مُعْجِزَةٌ خَادِشَةٌ لِلْحَيَاءِ.. الجزء الأول.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
العنوان الأصلي: عن معجزة أربعاء الرَّماد
تأليف الكاتب الروسيّ: يفجيني زامياتين
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

هذه القصة تدورُ حول المعجزةِ التي حدثتْ في أربعاءِ الرَّمادِ، وتتناولُ أيضًا الكاهنَ بسيط والدكتور فويتشيك؛ إذ أنَّ الكاهنَ بسيط هو الذي حدثتْ المعجزةُ عن طريقِهِ، والدكتور فويتشيك هو الشخصُ الوحيدُ الذي قُدَّرَ لَهُ أنْ يكونَ شاهِدًا عليها مِن بدايتها حتَّى نهايتها.
١
إنَّ التسليمَ بصدقِ معجزةٍ حدثتْ منذ زمنٍ بعيدٍ لشخصٍ آخرَ، لهو أمرٌ ميسورٌ لا عناءَ فيهِ، ففي وسعي أنْ أؤمنَ بها كما في وسعِك أنت أيضًا. ولكن كيف سيكونُ الحالُ لو أنَّها حدثت، اليومَ أو الأمس، لكَ أنتَ على وجهِ التحديدِ! تخيَّلْ الأمرَ وأَعْطِهِ نصيبًا مِن تَدَبُّرِكَ. ولذلك، كلما زار الدكتور فويتشيك الكاهنَ لقضاء أمسيةً معه يعكفان فيها على لعبِ الدومينو، كان الكاهنُ يُبادرُهُ مستائلًا بحَيَاءٍ:
“ومع ذلك.. مع ذلك.. ألم تعثرْ على شيءٍ، أيِّ شيءٍ على الإطلاق، في كُتُبِكَ؟ أليسَ مِن المحتمل أنْ تكونَ هناك حالاتٌ شبيهةٌ أخرى قد حدثتْ.. على الأقلِّ في الأزمنةِ القديمةِ؟”
حينها كان الدكتور فويتشيك يُحَشِّفُ عينَيْهِ الخضراوَيْنِ الشبيهتَيْنِ بعيون الماعزِ، وعلى فَمِهِ تزحفُ بسمةٌ مُتَمَهِّلَةٌ لا تغرسُ إلَّا ذعرًا في قلبِ الكاهنِ بسيط، ويستمرُّ هكذا لدقيقةٍ أو دقيقتَيْنِ، ثُمَّ يَفْتِلُ شعرَهُ الأصهبَ على جبينِهِ مِن بابِ العادةِ إلى أنْ يبرزَ قرنانِ أحمرانِ عن يمينِ جبهتِهِ وعن يسارها فيقولُ هازًّا كتفَيْهِ باسطًا يدَيْهِ:
“لم أجد شيئًا. يا عزيزي، ما عادَ في الإمكانِ فِعْلُ شيءٍ حيالَ الأمر؟ إنَّها معجزةٌ. إنني أرغبُ -كما ترغبُ أنتَ بالضبط- في أنْ أجدَّ كُلَّ ما حَدَثَ وقد استحالَ بطريقةٍ ما إلى مُجرَّدِ… ولكن كيفَ وقد رأيتُها بأمِّ عَيْنَيّ، بل ولمستُها بيديّ هاتين. لا جدوى مِن الاستغراق في استقصاءِ الأمر! أخبرني الآن كيفَ حالُ…”
كان الكاهنُ بسيط يعلمُ علمَ اليقينِ ما سيحدثُ عقبَ ذلك؛ لبُرهةٍ من الوقتِ سيلبثُ على السَّفُّودِ تَسْفَعُهُ نارٌ مُتَرَوِّيَةٌ بينما الدكتور يُشعلُ سيجارتَهُ بأناةٍ ليستأنف كلامَهُ:
“كيف حالُ رئيس الأساقفةِ؟ هل ينعمُ بصحةٍ جيِّدةٍ؟”
“شكرًا لسؤالك عنه، شكرًا جزيلًا، لقد كنتُ في صُحبتِهِ بالأمسِ وكانَ في أفضلِ حالٍ.”
كانَ كثيرٌ مِن الناسِ يعرفون أنَّ رئيسَ الأساقفةِ بنديكت يحتفي بالكاهن بسيط ويختصُّهُ بسابغٍ مِن عطفِهِ ووافرٍ مِن حُنُوِّهِ، ولم يكنْ بينهم مَنْ فُوجِئَ بهذا قطُّ: فَمَنْ ذا الذي لديه قلبٌ لن تُشْرَعَ أبوابُهُ على مِصْرَاعَيْهَا بلا إبطاءٍ، حالما يقرعُهُ الكاهن بسيط بعينَيْه هاتين: الشبيهتَيْنِ بطفلتَينِ رضيعتَيْنِ تَمُصَّانِ إبهامَهُمَا ذاهلتَيْنِ؟ مع ذلك، رُبَّما السِّرُّ ليس في العينَيْنِ، رُبَّما سِرُّ الأسرارِ في غمَّازاتِ الكاهن بسيط، هذا هو الأكثرُ احتمالًا. ورئيسُ الأساقفةِ بنديكت في نهايةِ المطافِ، ما هو إلَّا بشرٌ كسائرِ البشرِ.
قال الدكتور فويتشيك بنبرةٍ طافِحةٍ بالرزانةِ لا يشوبها إلَّا اختلاجةٌ طفيفةٌ لبسمتِهِ القَرْنَاء:
“يا عزيزي، إن كانَ يُقِضُّ مضجعَكَ التفكيرُ في الآخرةِ ويُعَكِّرُ صَفْوَ نفسِكَ تَرَقُّبُكَ للجزاءِ الإلهيّ وإن كانت تتناوشُ روحَكَ نِصَالُ القلقِ ممَّا يستبدُّ بذهنِكَ مِن أفكارٍ شبيهةٍ -وكلُّ هذه الهواجس مِن الطبيعيّ أنْ تساورك وتؤرقك- فإنَّني أستطيعُ أنْ أُسَكِّنَ مِن روعِكَ بتأكيدي لك أنَّ أيًّا مِن هذه الأمور لن يتحقق في أيِّ وقتٍ قريبٍ؛ إذ هناك طريقةٌ مضمونةٌ لإطالةِ العمر إلى أيِّ مدًى مدى قد ترغب فيه.”
“ماذا تقصد؟ كيف يُمكنُ تحقيق ذلك؟”
“الأمرُ في غايةِ اليُسْرِ، هل تَذْكُرُ ما أخبرك بِهِ رئيسُ الأساقفة مِن أنَّهُ عندما وصلَ إلى روما اضطرَّ إلى إرجاعِ عقارب ساعتِهِ السويسريَّة الفاخرة إلى الوراءِ بمقدارٍ مِن الزَّمنِ يتجاوزُ الساعةَ؟ إنَّها ساعةٌ تُضافُ إلى حياتِهِ، هل فَهِمتَ؟ إذا ذهبتَ إلى لندن ستُضِيفُ إلى عمرِكَ ساعتَيْنِ، وإذا ذهبت إلى نيويورك ستُضيفُ سِتّ ساعاتٍ جُمْلَةً واحدةً، وهَلُمَّ جَرًّا. باختصار، إذا واظبتَ على السفرِ مِن هنا غربًا طوالَ الوقتِ فإنَّكَ ستُضيفُ إلى حياتِكَ أيامًا وأسابيعَ وسنواتٍ، ستُضيفُ إلى عمرِكَ بقدرِ ما تشاء مِن زمنٍ. إنَّها طريقةٌ مضمونةٌ لا شِيَةَ فيها!”
أتمَّ الدكتور حديثَهُ فبُهِتَتِ الغمَّازاتُ، والعينانِ الرضيعتَان اللتان تمصَّان إبهامهما في ذهولٍ. يبدو الأمرُ غريبًا مُبْهَمًا، ولكنه يبدو صحيحًا مُحْكَمًا؛ فالأرقامُ دامغةٌ لا تُفْسِحُ للجدلِ مَوْطِئَ قَدَمٍ. وعلى العمومِ فإنَّ الكاهنَ بسيط قد صارَ معتادًا على ذلك: ففي كُلِّ ليلةٍ، عندما يُزْمِعُ الدكتور فويتشيك على الرَّحيلِ، فإنَّهُ يجعلُ مِنْ فكرةٍ شائكةٍ مسمارًا يتركُهُ مغروزًا في رأسِ الكاهن بسيط الذي يظلُّ بعدها يتقلَّبُ ويتلوَّى في فراشِهِ، يُفكَّرُ ويُعيدُ التفكيرَ مُقَلِّبًا الفكرةَ الشائكةَ على كافَّةِ وجوهها: لا، الحقُّ كُلُّ الحقِّ مع الدكتور فويتشيك؛ فإنَّه نابغةٌ ليسَ لعقلِهِ نظيرٌ أو شبيهٌ. فَمَن كان بِهِ الكاهنُ سيلوذُ وإليهِ يَلْتَجِئُ، عندما وقعتِ الواقعةُ، غَيْرُ الدكتور فويتشيك؟

لقد بدأَ الأمرُ في الأوَّل مِن أغسطس، أثناءَ إقامةِ القُدَّاس احتفالًا بعيد تذكار سلاسل القديس بطرس الرسول. قبل ذلك بأسبوعٍ كان الكاهنُ بسيط في زيارةٍ لرئيسِ الأساقفةِ بنديكت؛ إذ كان قد عاد لتوِّهِ مِنْ روما. كان رئيسُ الأساقفةِ سَخِيًّا معه إلى أبعدِ حدٍّ؛ فقد قدَّمَ لَهُ نبيذَ مقاطعةِ أستي الإيطاليَّةِ اللاذعَ، النبيذُ المُفَضَّلُ للرُّهبانِ البندكتيّين والذي ينمازُ بوَخْزِ نكهتِهِ الحَامِزَةِ وثَخَانَةِ قَوَامِهِ الثَّجِيرِ، كما قّدَّمَ له أيضًّا الكركندَ البحريّ الشَّائكَ ذا اللونِ الزَّهْرِيّ الشبيهِ بلونِ بشرةِ الرُّضَعَاءِ.
فيما بعدُ، أطلعَ الكاهنُ بسيط الدكتورَ فويتشيك على كُلِّ هذا وأكثرَ، وكأنَّهُ يُمارسُ سِرَّ الاعترافِ لَمْ يُخفِ عنه شيئًا مهما ضئولَ شأنُهُ، على الرغم مِن أنَّ تفاصيلَ ما حَدَثَ في الأمسيةِ التي أمضاها عند رئيس الأساقفةِ قَدْ تكونُ مقطوعةَ الصِّلَةِ بما تلاها مِن أحداثٍ. على أيِّ حالٍ، في عيد تذكار سلاسل القديس بطرس الرسول أثناءَ إقامةِ القُدَّاس شَعَرَ الكاهنُ بسيط لأوَّلِ مَرَّةٍ بأنَّهُ مريضٌ: كانت رأسُهُ نَهْبًا لدُّوَارٍ يُعيِيها ومعدتُهُ فريسةً لوَقْرٍ غريبٍ يُضْنِيها.
كان الأوَّلُ مِن أغسطس يومًا قائظًا مُفْعَمًا بالصُّفْرَةِ ذا هواءٍ كثيفٍ يجعلُ مِن التَّنَفُّسِ أمرًا بالغَ العُسْرِ، وكانت الكنيسةُ غاصَّة بحشود المُصَلِّين، عندما رفعَ الكاهنُ الخبزَ المُقَدَّسَ الذي تنبثقُ عنه أشعةٌ ذهبيَّةٌ مُرَتِّلًا:
“اجعلنا مُسْتَحِقِين كلنا يا سيدنا أنْ نتناولَ مِن قُدْسَاتِكَ طهارةً لأنفسِنا وأجسادِنا وأرواحِنا-“
لاحظَ أنَّ هناك امرأةً قد ألمَّتْ بها نوبةٌ مِن الإغماءِ تُحْمَلُ خارجًا عبرَ بابِ الكنيسةِ، في ذات اللحظةِ صارت الأرضيَّةُ الحَجَرِيَّةُ لَدْنَةً تحت قدمَيْه تكادُ تَسُوخُ بِهِ كأنَّها مِن قُطْنٍ هشٍّ قد صِيغَتْ، وعَبْرَ عينَيْهِ المُضَبَّبَتَيْنِ بشِباكٍ مِن خيوطِ العنكبوتِ تَرَاءَتْ لَهُ آلةُ الأرغُن الموسيقيَّة وقد تَنَاءَتْ عنه كأنَّها انتبذتْ لها مكانًا قَصِيًّا يَبْعُدُ ألفَ ميلٍ ويزيد. ولولا أنَّ الكاهنَ بسيط قد تَشَبَّثَ بالعَضِّ على شفتَيْهِ حتَّى نَزَفَتَا، لَمَا حالَ شيءٌ بينه وبينَ أنْ يسقطَ مَغْشِيًّا عليه كما حدثَ للمَرْأَةِ، وَلَمَا استطاعَ أنْ يُتِمَّ القُدَّاس.
٢
في مِسْبَحَةِ الزَّمنِ تعاقبتِ الأيامُ مُتَطَابِقَةً مُطَهَّرةً مِنْ الأحداثِ المُباغِتَةِ كحبَّاتٍ من الكهرمان، ثُمَّ كحبَّاتٍ مِن بِلَّورِ الخريفِ الباردِ، ثُمَّ كحبَّاتٍ مِن عاجٍ كالثَّلجِ في نَصَاعَةِ بياضِهِ. وكان الكاهنُ بسيط خلال تلك الأيامِ المتلاحقةِ جميعها يشعرُ بذاتِ الثِّقَلِ الذي صارَ الآن مُستأنسًا يتجلَّى في أحشائِهِ كألمٍ طفيفٍ، بَلْ رُبَّما كألمٍ مُسْتَطَابٍ يَشْتَهيه. وما خلا ذلك كان الكاهنُ بسيط مُمَتَّعًا بتمامِ العافيةِ، حتَّى قِيلَ لَهُ أنَّهُ لا يَنِي يَرْبُو لحمًا وشحمًا.
في إحدى الأمسياتِ أثناء لعبهما للدومينو، حدَّقَ الدكتورُ فويتشيك في الكاهن بسيط، بصورةٍ أشدَّ قُرْبًا ممَّا هو مألوف، ومَحَصَهُ مُتَمَهِّلًا عبرَ ثُغْرَتَيْنِ خَزْرَاوَيْنِ: عينَيْه الخَضراوينِ الشبيهتَيْنِ بعيون الماعز.
“أتدري يا صديقي لا يروقُنِي سَمْتُكَ فإنَّكَ تبدو شاحبًا، ماذا بِكَ؟”
أخبرَهُ الكاهنُ بأمرِ القُدَّاسِ وشعورِهِ بالإعياءِ والألمِ الذي يُلِمُّ بمَعِدَتِهِ.
“تجرَّدْ مِن ملابسِكَ، هَلُمَّ، فلتنزعها عنك، مَنْ يُبَالي بالحِشْمَةِ؟ إنَّني أراهنُكَ على أن رئيسَ الأساقفةِ عندما-“
“لا، لا، أَمْهِلْنِي لحظةً واحدةً وسأفعل.”
ثُمَّ تبدَّى جسدُهُ شبيهًا بتلك الكراسي الموجودة في مَخَادِعِ النِّسَاءِ، تلك الكراسي الوثيرة التي لها كُسْوَةٌ مِن الحَرِيرِ الزَّهريّ، الحافلة بالحنايا والثنايا والنُقُرات التي تَنْضَحُ دفئًا رَطِيبًا، تلك الكراسي التي تنبضُ بالحياةِ- حتَّى أنها لرُبَّما قد تَحُلُّ بين الفَيْنَةِ والأخرى مَحَلَّ النِّسَاء اللَّائِي يَمْلِكْنَهَا. لَوَى دكتورُ فويتشيك شَعْرَ رأسِهِ فاتِلًا بشدَّةٍ قرنَيْهِ الأصهبَيْن كأنَّهُ يزيدهما شَحْذَا، وعلى شفتَيْه بسمةٌ تنسابُ زَحْفًا نحوَ أذنَيْه، ولكنه بعد هُنَيْهَةٍ انحنى وعلى وجهِهِ سِيمَاءُ الرَّزانةِ، ووضعَ أذنَهُ على الجسدِ المَكْسُوِّ بالحريرِ الزَّهْريّ ثُمَّ جَسَّ بَطْنَهُ.
“إذن… أَصِخْ لِي: لِمَ لَازَمْتَ الصَّمتَ حولَ هذا الأمرِ حتَّى الآن؟”
“حسنًا، إنني على نحوٍ ما… قد أُخْبِرْتُ بأنَّني أزداد وزنًا، لِمَ تسألُنِي؟”
“لأنني مضطرٌ إلى شَقِّ بطنك.”
وَجُلَتِ غَمَّازاتُ الكاهن بسيط وعيناهُ رضيعتَانِ مَذْعُورتَان تمصَّان إبهامها.
“ولكن لماذا؟ أستحلفك بمريم العذراء أن تصارحني، ما هي عِلَّتِي؟”
“أخشى أنَّه… ومع ذلك سأخبرك عندما أفتحُ بطنك.”
“لا، يا دكتور. أهو داءٌ عُضَالٌ؟”
“كيف عساي أن أُوَضِّحَ لك الأمرَ؟ عندما ينتفخُ بطنُ امرأةٍ فليسَ بالأمرِ الجَلَلِ، ولكن عندما يَحْدُثُ هذا لِي أو لَكَ فهو أمرٌ لا مجالَ فيه للهَزْلِ. والآن المسألةُ الأكثرُ أهميةً: هل ظَلَلْتَ تُعَانِي مِن هذا مُدَّةً مَدِيدةً؟”
تَيقَّظتْ ذاكرةُ الكاهن: نعم، نعم، بدأَ الأمرُ منذ شهر أغسطس، في يومِ الاحتفالِ بتذكارِ سلاسلِ القديس بطرس الرَّسول، حينَما كان رئيسُ الأساقفةِ قد عادَ لتوِّهِ مِن روما، تقريبًا… أو عقب ذلك بوقتٍ نَزِيرٍ.زحزحَ الدكتور فويتشيك قرنَيْه الأصهبَيْنِ قليلًا وائتلقتْ بسمتُهُ.
“لقد فهمت… حسنًا إذًا -هل اليومُ هو الاثنين؟- فلتأتِ إليَّ في المَشْفَى يومَ الأربعاء.”
ها هو ذا يومُ الأربعاءِ، يومُ أربعاءِ الرَّمادِ مِن الأسبوع الأوَّل للصَّوْمِ الكبير الذي فيهِ حَدَثَ كُلُّ شيءٍ. يومٌ مِن أيامِ شهرِ فبراير، في سَمَاءِ شتائِهِ السَّاكِنَةِ –النَّوافذُ ذواتُ الزُّرقةِ البَّرَّاقةِ، والرِّيحُ، كلُّ شيءٍ بَدَا كأنَّهُ يطيرُ. بَدَتِ الغرفةُ الهادئةُ -التي تَتَّسِمُ جدرانُهَا وأبوابُهَا ومقاعدُهَا بِبَيَاضٍ مَهِيبٍ- كأنَّها لَم تَعُدْ موجودةً هنا، على الأرضِ حَيْثُ كُلُّ شيءٍ متعددُ الألوانِ بشكلٍ صاخبٍ وحَيْثُ الأبيضُ والأسودُ يتمازجانِ على الدَّوَامِ. لَبَثَ الكاهنُ بسيط في الغرفةِ البيضاء مُنْتَظِرًا، وقد اعتراهُ الخَدَرُ مِن فرطِ القلقِ، جالسًا بجوارِ امرأةٍ مَدْرَاءَ شبيهةً بالعنكبوت: بطنٌ هائلٌ يكتنفُهُ قماشٌ قطنيٌّ رماديُّ اللونِ يغصُّ بزخارفَ شتَّى؛ وما سواهُ مِن ذراعَينِ ورجلَيْنِ ووعينَينِ دقيقتَيْنِ بيضاوَينِ، فهو مُجَرَّدُ زوائِدَ تُحيقُ بالبطنِ.

جلسا في صَمْتٍ لوقتٍ طويلٍ وكلاهما مُنْغَمِسٌ في هواجِسِ ذاتِهِ ثُمَّ انتزعتْ المرأةُ العنكبوتُ ساقَهَا مِن بطنها وبَسَطَتْها؛ فرأى الكاهنُ حذاءً ذا رقبةٍ فِضْفَاضًا مُهْتَرِئًا ولَهُ لسانٌ مُتَهَدِّلٌ. تنفستِ المرأةُ العنكبوتُ الصُّعَدَاءَ مُلْتَقِمَةً ببطنِهَا الهائلِ شهيقًا كرويًّا بعيدَ الغَوْرِ، ثُمَّ وضعتْ إحدى أياديها الوفيرة على بطنِها، كأنَّها تَضَعُها على شيءٍ غريبٍ عنها، كأنَّها تَضَعُها على طاولةٍ ما.
“انظرْ، إنَّني أَلِدُ للمرةِ الثالثة -وفي كُلِّ ولادةٍ يشقُّون بطني… يا ولادة الإله! يشقُّون شقًّا- كيف سيعيشُ ستاس ويانيك وفرانتس بدوني؟ وأنتَ- هل جئتَ لرؤيةِ الطبيبِ أيضًا؟”
“نعم، إنني هنا أيضًا لرؤيةِ الدكتور فويتشيك.”
“وما هي بُغيتُكَ! لكنني حينَ أَفَكِّرُ الأمرَ: ابني الأكبر لم يتجاوز الثامنةَ مِن عمرِهِ… مِن حُسْنِ الحظِّ أنَّ الدكتور يمتلكُ قلبًا شَفُوقًا؛ فهو لا يسألُنِي أنْ أدفعَ لَهُ أدنى أجرٍ.”
مَنْ يدري: رُبَّما عمَّا قريبٍ لن يكونَ الكاهنُ بسيط جالسًا هنا بجوارِ المرأةِ في الغرفةِ البيضاءِ، بل في قاعةٍ رحيبةٍ هادئةٍ مُتَرَقِّبًا هناك ساعةً أشدَّ هَولًا، حينها سيكونُ أمرًا جيِّدًا إنْ أَثْنَتْ عليه المرأةُ بكلمةٍ طيِّبةٍ… أخرج الكاهنُ بسيط مِحْفَظَتَهُ وأفرغَهَا واهبًا للمرأةِ كُلَّ ما فيها، وفي ذاتِ اللحظةِ –عندما كانت المرأةُ تُقْحِمُ كلُّ شيءٍ في بطنِها المُتَخَشِّبِ الهائلِ- دخلَ الدكتور فويتشيك وحَشَّفَ عينَيْهِ مُتَفَرِّسًا، ثُمَّ زحفَ نحوَ الكاهن ببطءٍ وهو يُرَوِّعُهُ ببسمتِهِ القرناء.
“هل تكتنزُ أعمالًا صالحةً لآخرتِكَ؟ هل تُحْصِي ما اقْتَرَفْتَهُ مِن الذنوبِ؟ ليس هناك ما يدعوك للقلقِ يا صديقي؛ ففي غضون ثلاثة أسابيعَ سيكونُ بميسورِكَ أنْ تزورَ رئيسَ الأساقفةِ مجدَّدًا وأن تتناولَ معه الكركندَ البحريّ. هَلُمَّ…”
بعد ذلك بياضٌ، فولاذٌ، طاولةٌ، ارتجافٌ. داهمَهُ صوتٌ جَهْوَرِيٌ قادمٌ مِن مكانٍ بعيدٍ عن الأرضِ، صوتُ الدكتور فويتشيك يصيحُ بِه:
“اُعْدُدْ بصوتٍ عالٍ: واحد، اثنان، ثلاثة… حسنًا، هل تسمعُنِي؟”
ثُمَّ لَمْ يَعُدْ هناك كلامٌ ولا جسدٌ. لا شيءَ، إنَّها الخاتمة…
يُتبع…
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد