذلك الكتاب”، حيث تُكتب بدون ألف بعد الذال. ولتوضيح النطق دون الإخلال بالشكل العثماني، اختُرعت رموز كتابية دقيقة مثل الألف الصغيرة التي توضع فوق الحرف للدلالة على وجوب نطق الألف رغم غيابها من الرسم الأصلي. والحروف الصغيرة بشكل عام هي رموز تدل على أعيان الحروف المحذوفة في الرسم العثماني مع ضرورة نطقها، وهي وسيلة توفيقية بين الحفاظ على الرسم القديم وتيسير القراءة المعاصرة.
وقد واجهت اللجنة تحديات فنية في تمثيل بعض المظاهر الجمالية في الكتابة القرآنية؛ فالمصاحف تاريخيًا كانت تُكتب يدويًا، وكان علماء الضبط يضعون الحروف الزائدة بلون أحمر لتمييزها عن أصل الكلمة، مثل حروف “واو” أو “ألف” صغيرة بلون مغاير. لكن في مطلع القرن العشرين، مع بداية الطباعة، لم يكن بالإمكان تقنيًا تنفيذ هذا التمايز اللوني بدقة، فاختاروا تصغير الحرف والاحتفاظ بلونه الأسود ليدل على ما كان يُميز بالأحمر قديمًا، محاولين قدر الإمكان محاكاة ما فعله السلف ضمن الإمكانيات المتاحة.
وقد ظهرت في هذا السياق أيضًا قاعدة: إذا كان الحرف المحذوف له بدل في الكتابة الأصلية، يُعوَّل في النطق على الحرف الملحق لا على البدل. مثلًا: في كلمات مثل الصلاة وكَمِشكاة، تُقرأ بالألفات رغم أنها غير مكتوبة، وهو ما يُبرز أن النطق يتبع الرواية لا الرسم.
علامات الوقف والوصل


ابتدعت اللجنة نظامًا جديدًا لعلامات الوقف، مثل:
- م: للوقف اللازم
- لا: للوقف الممنوع
- ج: للوقف الجائز
- قلي: جواز الوقف، والوصل أولى
- صلي: جواز الوصل، والوقف أولى
الوصل والوقف في مصحف المخللاتي
بينما كان النظام السابق، كما في مصحف المخللاتي (1834–1893م)، يعتمد رموزًا مختلفة تمامًا مثل:
التاء (ت) للوقف التام
الكاف (ك) للوقف الكافي
الحاء (ح) للوقف الحسن
الصاد (ص) للوقف الصالح
الجيم (ج) للوقف الجائز
الميم (م) للوقف المفهوم
أربعة صاغوا ملامح المصحف الحديث
يمكن القول أن أربعة شخصيات كان لها الأثر الأكبر في صياغة المصحف الحالي:
- الشيخ المتولي (1832–1895): شيخ المقارئ، المرجع الأعلى في روايات القراءة.
- الشيخ رضوان المخللاتي (1834–1893): واضع علامات الضبط والوقف في مصحفه.
- حفني ناصف بك (1855–1919): المفتش الأول للغة العربية بنظارة المعارف، ومقرر قواعد الكتابة.
- الشيخ محمد علي خلف الحسيني الحداد: شيخ مشايخ المقارئ في وقته، والمعتمد في روايته الشفاهية.
الجمع المصري للمصحف في القرن العشرين
وهكذا، فإن المصحف الذي نراه اليوم مطبوعًا وموزعًا في كل بلاد المسلمين، والذي نقرأه ونتدارسه، تعود جذوره إلى القرار الذي بدأت في تنفيذه نظارة المعارف المصرية عام 1914م، وانتهى بطباعة أول نسخة رسمية موحدة من المصحف الشريف عام 1924م. لم تكن هذه الطبعة مجرد مصحف جديد يُضاف إلى ما سبقه، بل كانت نقلة كبرى في تاريخ المصاحف المطبوعة، جمعت بين الالتزام بالرسم العثماني من جهة، ومراعاة الدقة الطباعية الحديثة من جهة أخرى. وكلها اختيارات بشرية لذلك، يمكننا أن نقول إن هذا الجهد كان بمثابة “الجمع الثالث للمصحف”؛ جمعٌ مصري تم في القرن العشرين، بعد جمع أبي بكر، وجمع عثمان، لكنه تميّز بأنه جاء في عصر الطباعة، حيث صار القرآن يُنقل لا بخط اليد، بل بحبر المطبعة. هذا المصحف المصري أصبح هو الأصل الذي استندت إليه معظم طبعات المصحف في العالم الإسلامي، مثل مصحف مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، ومصحف الأردن، ومصحف سلطنة بروناي، وغيرها الكثير. فالمبادئ التي وضعتها اللجنة، واختياراتها في الرسم والضبط، استمرت في التداول حتى أصبحت هي المعيار المعتمد في طباعة المصاحف وهي ما شكلت المصحف الذي بين أيدينا اليوم.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد