فرويد والجنّ الذي لبس قريبتي – د. زينب توجاني – المقال الثالث
بقلم: د. زينب توجاني

هنا أدركتُ الفرق بيني وبينها:
أنا كنتُ أهرب من الألم نحو الفهم، وهي كانت تهرب من الفهم لأنه يذكّرها بالألم.
أنا كنتُ أريد أن أشفى، وهي كانت تريد أن تنسى.
أنا كنتُ أبحث عن المعنى، وهي كانت تكتفي بالبقاء.
أنا كنتُ أقرأ لأنني أريد أن أخرج من القفص، وهي كانت تخاف من الهواء خارج القفص.
أنا كنتُ أريد أن أكون أنا، وهي كانت تظنّ أن القدر قد كُتب ولا حاجة لإعادة قراءته.
بعد أن قرأتُ عن التحليل النفسي، وعن الأمراض النفسية، وشرعتُ أتحسّس الأسباب العميقة للآلام التي تعتري النفس البشرية، لم أتوقّف عن البحث للفهم وللعلاج. لكن رغم سنّي الباكر، فهمتُ – بفضل تلك القراءات المتكرّرة – أن الطريق الذي أمامي إمّا يقودني إلى المرض أو إلى الإبداع.
٠٠
لكني كأنّي تلبّستُ كل الذين تعلّمتُ منهم أن الحياة ليست سهلة، وأن الفقر أو الجهل أو الظلم أو المرض الجسدي أو النفسي، أو كلّ ما يحيط بالمرء، لا يعوقه فعلًا، ولا يمنعه أبدًا من تحقيق رغبته هو، وحلمه هو. وبدأتُ أبحث عمّا أريد، وأكتب ما لا أريد، لأفهم ما الذي يتبعني ولا يتبعني. ما الذي تفرضه عليّ التقاليد والعادات والأوامر الأبوية والإلهية، وما الذي تفرضه عليّ الغرائز والطبيعة الحيوانية، وما الذي يميّزني أنا كذات.
لم يكن فهمي مثاليًّا، ولكنّي – على الأقل – شرعتُ أتحكّم بالأمور على هذا النحو: سلاحي ما أتعلّمه يوميًّا، أطبّقه على العالم القاسي حولي: عالم ما بعد الثورة الخمينية، عالم نظام بن علي، عالم سقوط الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة، عالم ما بعد هزيمة العرب في 67، عالم القهر والخذلان والقمع والسجون والجهل والفقر… عالمٌ كان فيه صوت البنت الصغيرة الحالمة، كبنات جيلها، يينع رغم الطين والوحل. صوتٌ تهذّبه المدرسة والكتب والمعارف والشغف بالتعلّم والقراءة.
وأذكر مرّة زارتنا قريبتي في فصل الصيف. كانت آتية من تونس العاصمة حيث تقطن في أحد الأحياء الشعبيّة. جاءت أمّها غضبى، تشكو إلى أبي – خالها – وجلبتها معها. فصالحها أبي على زوجها حين لحق بها، ولكنه أبقى البنت، بنت خاله، عندنا لتمضي فصل الصيف معنا. وكانت تلك الفتاة في سنّي. فرحتُ بها، وكعربون محبّة دعوتُها قائلة: “باش نهزّك معايا للمكتبة غدوة، فاستعدّي”. سألتني: “ماهي المكتبة؟”
فحدّثتُها عنها حديث فتاة مراهقة تستعدّ لتسافر مع حبيبها إلى جزر المالديف. كانت مكتبتي بالنسبة إليّ جزر المالديف… وأفضل! وكنتُ أستعدّ كل صباح كأنّي أستعدّ للقاء حبيب. كان الحبيب هو شجرة السنديان والكتب الرائعة… اكتشافاتي التي تقع أمام عيني بالصدفة، أو تلك الكتب التي أجدها في هوامش كتب لقيتها صدفة فتحملني إليها، فأبحث عنها وحدي بين الرفوف… ويا فرحتي حين أعثر عليها!
كنتُ أحفظ الرفوف عن ظهر قلب، حتى إن موظّفي المكتبة يرسلون إليّ تلاميذ يبحثون عن كذا أو كذا، فإذا لم أجده لهم، فيعني أنه غير موجود. وكانوا يشركونني في عمليات الجرد لأساعدهم في تلك المهام العويصة، التي كانت فرصتي لاكتشاف الكتب التي وُضعت في غير محلّها.
المهمّ، أنّي ظننتُ قريبتي ستطير فرحًا بالمكتبة. لكنها ما إن وصلنا حتى قالت بسخرية: “هذا هو؟ ظنّيتك باش تاخذيني لمكان جميل وممتع. توا هذي بلاصة؟ أنا نقيل فيها!” (بثلاث نقاط فوق القاف 😅)
استغربتُ وقلتُ لها: “تعالي… حاولي. ألا تحبّين قراءة القصص؟”
فقالت: “وشنوّة نعمل بيها الكتب؟”
فاندهشتُ. لم أعتقد أن فتاة في مثل سنّي لا تحبّ القراءة، فصديقاتي جميعًا يحببن القراءة وينافسنني فيها، وهنّ اليوم مديرات وطبيبات وعالمات وأستاذات ومهندسات في بلدان العالم الرحب. اكتشفتُ أنها لا تشبهني. أن في الأرض من لا يحبّ الكتب! عبثًا حاولتُ أن أُحبّب إليها قصصي، أن أقنعها بالقراءة.
ذات مرة سألتني: “شنوة تقرا تاو؟”
قلتُ لها: “أقرا في فرويد”.
فغَرَت فمها، وقالت: “هاك اللي يحكي عالجنّ؟”
ضحكتُ. هي لم تكن تعرف من فرويد إلا أنه “يحكي عالجنّ”. ولعلّها كانت تقصد أنه “يحكي عن حاجة غريبة وممنوعة”.
قلتُ لها: “يحكي عنّا… عن أحلامنا، وعن عايلتنا، وعن كيفاش الإنسان يصير إنسان”.
فقالت: “آه… أمّا راهو ما يلزمش برشا تفكير، التفكير يتعب، يخلي الواحد يمرض…”
هنا أدركتُ الفرق بيني وبينها:
أنا كنتُ أهرب من الألم نحو الفهم، وهي كانت تهرب من الفهم لأنه يذكّرها بالألم.
أنا كنتُ أريد أن أشفى، وهي كانت تريد أن تنسى.
أنا كنتُ أبحث عن المعنى، وهي كانت تكتفي بالبقاء.
أنا كنتُ أقرأ لأنني أريد أن أخرج من القفص، وهي كانت تخاف من الهواء خارج القفص.
أنا كنتُ أريد أن أكون أنا، وهي كانت تظنّ أن القدر قد كُتب ولا حاجة لإعادة قراءته.
—
المهمّ، يوم ذهبتْ معي، أنا جلستُ إلى طاولة وانهمكتُ في القراءة والكتابة. أمّا هي، فسُرعان ما تعرّفت إلى شاب جاء “يصطاد” في المكتبة، لقلّة الفضاءات التي فيها يمكن التعرّف إلى الجنس الآخر في التسعينات في باجة. وانهمكتُ في العمل، وبعد ساعتين تفقدتُها، فوجدتُ أن خالتي (قريبتي أناديها كذلك) قد أمسكت بها من تلابيبها وجلبتها إليّ وقالت لي: “قريبتك هذي ما عادش تجيبيها معاك، توّا نتعدّى لبُوك ونفضحها على عمايلها، لقيتها في التركينة تتلمّس في الطفل!”
نظرتُ إليها بدهشة، وشكرتُ خالتي لأنها سترت عليها وعليّ. فهي تعرف أن حدثًا كهذا سيتسبّب في تعليقي أنا وهي، كما تُعلَّق الشاة، إذا لم تُطرَد هي وأُسجن أنا لأيام، وأُحرَم من الخروج إلى المكتبة للأبد.
عدتُ بها للبيت، وجلسنا فوق السطح، تحدّثنا، فاكتشفتُ أنها تعتقد أنها مسحورة، وأنها لا تتحمّل مسؤولية أفعالها. أنا أسألها: “كيف تجرّأتِ أن تجلسي إلى شاب لمجرّد أنه تغزّل بكِ؟”
وهي تجيبني: “ماني مسكونة، ما ندريش وخيّتي، ما ندريش…”
وأنا، إلى حدّ ذلك الوقت، لا أعرف معنى “مسكونة” الخ… وسأكتشف أنها تعتقد أن ما تفعله ليس هي من يقرّره، بل الجنّ الذي يلبسها.
حدّثتُ أمّي، فقالت لي: “ربي يهديها، كان تحفظ القرآن توّا ترتاح.”
حدّثتُ أبي، فقال لي: “غدًا نضمّها لحلقاتنا لحفظ القرآن.”
ومن الغد، كلّما جلسنا لحفظ القرآن، بدأت تتصرّع وتتلوّى. فتوقّف والدي عن إجبارها بعد أن طلبت منه أمّي ذلك.
—
وعادت البنت إلى بيتها بعد قضاء أيّام قليلة معنا في شطّ الزوارع. وحين ودّعتها بعد شهرين، قالت لي وقد أثّرتُ فيها قليلًا: “صحّة ليك عندك مكتبة وتستطيعين القراءة، ووالداك يحمِيانك أنتِ وإخوتك بكلام الله.” كانت تريد أن تبوح لي بأسرار، لكنّها صمتت.
وعدتُها أن أزورها حين أنهي الثانوي وأنزل إلى العاصمة للدراسة، لكنها رجتني أن أزورها قبل ذلك، ووعدتني أن تبحث عن المكتبة العموميّة الأقرب إليها، وأن تحاول قراءة القصص.
لا أخفيكم… الحقّ الحقّ، علّمتُها القراءة، وعلّمتني “التبزنيس” 😁😅
فأوّل ما تركتني، تعرّفتْ إلى الذي سيصبح زوجي، مباشرة بعد القبض عليّ متلبّسة من طرف والدي. (سأحكي لكم هذه القصّة مرّة أخرى!)
أمّا هي، فتعلّمت قليلًا من القراءة من الكتب التي أهديتها لها، والقرآن الذي أجبرها والدي على حفظه.
لم تعد إلا مرّتين، وربما بشكل عرضي.
أمّا أنا، فحين حان موعد إعلان نتائج البكالوريا، وكانت هي تنتظر نتيجة الامتحان، ذهبتُ إلى بيتهم، وبقيتُ أسبوعًا، وعشتُ عجبًا لم أره من قبل.
رأيتُ ما كان فرويد يصفه من أمراض اجتماعية ذات أساس ثقافي ونفسي. وكنتُ صغيرة، غير واعية بالفرق بين وعيي الديني (الخليط من كل شيء) ووعيها الشعبي الديني، فهي تمزج التديّن بالإيمان بالسحر والجنّ والأولياء الصالحين والعين والحسد والتابعة وما تَبع.
وكانت هذه المعتقدات في بيتنا محرّمة:
لا يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
لكنّ القرآن يحرّكنا ويحصّننا، والله لا يحاسبنا على ما لسنا مسؤولين عنه.
تديّن مخلوط بأشعرية ومالكيّة ووهابيّة وحنفيّة وأبويّة، جعل منه مزيجًا بين التسليم والمسؤوليّة. ولكنّ باب الاجتهاد مفتوح، والتفكير موجود، والصراع موجود.
صحيح يعاقبونني ويسجنونني ويحرمونني، ولكنّهم يعودون لإقناعي بعد ذلك أن ما يفعلون هو لتعليمـي “آداب الحوار” ههه. ولم أتعلّم تلك الآداب، الحقّ! (حتى إنّي في العيد تخاصمت مع أبي حول مسألة وأغضبته. ربي يخليه لي، أبي كم صبر عليّ، ههه.)
—
المهمّ، أن قريبتي لم تفُز بالباكالوريا إلا بعد سنين. (حين نجحت، عملوا زردة وطبّال واسمع يا اللي ما سمعتش!)
وأنا نجحت، وأخذت جائزة، وبابا متغشّش، وقال لي: “كيفاه ما تجيش إنت الأولى؟”
وكليت طريحة في جرّة رونديفو غرامي يوم إعلان النتائج، بعد أن تمّ الإمساك بي متلبّسة… لازمها حكايات منفصلة هذه 🤣
كنتُ أحاول أن أقنعها أنها رسبت لأنها لم تُحسن مراجعة المواد، وأن الجنّ ليس مسؤولًا عن كسل الإنسان وجمود عقله.
وكانت أمّها تقول لي: “يا بنيّتي، أطلبي اللطف… حرام ما تقولينه” الخ من الترهيب.
وفهمتُ أن رضا الناس غاية لا تُدرك.
وازددتُ تمسّكًا بقراءة العلوم والفلسفة، لتُنجيني من الآفات المُهلِكات… من أفكار الجهل والجنون والجمود الدائرة بي.
طه حسين، ربي يرحمك رحمة واسعة.
آمنتُ أن العقل قادر على التفكير لأنه أعدل الأشياء توزيعًا بين الناس.
واكتشفتُ أن الإرادة يمكنها أن تهزم الهو والأنا الأعلى…
طبعًا، هذا لم يكن صحيحًا تمامًا.
جسدك يُخبرك حين يعتلّ، أنك حمّلت نفسك أكثر مما تطيقه، وأنك لا تقدر أن تتحكّم في كل شيء.
سيلزمني عشرون سنة أخرى من مصارعة الحياة…
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد