مُعْجِزَةٌ خَادِشَةٌ لِلْحَيَاءِ.. الجزء الثاني.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
العنوان الأصلي: عن معجزة أربعاء الرَّماد
تأليف الكاتب الروسيّ: يفجيني زامياتين
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

هذه القصة تدورُ حول المعجزةِ التي حدثتْ في أربعاءِ الرَّمادِ وتتناولُ أيضًا الكاهنَ بسيط والدكتور فويتشيك؛ إذ أنَّ الكاهنَ بسيط هو الذي حدثتْ المعجزةُ عن طريقِهِ، والدكتور فويتشيك هو الشخصُ الوحيدُ الذي قُدَّرَ لَهُ أنْ يكونَ شاهِدًا عليها مِن بدايتها حتَّى نهايتها.
لقراءة الجزء الأول.. اضغط هنا
٣
كانت هذه مُجَرَّدَ بدايةٍ للكاهنِ بسيط، ولكنها كانت النهايةَ للمرأةِ العنكبوت. فقد كانت المرأةُ راقدةً بلا حراكٍ، هامدةً يُغَطِّيها البياضُ، وكان حذاؤها الأحمرُ معصوبًا مع ردائها في حُزْمَةٍ، وعلى الحُزْمَةِ ورقةٌ مُثَبَّتةٌ. وفي إحدى الغُرُفَاتِ البيضاواتِ كان هناك رضيعٌ أحمرُ البشرةِ يصرخُ، رضيعٌ ذو جبهةٍ ضخمةٍ تَشِي بحصافةٍ موعودةٍ.
فتحَ الكاهنُ بسيط عينَيْهِ، فإذ بِهِ يرى قرنَيْن أحمرَيْن وعينَيْن ضيِّقتَيْن كعيونِ الماعزِ، ولكن يقينًا لم يكنْ هذا الشيطانُ سوى الدكتور فويتشيك مُنْكَبًّا عليه؛ فقد كان جَلِيًّا أنَّ الكاهنَ لا يزالُ هنا على الأرض…
“المرأةُ التي كنتُ معها…”
انقطعَ صوتُ الكاهن إذ لَمْ يَعُدْ لديه قِبَلٌ بالكلام، ولكنَّ الدكتورَ فويتشيك فَطِنَ إلى مَقْصِدِهِ، فَشَرَعَ يلوي قَرْنَيْ شَعْرِهِ الأصهبَيْنِ لَوْيًا شديدًا ممَّا أدَّى بِهِ إلى إيلامِ نفسِهِ.
“لقد كنتَ يا صديقي أوفرَ منها حظًّا. إنها الآن تُبْلِغُ السُّلُطَاتِ المُخْتَصَّةَ بأعمالِك الصالحةِ.”
وبُغْتَةً انبثقَ خلفَ الكاهنِ أنينٌ غريبٌ مُثِيرٌ للشفقةٍ، حاولَ الكاهنُ أنْ يَلْتَفِتَ نحوه فصرخَ الدكتورُ فويتشيك غاضبًا:
“هل فقدتَ عقلَكَ؟ اِسْتَلْقِ ولا ترتكبْ أدنى حركةٍ.”
خَطَا دكتور فويتشيك نحوَ موضعٍ ما مِن الغرفةِ، وبعد لحظةٍ عادَ إلى مركزها الأبيض ومعه رضيعٌ معقوفٌ على نفسِهِ: كانت ساقاهُ مسحوبتَيْن إلى أعلى لَصِيقَتَيْنِ ببطنِهِ، وكانت جبهتُهُ بالغةَ الضخامةِ.حملقَ الكاهنُ في الدكتور فويتشيك وفي الرضيعِ وعيناهُ الذاهلتَانِ تزدادانِ اتِّسَاعًا واستدارةً.
“هذا… لماذا؟… مِن أينَ هذا؟”
ظَلَّ الدكتور فويتشيك صامِتًا لمُدةٍ طويلةٍ، يُحَدِّقُ في الكاهنِ بعينَيْه الخزراوَينِ الشبيهتَيْنِ بعيون الماعزِ، ويسبرُ غَوْرَهُ بنظراتٍ فاحصةٍ تتسلَّلُ أعمقَ فأعمقَ حتَّى لُبِّ النُّخَاعِ. وفجأةً ائتلقتْ بسمتُهُ المُرَوِّعَةُ، كان يبتسمُ لشيءٍ مُبْهَمٍ لا يعلمُهُ إلَّا هو! وأخيرًا قالَ بنبرةٍ مُتْرَعَةٍ بالجِدِّيَّةِ:
“على أيِّ حالٍ، سيتوجَّبُ عليَّ أنْ أُخْبرَكَ بالأمرِ إن عاجلًا أو آجلًا. إنَّ هذا الطفلُ ابنُك.”
بغمَّزاتٍ مشلولةٍ وفمٍ فاغرٍ وعينَيْنِ شبيهتَيْنِ برضيعتَيْنِ مذعورتَينِ، قالَ الكاهنُ:
“تقصدُ… ماذا تقصدُ بقولِك إنَّه ابنِي؟”
“أقصدُ أنَّهُ ابنُك.”
“لكنني… أيتها العذراء المقدسة! لكنني رَجُلٌ في نهاية المطافِ!”
“إنَّني أعلمُ هذا تمامًا كما تعلمُهُ أنتَ، ومع ذلك… إنَّك تُدْرِكُ أنَّ الإيمانَ بمعجزةٍ –وما حَدَثَ ليس بمقدوري إلَّا أنْ أَدْعُوَهُ معجزةً- أمرٌ عسيرٌ عليَّ لكوني طبيبًا، ومُيَسَّرٌ لك لكونِكَ كاهنًا، وهأنذا أؤمنُ بها. لا حيلةَ لنا إلَّا التسليم بها؛ فلتُؤمِنْ، ولتَرْضَ بها رُضْوانك بابتلاءٍ يُمَحِّصُكَ بِهِ الإلهُ أو نعمةٍ فريدةٍ تَخْتَصُّكَ بها السَّمَاءُ.”
“لكن يا دكتور، هذا الأمرُ… غيرُ معقولٍ، محالٌ أنْ يستسيغَهُ عقلٌ!”
“وهل بَعْثُ الأمواتِ مِن القبورِ أمرٌ معقولٌ؟ أَمْ أنَّك ستقول لي إنَّك لا تؤمنُ بقيامةِ الأموات؟”
“لا، لا، إنني أؤمنُ بلا رَيْبٍ… ولكنني أتساءل: لماذا أنا، أنا فحسب؟”
“رُبَّمَا كانت جَزَاءً وفاقًا لَكَ على ذنبٍ اِقْتَرَفْتَهُ؟ ما أَدْرَانِي؟ رُبَّما لأنَّ السَّمَاءَ تَصْطَفِي أنقياءَ الرُّوحِ بُسَطَاءَ القلبِ ليكونوا أدواتٍ لها، وأنتَ لحُسْنِ الحَظِّ بسيطُ القلبِ كطفلٍ. حسنًا، هَدِّئْ مِن رَوْعِكَ؛ فإنَّ اضطرابَكَ ضَارٌّ بِكَ… هذا الصَّبِيُّ ابنُكَ.”

ماذا كان بمقدورِ الكاهن أن يصنعَ أمامَ معجزةٍ آمنَ بها الدكتور فويتشيك، حتَّى الطبيب نفسه قد آمن بها؟ لقد أذعن لها وتَحَمَّلَها قانتًا كما تَحَمَّلَ القديسُ بطرس الرسول بكُلِّ تواضعٍ وطأةَ السَّلاسِلِ الوَبِيلَةِ التي كَبَّلَتْهُ. سَلَّمَ بالمعجزةِ حتَّى بدا لَهُ أنَّهُ يعرفُ لماذا عَاقَبَتْهُ السماء ولماذا أَثَابَتْهُ على هذا النَّحْوِ. فقط، أحيانًا في الأُمسياتِ التي كان يجلسُ فيها مع الدكتور فويتشيك ليلعبا الدومينو، كان الكاهنُ يسألُ بنبرةٍ خَجْلَى:
“ومع ذلك.. مع ذلك.. ألم تعثرْ على شيءٍ، أيِّ شيءٍ على الإطلاق، في كُتُبِكَ؟”
كَتَمَ الدكتورُ فويتشيك سَرَّ المعجزةِ التي حدثتْ للكاهن في أربعاءِ الرماد، لقد أخبرَ كثيرًا مِن النَّاسِ أنَّ الكاهنَ بدافعٍ مِنْ صَلَاحِهِ ونقاءِ قلبِهِ تَبَنَّى ابنَ المرأةِ المُعْدَمَةِ التي تُوُفِيَتْ أثناءَ الولادةِ. ذَاعَ صِيتُ الكاهن ونَمَتْ شُهْرَتُهُ بينَ الناسِ كما نَمَا الصَّبِيُّ فيليكس في الجَسَدِ.
عندما كان فيليكس يدعو الكاهنَ “بابا” كان الكاهنُ يكتسي لَوْنًا زَهْريًّا رهيفًا كالحَرِيرِ، ويقول:
“لا تناديني بهذا الاسم يا فيليكس، فأنا لستُ أَبِيكَ.”
فكان الصَّبِيُّ يَعْبِسُ مُغَضِّنًّا جبهتَهُ العالية الحَصِيفَة ويَلْزَمُ الصَّمْتَ، ثُمَّ بعد بُرْهَةٍ يسألُ:
“وماما؟ مَن هي ماما؟”
فيجيبهُ الكاهنُ وقد تفاقمتْ نعومةِ صوتِهِ واستفحلَ تَوَرُّدُ وجنتَيْه قائلًا:
“هذا سِرٌّ لن أكشف لَكَ عنهُ إلا في اليومِ الذي أُغْمِضُ فيه عَيْنَيَّ إلى الأبدِ.”
وشاءتِ الأقدارِ أنْ يكونَ اليومُ يومًا مِن أيامِ فبراير، شبيهًا بأربعاءِ الرَّمادِ الذي وقعَ فيه ما لا يستسيغُهُ عقلُ بشرٍ، بنفسِ الغيومِ والريحِ في سماءِ الشِّتَاءِ السَّاكِنَةِ تلوحُ عبرَ النوافذِ ذواتِ الزُّرقةِ البَّرَّاقةِ. على الجدارِ المُوَاجِهِ للكاهن، انثالَ صليبٌ مًعْتِمٌ ببطءٍ كسيحٍ وبسرعةٍ تفوقُ العقلَ، ولم يكنْ ذاك الصليبُ إلَّا ظِلًّا لِدَعائمِ النافذةِ. باذلًا قُصَارَى جهدِهِ في التَّشَبُّتِ بذاك الصليب، عضَّ الكاهنُ بسيطُ على نواجِذِه وأومأَ برأسِهِ إلى فيليكس:
“الآن يا فيليكس… لا، يا دكتور، لا تذهبْ بعيدًا؛ فإنَّك تعلمُ عِلمَ اليقينِ بما حدثَ، وستُؤكِّد له أنَّ الأمرَ وقعَ بالضَّبْطِ كما أقولُ… رُبَّما هَجَسَ في نَفْسِكَ إنَّني أبوكَ يا فيليكس. حسنًا، أنا أُمُّكَ وأبوكَ هو رئيسُ الأساقفةِ المُتَنَيِّحُ بنديكت.”
وللمرَّةِ الأخيرةِ رأى الكاهنُ جبهةَ فيليكس التي تُمَاثِلُ في عُلُوِّها وضخامتِها جبهةَ رئيسِ الأساقفةِ الراحلِ، القرنَيْنِ الأصهبَيْنِ للدكتور فويتشيك، وشيئًا ما –يتلألأُ كالدموعِ- في عينَيْهِ الشبيهتَيْنِ بعيونِ الماعزِ. ومِنَ الغريبِ أنَّهُ بَدَا للكاهنِ بسيط أنَّ الدكتورَ فويتشيك شَرَعَ يضحكُ عبرَ دموعٍ تنهمرُ. إلَّا أنَّ هذه الرُّؤى جميعَها لاحتْ له ضبابيَّةً مُبْهَمَةً، كأنَّها وَفَدَتْ عليه مِن مكانٍ ناءٍ خلالَ حُلْمٍ : كان الطفلُ بالفعلِ يَهْوِي في حِضْنِ السُّبَاتِ الأبديّ.
تمت
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد