متاهات هايدجر… بقلم: إسحاق إبراهيم محمد

الإنسان منفيٌ في العالم والحيوان منفيٌ من العالم

بقلم: إسحاق إبراهيم محمد

d8a5d8b3d8add8a7d982-d8a5d8a8d8b1d8a7d987d98ad985-d985d8add985d8af متاهات هايدجر... بقلم: إسحاق إبراهيم محمد

1- هايدجر والدين الضمني

يرفض هايدجر وصفه بأنه معترف بالألوهية أو منكر لها، لكن لا يمكن تصور مفهوم الوجود عنده إلا كأن هناك إله؛ أو الوجود مُثقَّلٌ بشبح الإله، وأن هناك ضربٌ من الدين الضمنيّ في فلسفة الوجود عِنده. كما يُوصَف هايدجر بأنه أحل الوجود محل الإله في التصور المَسيحي؛ إن ذلك الإحلال للوجود كان لتخليص أوروبا من العدمية التي خلَّفتها فكرة موت الإله، ويقول جاك دريدا “إن شبح هذا الإله لازال يطوف في طُرقات أوروربا وشعابِها يتلبَّس أنساق الفكر والفلسفة على هيئة روح مُعذَبة”؛ إنه الصراع الميتافيزيقي حول الإله.
في كتاب “طرق هيدجر” وأثناء حديث جادامير عن تأويل هايدجر للميتافيزيقا الغربية بوصفِها قَدَر نسيان الوجود، ذلك القدر الذي حدث بواسطة الوجود بحد ذاته، يقول جادامير “قد يتراءى للمرء أن ثمة لاهوتًا سريًا لإلهٍ خفيّ يقبع في خلفية هذا الكلام”، “فكما الأسطوري المُتهجد بأسرار إله كان هايدجر يتكلم عن الوجود”.


إذا كان مفهوم تخطي الميتافيزيقا عند هايدجر يمَس تخطي الحقيقة العالية، ومن ثَم القيام بتحليل كامن في العالَم للعالَم، إلا أنه تخطٍ صوريّ، لأنه تحليلٌ باطنيّ مُجتَث من جذورٍ دينية؛ فالعالَم عِنده هو عالَمٌ روحيّ. وفلسفة الوجود عند هايدجر تتضمن نزعة غنوصية؛ تصور شبحي للوجود وتَبصُّر باطنيّ يتضمن البحث في أصول اللعبة.

d985d8a7d8b1d8aad986-d987d8a7d98ad8afd8acd8b1- متاهات هايدجر... بقلم: إسحاق إبراهيم محمد
مارتن هايدجر (1889 – 1976)

2- الوجود كشبح ميتافيزيقي

في محاضرة “ما الميتافيزيقا؟” لهايدجر التي ألقاها سنة 1929، أخذ فكر هايدجر منذ تلك المرحلة ما يُعرَف بالمُنعطَف، الذي هو تخطي الميتافيزيقا؛ أي تخطي الفكر الميتافيزيقي الذي يسأل سؤال الكائن/الموجود، والعودة إلى أساس الميتافيزيقا في أن تكون سؤال الوجود.
في هذه المحاضرة يطرح هايدجر “سؤال العدم” باعتبارِه بوابة الوجود؛ إنه الوجود ذاته منظورًا إليه من زاوية الكائن، كما يقول هيجل “الوجود الخالص والعدم الخالص هما الشيء نفسه”.
في محاضرة “الشيء” يقول هايدجر “أن الموت هو الدولاب الذي يصان فيه العدم، هو دولاب ما ليس أبدًا مجرد كائن وما هو مع ذلك يَحدُث، يحدث بصفته الوجود ذاته، فالموت كدولاب للعدم يحتضن الوجود ذاته في حدوثه؛ الموت كدولاب للعدم هو حضن الوجود”. فالإنسان يُبصِر الوجود كشبح غائب من خلال انفتاحِه على الموت، أي انفتاحه على تصور العدم.
في كتاب “طرق هايدجر”، يتحدث جادامير في مقالة “ما الميتافيزيقا؟” عن محاضرة هايدجر التي تحمل العنوان نفسه، التي أضاف إليها هايدجر بعض المُلحَقات في طبعات أخرى بعد ذلك. يُشير جادامير أن هايدجر في مُلحَق طبعة سنة 1943 قد كتب “إنه لمما ينتمي إلى حقيقة الوجود أنه يَحضُر من دون الموجودات، ولكن لا يوجد موجود من دون الوجود مطلقًا”، يقول جادامير “أن هايدجر قد غير هذه الجملة في الطبعة الخامسة سنة 1949 إلى ما يناقضها تمامًا: “إن الوجود لا يَحضُر من دون الموجودات، ولا وجود لموجود من دون الوجود””، يستكمل جادامير “إن هاتين الجُملتين المتناقضتين تستغرقان الفضاء المتوتر الذي تحرك فيه تساؤل هايدجر”.
في الموقف الثاني “إن الوجود لا يَحضُر من دون الموجودات”، يفهم هايدجر الوجود كحضور، وهذا ما انتقده جاك دريدا عند هايدجر فيما يُعرَف بتفكيك ميتافيزيقا الحضور، أي نقد فكرة فهم الوجود كحاضر في الموجودات، وإحالة الوجود كغائب ويقوم على الغياب، أي أن دريدا يقترب من موقف هايدجر الأول في أن الوجود يَحضُر من دون الموجودات؛ أي التفكير في الوجود “الذي هو ليس شيئًا”، أي الوجود كشبح ميتافيزيقي، لكن شبح الوجود ذلك يترك أثر في كينونة الإنسان في العالم. الإنسان يفهم الوجود كشبح، عندما يَنفتِح على الموت، أي على غياب الوجود. في الحديث بين الإنسان وشبح الوجود والموت نشأ الصراع الميتافيزيقي.

الإنسان يختلف عن الحيوان في إنه يسأل سؤال الوجود، إنه الكائن الذي يَنفتِح في (وجوده في العالم) السؤال عن معنى الوجود؛ وما يَتضمنُه من الغَيب والدين والقيم والمعنى والموت والعالم ومكانة الإنسان فيه.

3- ميلاد الإنسان هو نفيٌ في العالم

المُتبصِّر هو من يلعب في ما بين العالم وما وراء القبور.
يعتبر هايدجر أن الحيوان لا يمتلك عالمًا؛ لأن العالَم هو عالمٌ رُوحيّ، والحيوان كائن فقير في الروح.
العالم هو عالمٌ روحيّ؛ لأن العالم هو أفُق ميتافيزيقي مُثقَّل بالقيم والمعنى للعبور من الميلاد إلى الموت، فالحيوان مُنفَتَح العالم مغلقٌ عليه.
يقول هايدجر “الإنسان هو الكائن الذي يُشكِّل العالم”، ولكن هذا التحديد للعالم ليس تَمركُّزًا حول الإنسان؛ لأن العالم كأفق ميتافيزيقي مُعطَى للإنسان سَلَفًا من خلال قدر الوجود الإلهيّ، لكن الإنسان يشكل العالم من خلال تصوره عن العالم وفاعلية البشر فيه، والإنسان يتصور العالم من خلال لُغته؛ “حيثُما توجَد اللُغة يوجَد العالم”. والحيوان لديه محدودية في العالم؛ فهو لا يمتلك اللغة التي من خلالِها يَنفتِح العالم.
الإنسان يختلف عن الحيوان في إنه يسأل سؤال الوجود، إنه الكائن الذي يَنفتِح في (وجوده في العالم) السؤال عن معنى الوجود؛ وما يَتضمنُه من الغَيب والدين والقيم والمعنى والموت والعالم ومكانة الإنسان فيه.
إن الإنسان من خلال وجوده في العالم، من خلال نفيه في اللُعبة، فهو موصوم بالجزَع والصراع، ومن خلال ذلك الصراع الميتافيزيقي، لا يفهم الوجود كحضور دائم، ولكن كتأرجُح بين الغياب والحضور؛ بين شبح الوجود والوجود، ومن ثَم يُؤثِّر ذلك على تصوره عن العالم؛ “على الأرض وحدها وصل إلينا غموض وقتامة العالم” بحد تعبير هايدجر.
الإنسان منفيٌ في العالم والحيوان منفيٌ من العالم، لكن ذلك النفي الذي هو من نصيب الحيوان، يجعله لا يتيه في متاهات الميتافيزيقا والموت وما وراء القبور.
في كتاب “في الروح- هايدجر والسؤال”، يتحدث جاك دريدا عن مفهوم اللعب في العالم عند هايدجر، حيث يقول “ففي مناقشته “لسؤال الوجود”، وبعد خمسة وعشرين عامًا فيما بعد، عزَم هايدجر على كتابة كلمة “الوجود” تحت خط من المحو بصيغة الإلغاء”، “يكشف لنا هايدجر عن معنى غامض لمفهوم اللعب في العالم إشارة في هذا السبيل إلى محو “الوجود” وعن التمفصُلات المُتكونة والمُتصيرة لهذا العالم”.
التَبصُّر بالمنفى وغموض وقتامة العالم لا يدعو إلى العدمية، ولكن إلى اللِّعب في ما بين العالم وما وراء القبور من خلال طرح سؤال الوجود؛ اللعب هنا هو لعب مع شبح الوجود، إنها لُعبة أزلية يلعبها شبح الوجود مع الإنسان من خلال الأثر والمحو.

المراجع:
تيموثي كلارك، المعتمد الأدبي في التفكيك- هيدجر، دريدا، بلانشو.
هانز جورج جادامير، طرق هيدجر.
عبد الغفار مكاوي، نداء الحقيقة- مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر.
مارتن هايدجر، ما الميتافيزيقا؟
مارتن هايدجر، الشيء.
جاك دريدا، في الروح- هايدجر والسؤال.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات