محنة خالد فهمي أم محنتنا مع خالد فهمي؟!… بقلم: أشرف قنديل

خالد فهمي

بقلم: أشرف قنديل

havt محنة خالد فهمي أم محنتنا مع خالد فهمي؟!... بقلم: أشرف قنديل

ساهمت كتابات د. خالد فهمي لحد كبير بفضل أسلوبها -الشيق والرصين في نفس الوقت- في إخراج الأبحاث ذات الطابع الاجتماعي التاريخي المعمق من أروقة البحث الأكاديمية الضيقة إلى آفاق المجال الثقافي العام الرحب بما أتاحت الفرصة أمام شرائح واسعة في الفضاء الثقافي المصري وبما أثارته تلك الكتابات من نقاشات ومراجعات وجدالات حول مسائل وقضايا، ولربما “مسلمات” راسخة في العقل الجمعي لدينا.


ولعل أهم ما يميز أعمال د. خالد فهمي من وجهة نظري هو اهتمامه الكبير بل انحيازه للبشر العاديين والمجتمع خاصة في مواجهة تعسف السلطة، ذلك الانحياز الذي يظهر بشكل واضح من خلال التركيز على رؤية وتحليل آراء هؤلاء البشر للأحداث، في مقابل ما يميز الكتابات التاريخية “التقليدية” من اعتمادها في تناول الأحداث من خلال تحليل وتفكيك خطابات السلطة، كما تميزت كتابات د. خالد أيضاً بالاعتماد بشكل أساسي على التعامل مباشرة مع الوثائق الأصلية كمصادر أولية للأحداث وليس المصادر الثانوية مثل كتابات المؤرخين أو غيرهم عن الأحداث مما أكسب كتاباته قدر كبير من مصداقية لدي المتلقي غير المتخصص. إن أهم ما يميز منهجية الكتابة التاريخية من خلال القراءة التحليلية والتفكيكية للوثائق الأصلية هي حيادتيها وموضوعيها بشكل أكبر بالمقارنة بكتابات المؤرخين أو غيرهم وسواء كانوا من المعاصرين للأحداث أم غير معاصرين، تلك الكتابات التي لن تخلو بالطبع من قد ما من الذاتية والانتقائية والميل للأهواء والأحكام المسبقة.


وتحريراً لمحل النزاع أو الإشكال كما يُقال، يمكننا تحديد نقطة الخلاف الرئيسية مع وجهة نظر د. خالد فيما يتعلق تحديدًا بالنظر لأوضاع مصر السياسية والاجتماعية قبيل الحملة الفرنسية وقبل بداية مشروع دولة محمد علي، باعتباره (خط الأساس) الموضوعي والواضح الذي لا لبس ولا يجب أن يُثار الخلاف حوله للمقارنة بما جاء بعدها ولتقييم تجربة محمد علي، فكما يقول د. خالد نفسه -وأتفق معه تماماً في ذلك- فإن العبرة في تقييم أي تجربة سياسية يجب أن يكون بمقارنة أوضاع المجتمع من كافة النواحي قبل وبعد تلك التجربة، فهذا المعيار الموضوعي لا جدال فيه ولا خلاف عليه طبعاً، فبضدها تتميز الأشياء كما يُقال.


يمكن القول باختصار إن سردية د. خالد فهمي أو مقولته الأساسية الكبرى تتأسس لحد كبير فيما أرى على قناعة مسبقة لديه يحاول جاهدًا إيصالها للقراء بأن المجتمع المصري كان قد قطع شوطًا لا بأس منه في تأسيس لتجربته “الحداثية” الذاتية التي تراعي خصوصيته وسياقاته التي تختلف بالطبع عن سياقات التحديث الأوربي، وأن التدخل السلطوي التعسفي بفعل الحملة الفرنسية ثم بمشروع محمد علي قد أجهض تلك التجربة “الحداثية” وقطع الطريق أمام اكتمال نموها وتحقيق النجاح الكامل لها، التي يرى د. خالد أنها كانت ستكون أفضل بكثير ولربما كانت ستكون نموذجًا يحتذي به الآخرون لجمعها بشكل متوازن بين كل ما هو مادي ومعنوي….. فهل تلك الرؤية صحيحة أم لا؟


على طريقة د. خالد “الموضوعية” في الاعتماد بشكل أساسي على التعامل مباشرة مع الوثائق الأصلية كمصادر أولية للأحداث والمعلومات وليس المصادر الثانوية والتحليلات والآراء والرؤى التي من الممكن أن تكون نابعة من رؤية أيديولوجية وعرضة للتحيز المسبق أو خاضعة لأهواء ذاتية، سأستعرض الآن أحد الوثائق المفتاحية والمهمة فيما أعتقد والتي يمكن أن تقوض بشكل كبير وموضوعي مقولة أو رؤية د. خالد فهمي تلك.


ففي أكتوبر من عام 1798م وبعد ثلاثة أشهر فقط من نجاح الحملة الفرنسية في احتلال القاهرة، اندلعت ما درجنا على تسميته اليوم -بفعل “الحداثة” وتأثيراتها وليس أي شيء أخر- (ثورة القاهرة الأولى)، والتي أطلق عليها علماء ومشايخ الأزهر حينها (فتنة الساعين في الأرض بالفساد)، فلنا أن نتخيل أوضاع مجتمع كانت صفوته ونخبته المختارة بتلك الحالة، ونحن نعلم جيداً أن مؤسسة الأزهر وعلمائه في ذلك الزمان كانوا يشكلون معاً وبشكل حصري قلب وعقل المجتمع المصري الذي يرى د. خالد أنه كان على بداية الطريق الصحيح للتطور والتقدم؟!
وإيكم نص بيان علماء ومشايخ الأزهر المندد بثورة القاهرة الأولى أو (فتنة الساعين في الأرض بالفساد) بحسب نص البيان!

مناقشة لفكرة الموضوعية في كتابة التاريخ، والمركزية الأوروبية والحداثة

“نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد. نُعرف أهل مصر المحروسة من أن طرف الجعيدية* وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعدما كانوا أصحاباً وأحباباً بالسوية، وترتب على ذلك قتل جُملة من المسلمين ونُهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته وارتفعت هذه البلية، لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العسكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر. فعليكم ألا تُحركوا الفتن ولا تُطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله سبحانه وتعالى “یُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن یَشَاۤءُۚ “** و ” يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ “***، ونخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة، قُتلوا عن آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم ألا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم، والدين النصيحة والسلام “.

  • الجعيدية: (مصطلح قديم كان يطلق على يُشبه “البلطجية” حالياً).
    [المائدة ١] *** [البقرة ٢٤٧] **
    ملحوظة: بيان الأزهر موقع عليه من كافة كبار علماء الأزهر وقتها وهم الشيوخ، البكري (نقيب الأشراف) والشرقاوي (شيخ الأزهر) والأمير والصاوي والفيومي والمهدي والعريشي (تولى مشيخة الأزهر) والسرسي ومصطفى الدمنهوري (تولى مشيخة الأزهر) ومحمد الدواخلي ويوسف الشبرخيتي.
    المصدر: مخطوطات بيان الأزهر المندد بثورة القاهرة الأولى محفوظ منه عدة نسخ في عدد من دور الوثائق في مصر وفرنسا، حيث تم توزيعه كمنشور عام في كافة أرجاء مصر، كذلك فقد ورد نص وثيقة البيان بكتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي-الجزء الثالث.

  • إن تلك ((الوثيقة الرسمية)) الخاصة بنص بيان علماء ومشايخ الأزهر المندد بثورة القاهرة الأولى أو (فتنة الساعين في الأرض بالفساد) بحسب نص البيان، هي وثيقة صريحة وكاشفة تعكس -بل تفضح- مدى تردي وسوء أوضاع مصر السياسية والاجتماعية -وما وصلت إليه من حضيض- أواخر فترة الحكم العثماني/ المملوكي لمصر أبان الحملة الفرنسية وقبيل بداية مشروع دولة محمد علي بما يجعل منها (خط أساس) موضوعي وواضح لا لبس ولا خلاف عليه للمقارنة بما جاء بعدها ولتقييم تجربة محمد علي رغم ما اعترها من مسالب ومساوئ لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها بالطبع.
    لست من أنصار مقولة أن الغزو الفرنسي كان حتمياً لنشر الحداثة، وأراها مقولة أيديولوجية متهافتة وبائسة، وتشبه تماماً مقولة أن الغزو العربي كان حتمياً لنشر الإسلام. فسواء الإسلام أو الحداثة كان يمكن لهما إيجاد مسارات متعددة للوصول لمجتمعاتنا كما حدث في مجتمعات أخرى وصلها الإسلام أو الحداثة بدون غزو، لكن في نفس الوقت يجب علينا عدم انكار أن الحقائق التاريخية تقول فعلاً أن سواء الإسلام أو الحداثة قد أخذا مسارهما لمصر اعتماداَ على تلك الطريقة بشكل كبير.
    إن من المفارقات العجيبة أن الحداثة التي دأب د. خالد فهمي على انتقادها ونقض قيمها، بل ويضن بها علينا ويزهدنا فيها هي التي حمته سابقاً وتحميه الان -في الغرب “الحداثي”- من التعرض لما تعرض له أصحاب الفكر المختلف عن السائد من امتحانات ومحن تطفح بها كتب التراث طوال تاريخنا، فلا أعتقد أن الرجل معني كثيراً أو قليلاً بما يُقال عن جدل قد أُثير مؤخراً حول أفكاره أو حتى الهجوم عليه. على الجانب الأخر ربما أضحى الامتحان بخالد فهمي والسؤال عن الموقف من الرجل هو أحد تجليات محنتنا نحن في الشرق “التقليدي” وتعبيراً عن محنة العقل العربي القبلي الذي يصعب عليه جداً قبول قيم الاختلاف والتنوع أو حتى التأقلم معها دون تكفير أو تخوين.
    وسؤالي الأخير هنا هو هل كان من الممكن أن تحظى مجتمعاتنا بمجرد أدرك بشاعة وشناعة ما وصلت إليه أوضاعنا السياسية والاجتماعية بطريقة أخرى غير طريقة صدمة الاحتكاك المباشر بالحداثة التي خلقت مزيج من الشعور بالألم والأمل لازال يلازمنا حتى اليوم، وإن كان ذلك ممكن فالسؤال هنا فلماذا لم يحدث ذلك قبل اليوم التي صحت فيه القاهرة على أصوات مدافع أمير الجيوش بونابرته؟!

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

3 comments

اترك رد

ندوات