مولد وصاحبه غايب..بقلم محمود عماد…عودتي إلى الوطن الذي لم يعد حلقة 5
هذه سلسلة مقالات تنشر أسبوعياً عن تجربة ذاتية لمغترب بعد العودة إلى مصر ورصد التغيرات التي حدثت وتحدث على مدار السنوات، وقد تتشابه تلك التجربة مع تجارب ملايين المصريين المغتربين في شتى بقاع الأرض!
محمود عماد

الساعة الآن الثالثة بعد منتصف الليل، خرجنا من المطار واستقلينا السيارة وإذا بالشوارع تعج بالأضواء والألوان، البشر في كل مكان، السيارات في زحام مروري وأصوات الكلكسات تعزف أبشع سيمفونية موسيقية في التاريخ.
ذكرني هذا بصخب المدينة وسمعت في رأسي الأغنية الخالدة لعدوية
” زحمة يا دنيا زحمة
زحمة وتاهوا الحبايب
زحمة ولا عادش رحمة
مولد وصاحبه غايب
أجي من هنا زحمة
أروح هنا زحمة
هنا أو هنا زحمة “
وعدت بالزمن إلى بداية سفري ورأيتني عندما ركبت أتوبيس النقل العام في تركيا لأول مرة مع صديقي الجديد إبراهيم الذي كان يرشدني إلى ما أريد، وكان كلما تكلمت يهمس لي بأن أخفض صوتي فأنظر إليه في اندهاش وأقول: وهل أتكلم بصوت مرتفع؟! أنا أتكلم بصوتي العادي
فيقول لي: لا لا هذا عالي جدا، الناس هنا تنزعج من الصوت العالي.
قلت في نفسي أي صوت عالي هذا الذي يتحدث عنه، إن صوتي ضعيف بالفطرة والناس دوما تطلب مني أن أعيد كلامي مرات ومرات حتى يسمعوه. لكني أثرت الصمت ولم أقل له شيئاً، وفي حالة الصمت السائدة بدأت أتطلع في وجوه الركاب في جنبات الأتوبيس
هذا رجل عجوز يجلس بجوار زوجته ويبدو عليهما التعب
وهذه سيدة تقرأ في كتاب لم أفهم من عنوانه شيئ
وهذا شاب وفتاة يتبادلا النظرات والابتسامات ويتشباكا الأيدي والأحلام
وهذه امرأة ترتدي سماعة الأذن وتنظر من زجاج النافذة
وإذا بالجميع مطبق شفتيه ولا يصدر أي صوت!
عدت إلى مصر وقد محيت من ذاكرتى ما في مصر من ضوضاء، ولكن لم يدم الأمر طويلاً حتى عادت لي ذاكرة التلوث السمعي في شوارعنا الشعنونة.
كنت كلما ركبت أي مركبة عامة أو خاصة أطلب من السائق أن يقلل استخدام الكلاكس قدر الإمكان، لكن لا يستجيب أحد بالطبع. وإذا تكلف أحدهم عناء الرد عليّ فكان يرد بإن هذا هو السبيل الوحيد ليفسح الناس لك المجال وبدون ذلك لن يتحرك أحد.
لا أتذكر عدد المرات التي تشاجرت مع سائق المشروع (الميكروباص) حتى يخفض صوت الزفت المُسجِل أو الراديو أو أي ما كان الجهاز القذر الذي يصدر هذا الأزيز المزعج.
ولن أتحدث عن “التوك توك” وجماله وبراعة سائقيه على إصابتنا بالشلل الرعاش والسكتات القلبية وإحداث العاهات المستديمة في الأنف والأذن والحنجرة.
لا أفهم السر في عشقهم لنوع واحد من الأغاني وإن فكرت في إيجاد بعض المبررات لذلك. لكن حقاً لا أفهم السر في تركيبهم لسماعات أكبر من حجم التوك توك نفسه ولماذا يضعوهم خلف أذن الركاب مباشرتةً؟
هل هذا جزء من مؤامرة لإصابة الشعب المصري بالصمم وضعف السمع ضمن خطة الماسونية العالمية للسيطرة على العالم!
إن قرى مصر من شمالها إلى جنوبها يسودها الهدوء والسكينة؛ ولعل هذا سبب انتشار الموالد في القرى فهذا يعتبر متنفس لساكنيها بكسر لحالة الصمت وافتعال المرح قليلاً.
يعتبر المولد حالة من الفلكور المصري لصناعة الضجيج. بيد أن المولد حدث مفهوم وله مبرر يجعل الناس يحتفلون ويمرحون ويلتفون حول صاحب المولد لمدة محددة ثم ينفض الجميع ويعودون إلى حياته الطبيعية.
لكن ما لا يعرفه أهل القرى أن أهل المدينة قد أعدوا مولد دائم لا ينفكون عن الطواف حوله كلما نزلوا إلى الشارع، مولد في كل شارع وفي كل وقت. ما عليك إلا أن تخرج إلى الشارع لتجد أصوات الصراخ تعلو الأرجاء، ونعيق البائعين وزمامير السائقين ونهيق البني آدمين!
سأحكي لكم عن قصة صديق لي يعاني من اضطراب الضوضاء
“وهو اضطراب نفسي يشبه الخوف من الأماكن المرتفعة ولكن مع الأصوات العالية والعشوائية المفرطة”
تخيل معي هذا الجحيم الذي يعايشه يومياً وهو ذاهب إلى العمل وعليه أن يقطع الشارع من جانب إلى آخر وفجاءة تمر سيارة من عكس اتجاه الشارع وتمر عربة كارو من أمامها ويأتي طفل قاصر بالتوك توك الساحق ذو الريكورد الماحق مرددا أغنية “قوووووووووووووووولهههه”
ومن حوله الناس تمر من كلا الاتجاهين بين السيارات ومن فوقها في سلاسة وانسيابية غريبة.
الجميع يعرف طريق المرور بدون تنظيم وإشارات
الجميع يسب بعضهم بعضاً دون مشاجرات
الجميع يكملون كل واحد منهم طريقه المدجج بالضوضاء
لا يقف أحدهم ويسأل نفسه ماهذا الإزعاج بل على العكس عندما نتكلم والصخب من حولنا نتكلم بصوت أعلى حتى نسمع بعضنا وننبح أكثر حتى يسمعنا السائق والبائع والموظف حتى يصير الصوت العالي دليل على قوة موقفك والصوت المنخفض دليل على ضعفك وقلة حيلتك وعدم استحقاقك لطلب أبسط حقوقك.
ويقف صاحبي على جانب الطريق يحاول المرور لكنه لا يستطيع وبعد دقائق يقرر العودة والاختباء في المنزل حتى ينتهي المولد وينظر من الشرفة إلى الشارع متلاطم العوادم والأبخرة وضوضاء العربيات.
يلمح من بعيد سيارة غريبة لونها أخضر وتشبه سيارات نقل الموتى، ومكتوب على جانبها مولد سيدي المجنون وعندما نظر إلى الزجاج الخلفي وجد عبارة مكتوبة بخط غير منتظم
“إذا أردت النجاح فتعلم النباح”
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد