علاقتي بعبد الجبار الرفاعي… عبد العاطي طلبة… 4
عبد العاطي طلبه
من الجامعة الأزهرية

(4)
إنسانٌ مُعَذَّب
كان أولُ تواصُل بيني وبين الرفاعي مستهلّ عام 2020م، إذ أرسلتُ إليه رسائل يائسٍ من الجواب؛ أطلب فيها مساعدةً في أمر ما، وكان ليأسي المذكور أسباب منها؛ أنّه لا يجمعني به سابقُ معرفة من قريب أو بعيد، ولستُ بالنسبة إليه إلّا واحدًا من قُرَّائِهِ ومتابعيه، وأيضًا ما استقرّ في نفسي – لتجاربَ سَبْقَتْ – من تَرفُّعِ كثير من الأكاديميّين العرب وإحجامهم عن التواصل الإلكترونيّ؛ إمّا لكبر يُلِمّ بهم، أو لأنّهم لا يلقون لهذا النوع من التواصُل بالًا من الأساس.
باغتَني الرفاعيُّ بردٍّ سريع يمتلئ بالودّ الغامر، ثُمَّ كان أنْ أرسلتُ إليه بعضَ المقالات التي أكتبها في بعض المواقع، فكان يخصّني بالنُّصح، يستحسن منها ما يستحسن، ويُعَقِّب على بعضها بتؤدة وحبّ وأناة طريفة، فوقفتُ به على بعضِ مواطن قصوري وضعفي. توطّدَتْ بيننا العلاقةُ سريعًا وتواترتْ بيننا المكالماتُ والرسائلُ وتَسَلْسَلَتْ؛ حتى دعاني إلى المشاركة بالترجمة في مجلّته الرَّائدة في تجديد الفكر الديني (قضايا إسلامية معاصرة) إثْر مطالعته بعض ترجماتي، وكان من ثمار هذا التعاوُن أنْ شاركتُ في عدَدَيْها السابقَيْنِ – يتناولان موضوع مشكلة الشرّ – ببعض التَّرجمات التي وقعتْ منه موقعًا حَسَنًا، وما كان لها أن تتخلّق إلا بتشجيعه المستمر، وإمداده إيّاي بالمدد المعنويّ والروحيّ اللازم.
خلال هذين العامَين، عرفتُ الرفاعيَّ مُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا وصديقًا وأبًا عطوفًا، واستحكمتْ بيننا أواصرُ المحبّة واشتدَّتْ حلقاتُها، فكان أن طلب منِّي العملَ على مراجعة مشروعه الفكريّ لغويًّا حول فلسفته في الدين؛ وهو ما تَجَلَّى في كتبه: («الدين والظمأ الأنطولوجي»، «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، «الدين وإنقاذ النزعة الإنسانيّة»، «الدين والكرامة الإنسانيّة»، «مقدِّمة في علم الكلام الجديد»)، إذ كان بصدد إصدارها في طبعة جديدة، وفي حُلَّة حديثة مَزيدة ومُنَقَّحَة.
بدأنا رحلةَ مراجعة فصول هذه الكتب فصلًا فصلًا؛ يقوم هو على مراجعة كلّ فصل بنفسه فيزيد ويُنقص، ويقدِّم ويؤخِّر، وما فاجأني أن كان يطلب مني الرأيَ فيما يكتب، وفيما ينقّح ويُعدِّل، وفي تنسيق فصوله وأجزائها، مستمعًا إليَّ بإنصات تامّ وكأنه أُذُن؛ يقبل مني ما يقبل، ويردّ عليّ ما يردّ؛ مُنَاقِشًا إيّاي، ومُعْتَبِرُنِي ندًّا له ولستُ بندّ. لا ينفكّ الرفاعي عن محاولات التعرّف على نفسه بكل طريقة وفي كل شيء، وهو لا يكتفي بولادة واحدة، وإنما يستزيد ولاداته في ديمومة لابثة؛ وأن يولد بتلامذته، وأن يُفَعِّم حيواته بهم، نَحْوٌ من هذا الضرب، وسلوك خاصّ تُجاه التجديد الروحي. انظر إليه يقول: «ولدتُ ولاداتٍ عديدة في حياتي، وما زلتُ أولدُ كلّ يوم من جديد. أولد كل يوم من جديد عبر أخطائي، أولد كل يوم من جديد عبر تجاربي، أولد كل يوم من جديد عبر مطالعاتي، أولد كل يوم من جديد عبر مجازفتي باستئناف النظر في أفكاري، أولد كل يوم من جديد عبر تهوّري في عبور ما هو قارٌّ ومغلق في هويتي، أولد كل يوم من جديد عبر مقدرتي على تجاوز ذاتي، أولد كل يوم من جديد عبر إدراكي لتناقضاتي، أولد كل يوم من جديد عبر اكتشافي لعجزي وجهلي وضعفي، أولد كل يوم من جديد عبر توطُّني التراث وتشبُّعي بمناخاته أكثر من خمسة وأربعين عامًا، أولد كل يوم من جديد عبر قراءاتي وهرولتي المزمنة وراء كل فكرة ومفكر وكتاب ومقال جديد، أولد كل يوم من جديد عبر أسفاري الروحية القلبية العقلية، أولد كل يوم من جديد عبر تنوع وتعدد صداقاتي مع المختلفين عقائديًّا وثقافيًّا وأيديولوجيًّا، أولد كل يوم من جديد عبر رحلاتي بين البلدان. الولادة الأثرى تتجلى في أني أولد كل يوم من جديد عبر تلامذتي وأبنائي، بعد أن حررتهم من كافة أنماط التبعيات والعبوديات، ومنها، العبودية لي؛ فحرروني هم فيما بعد من عبودياتي».
بعد أن انتهينا من مجموع كتبه، قررت كتابة هذه الشهادة، التي استثقلتُها بدايةَ الأمر لِمَا ألفيتُ فيها من مسؤوليّة أتقاصر عنها، إلى جانب تَهَيُّبِي شيطانَ الكتابةَ، إلّا أنَّه كعادَتِه أضرم داخلي جذوةً من ناره الخلَّاقة مرة أخرى. يكتب الرفاعيُّ شذراتِه الإيمانيّة وصورة الإله الرحمانيّ لا تغيب عن ناظره لحظة، يكتب وانهمامه بالإنسان المعذَّب في الأرض لا تنطوي في لاهوته. إنّ الفكرة الرَّئيسَةَ التي رأيتُها تسكن كيانَ هذا الرجل وتسري فيه سريانَ الدم من العروق؛ هي السعي نحو الخلاص الإنسانيّ أرضيًّا؛ عن طريق تَفْعِيل الدين خالِصًا مُخَلِّصًا في نطاق حياتِه الفرديَّة الخاصَّة. إنّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسانَ – أيّ إنسان – يُعاني فقرًا وجوديًّا مُلازِمًا له طول حياته، إذ يفتقر «في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ، لا نهائيّ، لا محدود»؛ ومن أجل ذلك يسعى إلى إثراء ذاته وإغنائها بكل طريق وطريقة، فيقطع في ذلك مسالك شتّى، ويهوي مهاويَ! وهو في هذا القطع إنْ جَانَبَ سبيلَه إلى المقدَّس، بقيَ في لُجَّةِ عذابِه عائمًا ما دام يرجو إرواء وجودِه بغيره.

لذا فالمقدَّسَ لدى كاتبنا ضرورة وجوديّة لا تنمحي، وحاجة إنسانيّة تداهم الإنسانيّة، ولذلك يتَحَتَّم الوفاءُ بها، والتحقُّق فيها. يقول: «الظمأ الأنطولوجي للمقدَّس يجتاح حياةَ كلِّ إنسان، بوصفِ هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود، كي يتخلَّصَ من الهشاشة، ويجعلَ حياتَه ممكنةً في عالَمٍ غارِق بالآلام، ويتسلَّح بطاقة وجوديَّة تجعلُه قادرًا على العيش بأقلّ ما يمكنُ من المرارات والمواجع، ليخرج من القلق إلى السكينة، ومن اللامعنى إلى المعنى، ومن الظلام إلى النور». لا يمكن للإنسان إذن إرواء ذاته، ومَلْئِها بالمعنى بغير هذا المقدَّس. وليس استبدادُ القلق الوجوديّ بالإنسان وتشظِّيه في العالَم إلا مَظْهرًا من مظاهر ابتعادِه عن مصدر الإرواء الحقيقيّ الذي لا ينضب معينُه ولا ينتهي إمدادُه، وما اغترابُه في هذا العالم إلا حالة لازمة لابتعاده عن هذا النوع من الإرواء الحقيقيّ غير المُزَيَّف.
يُولَدُ الإنسانُ وهو في حالة اغتراب حقيقيّ، إذ يفقد دفءَ أمِّه وغذاء رَحِمِهَا في انفصاله عنها بعدما كانا كُلًّا، ويمعن اغترابُه في التوحُّش والإِقْفَارِ ما دامَ منفصلًا عن الله مغتربًا عنه؛ وهو إن أراد نفيَ إملاقِه الروحي، وتشظّيه الميتافيزيقيّ، وخلوّ ذاته عن المعنى في المعنى، فلا سبيل له إلّا عن طريق ائتلافه واجتماعه بالإلهيّ في نفسه واتصاله به، وإذا لم «يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ؛ [الذي] يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفىً عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي». وينبغي الانتباه هنا إلى أنّ الرفاعي لا يعني بالاغتراب الميتافيزيقي تفسير فيورباخ الذي يرى أنّ «خيالَ الإنسان هو من اخترع فكرةَ الإله وأسقط عليها كلَّ كمالاته، فأصبح الإنسان مُستلَبًا، عندما صيّر الإلهَ كلَّ شيء في حين سلب من ذاته كلَّ شيء. الإله في مفهوم فويرباخ مجرد أحلام الإنسان بالكمال»، وإنّما يعني به الرفاعي: اغترابه عن وجود إلهيّ له حقيقة في الخارج يتشتَّتُ عنها الإنسان وينفصل.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد