نظرية النسخ في القرآن هل نجحت في رفع التوتر ج٣ .. بقلم: محمد ياسين

طه جابر العلواني (1935 – 4 مارس 2016)، هو مفكر وفقيه إسلامي عراقي. كان رئيس المجلس الفقهي بأمريكا، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية (SISS) بهرندن، فرجنيا، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على الدكتوراة في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة، مصر، عام 1973. كان أستاذاً في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، المملكة العربية السعودية منذ عام 1975 حتى 1985. في عام 1981 شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة، كما كان عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1983. وكان رئيس جامعة قرطبة الإسلامية في الولايات المتحدة.

بقلم: محمد ياسين

img_3217-1-766490914-e1720704519149 نظرية النسخ في القرآن هل نجحت في رفع التوتر ج٣ .. بقلم: محمد ياسين

العلواني والحرب على النسخ في القرآن

يُعَد “العلواني” واحدًا من أبناء المدرسة الفكرية التي تتبنى “الإسلام الحضاري” أو “إسلام الأمة” وهذه المدرسة تنطلق من التراث وتبني عليه، لكنها لا تقدسه ولا تقف عند حدوده، تحاول فهمه وهضمه ثم الوصول من خلاله إلى صيغة حضارية لإعادة تشكيل الوعي المسلم من جهة وعرض الإسلام بوجهه الحضاري العالمي من جهة أخرى.

وقد عُني – رحمه الله – في الشطر الأخير من حياته بالدراسات القرآنية عناية بالغة، وكان من اجتهاداته في هذا المضمار الرفض القاطع للقول بوجود نسخ في النص القرآني.

وبالطبع فإن “العلواني” ليس أول القائلين بهذا من تلك المدرسة، فقد سبقه إلى ذلك الشيخ محمد الغزالي (1917 – 1996 م) في كتابه “نظرات فى القرآن الكريم”1

يعلن العلواني رفضه القاطع لفكرة وجود النسخ في القرآن الكريم في مجمل دراساته القرآنية، ولاسيما كتابه “نحو موقف قرآني من النسخ”، بل ويطلق على القول بوجود نسخ في القرآن “القول الغثيث”.

ومن الجدير بالذكر هنا – وتحريرًا لمحل النزاع – كما يقول الأصوليون، فإن “النسخ” المتنازع على وجوده أو عدمه ليس هو المعنى الواسع الفضفاض الذي كان معروفًا في القرن الأول الهجري، وهو نقل معنى الآية أو تحويله من حال إلى حال سواء بفهم مستجد تكشّف النص القرآني عنه، أو بتخصيص العام أو تقييد المطلق أو بيان المجمل أو عكس ذلك.

وإنما محل النزاع في المعاني الاصطلاحية للنسخ التي وضعها الفقهاء والأصوليين وعلماء القرآن وفصّلوا فيها وألفوا من أجلها الكتب المعروفة. والمنطلق الذي ينطلق منه العلواني فى رفضه لنظرية النسخ في القرآن هو: كون القول بالنسخ منافيًا لـ “خصائص الخطاب القرآني” ذاته.

وللوصول إلى هذه النتيجة فإنه يفنّد حجج القائلين بوجود النسخ في القرآن الكريم ويبطل أدلتهم، وأهمها آية “سورة البقرة” “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (106) إذ أن سياق الآيات يتحدث عن نسخ الإسلام كدين خاتم لليهودية كديانة محلية أو قومية انتهت مهمتها وحان وقت استبدالها بغيرها وليس نسخ آيات القرآن بعضها لبعض، ويمضي في كتابه مفنِّدا هذه الأدلة واحدة تلو الأخر:

وإذا كانت القضية الأساسية في نشوء نظرية “النسخ” هي التعارض القائم في ذهن القارئ / المجتهد وهو ينظر في دليلين / حكمين / معنيين لايمكن الجمع أو التوفيق بينهما. فإن “العلواني” يرى أن هذه القضية تتعلق بأدوات المجتهد ووسائله المنهجية التي يستخدمها فى التعامل مع النص، فإذا كانت وسائله قاصرة عن إدراك معاني النصوص في سياقاتها الكلية والجزئية، فذلك يعني – عند العلواني – أن على المجتهد أن يعيد النظر في تلك الوسائل والأدوات المنهجية، وليس له أن يعالج إشكاليته الذهنية بالتحكّم في النص.

وبالتالي فإن العلواني – رحمه الله – يرى أن المشكلة تكمن في أن المجتهد / الفقيه / المفسر نقل إشكالية وقوع التعارض بين نصوص القرآن في ذهنه هو إلى إشكالية في النصوص ذاتها، وبالتالي فقد عمل جهده على إزالة هذا الإشكال القائم في النص – من وجهة نظره – تقديسًا للنص من وقوع التعارض من ناحية ودفاعًا عنه من ناحية أخرى.

وكوْن “الخطاب القرآني” موجّه إلى بشر مستخلفين في الكون، وفي واقع محدد في زمانه ومكانه، وأن ما يصلح لزمان قد لا يصلح لآخر وما يصلح لمكان قد لايصلح لآخر، ليس مسوّغا – عند العلواني – للقول بالنسخ، ذلك أن الواقع بكل مركّباته الزمانية والمكانية والبيئية بشكل عام محكومٌ بالجعل الإلهي والسنن الإلهية ومنها “الصيرورة التاريخية”.

d8b7d987-d8acd8a7d8a8d8b1-d8a7d984d8b9d984d988d8a7d986d98a نظرية النسخ في القرآن هل نجحت في رفع التوتر ج٣ .. بقلم: محمد ياسين
د. طه جابر العلواني

أدوات العلواني في مواجهة النسخ

يرى “العلواني” أن الخطاب القرآني – كلام الله تعالى – مطلق ومُتحدّي به، وهو خطاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ومع أن هذا القدر متفقٌ عليه عند القائلين بضرورة النسخ – إلا أن من تجلياته عند العلواني:

الوحدة البنائية للقرآن الكريم: التي تجعل من القرآن الكريم مع تعدد سوره وآياته كالكلمة الواحدة، ويعتبر أن هذه “الوحدة البنائية” تحيل إمكانية قيام أي تعارض أو تناقض أو تمانع أو معاندة بين آيات القرآن.

الجمع بين القراءتين: وهو ما يعنى به العلواني أن الخطاب القرآني معادل لحركة الكون وأن التوجيه الإلهي بالقراءة “اقرأ” تشتمل على نوعين من القراءة .

“اقرأ باسم ربك الذي خلق” فهي قراءة باسم الله الخالق، بحيث يكون القرآن هو الهادي في قراءة هذا الكون، فيُفهًم كل منهما بالآخر، وينعكس فهم كل منهما على الآخر. وقراءة يقود الإنسان فيها كلَّ ماتراكم من علوم ومعارف وخبرات، فلا تتبعثر جهود البشرية ولاتضيع هباء.

وبالتالي فإن العلواني ينطلق من هاتين الركيزتين من ركائز” خصائص الخطاب القرآني “ليقرر أن القرآن معادل موضوعي للكون وحركته ومستوعب لها، فهو لايتعلق تعلقًا مباشرًا وتامًا بأية إشكالية جزئية، بل يستوعبها ويتجاوزها.

ويرى العلواني أن نشوء نظرية النسخ نتيجة الوقوف عند مرحلة “الاستيعاب” للقضايا الجزئية، وعدم إدراك مرحلة “التجاوز”. فـ “الخطاب القرآني” لا يسكن الجزئي (الزماني والمكاني)، وإنما يمر عليه بمقدار مايلقي ضوءًا بين يدي المجتهد يساعده على الفهم، ثم ينطلق إلى غايته الممتدة إلى يوم الدين.

خصائص الخطاب القرآني عند العلواني

الخطاب القرآني يبني منظومة كاملة للقيم والمقاصد. وهنا ينطلق العلوانى منطلقًا جديدًا في وضع منظومته التفسيرية الشاملة للخطاب القرآني والتي يصير “رفض النسخ” أحد تجلياتها. فـالعلوانى يرى أن الخطاب القرآني يتجاوز الواقع – بعد استيعابه – لبناء منظومة قِيَمية شاملة (القيم الحاكمة العليا)، وهذه القيم هي التي تشكّل قاعدة الثوابت الراسخة التي تمكّن البشرية من الاستجابة لحاجاتها التشريعية مهما اختلفت البيئات وتنوعت الثقافات والحضارات، وهذا الخطاب – إذ يؤسس لهذه القيم – لم يُغفل تناول جزئيات تنعكس عليها تلك القيم والمقاصد، لكنه يتعامل مع الواقع فيتفاعل معه متدرجًا فيتصل به ويستوعبه، لكنه سرعان ما يتجاوزه إلى المستقبل.

وعلى الرغم من التأكيد القاطع لرفض النسخ والانطلاق من المنطلقات السابقة فإن العلوانى كشأنه في الكثير من كتاباته معنيٌّ بالتقعيد والتأسيس / التنظير دون تفصيل بذكر أمثلة واستقراء يؤكد النظرية ويوثقها.

فإذا كان حسن حنفي فصّل وفصّل في كتاباته فلم يترك للقارئ سوى أن يتخذ موقفًا من أطروحاته مباشرةً قبولًا أو رفضًا أو تحليلًا ونقدًا، أو حتى استكمالًا لمسيرته في اتجاهات جديدة، أما العلواني فقد كانت كتاباته مركّزة تحتاج من القارئ أولًا إلى تفكيك وتفصيل بل وربما إلى إعادة صياغة قبل النقد والمعالجة.

طرح جمال عمر

تعرّض “جمال عمر” لقضية الناسخ والمنسوخ في إطار حديثه عن قضية “توتر القرآن” وهي القضية التي لم يضع لها تعريفًا محددًا يمكن لقارئ الكتاب الرجوع إليه، ذلك أنه يرى أن المعنى ذاته فى تطور دائم وفق نضج القارئ واتساع مفهومه لمعنى “التوتر”، لكن – وبشكل عام – فإن التوتر – وفق ما يشير إليه مضمون الكتاب هو: تردد الآيات القرآنية في مواضع مختلفة بين معاني يغلب عليها التضاد أو التناقض، وقد كان “الناسخ والمنسوخ” هي إحدى آليات الفقهاء – قديمًا وحديثًا – لرفع هذا التوتر وإزالة الإشكال القائم وذلك في حالة عدم تمكنهم من التوفيق بين الآيات المتعارضة.

وعلى الرغم من اطّراد التوتر – بالمعنى المذكور – في آياتٍ كثيرة تتناول موضوعات شتّى إلا أن نظرية الناسخ والمنسوخ ظهرت في محاولة الفقهاء – تحديدًا – لرفع التوتر القائم بين آيات الأحكام، وهو ما حاول “عمر” إبرازه من خلال الأمثلة التي ذكرها لموضوعات الأحكام التي وقع التوتر في آياتها مثل:

الآيات التي تحدثت عن تحريم الخمر.
الآيات التي تحدد الموقف من أهل الكتاب.
الآيات التي تحدثت عن عدة المرأة والاختلاف فيها.
حد الزنا بين آيتي سورتي النساء والنور.
العلاقة بين آيات الرحمة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وآيات القتال وإعمال السيف في الكافرين وأهل الكتاب المحاربين.
الآيات التي تتحدث عن النبي ودوره كنبي أٌرسِل رحمة للعالمين أو كسلطة واجبة الانقياد لها وعدم مخالفتها.

d985d982d8afd985d8a9-d8b9d986-d8aad988d8aad8b1-d8a7d984d982d8b1d8a2d986 نظرية النسخ في القرآن هل نجحت في رفع التوتر ج٣ .. بقلم: محمد ياسين

ويتساءل “جمال عمر”: هل هذا التوتر الظاهر في الآيات ناتجٌ من أن آيات القرآن تصور الواقع والحال وقت الوحي أم هي تشريعات وأحكام تنسخ تشريعات أخرى؟!

ويرى “جمال عمر” أن مقولة الناسخ والمنسوخ كانت أكبر رافعة استخدمها الفقيه المسلم، كأداة لرفع التوتر سعيا للوصول إلى ضوابط لسلوك المسلمين من القرآن.

و هو يرى – كذلك – أن الإشكالية تبدأ من التعامل مع “القرآن” ككتاب له نص بين دفتين وليس باعتباره “خطابًا” كما هو حاله وقت التنزيل، ذلك أن “الكتاب” بالتعريف ينبغي أن تكون له بؤرة معنى ومركز دلالة، وهنا يأتي الدور على الفقيه / المتكلم / المفسّر ليحدد – وفق رؤيته / انتماءاته / فرقته ما ينبغي أن يكون هو البؤرة أو المركز، وبالتالي يبدأ فى تنحية / إزالة كل ما عداه.

وقد ضرب لذلك أمثلة جديرة بالوقوف أمامها وتأملها. فحين يدافع الفقيه المسلم عن النبي كـ “سلطة” وعن قوة الإسلام وفرضه الجهاد لنشر الدعوة سيبرِز آيات القتال ويجمعها فى سياق واحد، ويسوقها في سياق أنها آخر ما نزل من القرآن فهو الناسخ لما عداه.

وحين يأتي فقيه آخر يريد أن يؤكد قيم “التسامح” والموادعة أو إلى “تحسين صورة الإسلام” فإنه سيبرِز الآيات التي تتحدث عن النبي كرحمة للعالمين، وعن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن الفصل بين العقائد سيكون يوم القيامة وليس فى الدنيا، وهكذا.

وعلى الرغم من أن كتاب “عمر” يثير من التساؤلات أكثر ما يعطي من إجابات، ويعتمد على العرض التحليلي أكثر من اعتماده على اتخاذ موقف تفسيري، إلا أنه يخلص بالقارئ في نهاية كتابه الذي اعتبره مجرد “مقدمة”! إلى أن “التوتر” الذي أفنى الفقهاء / المتكلمون / أوقاتهم في محاولة رفعه بشتى السبل، ليس نقيصة نحاول تنزيه القرآن الكريم عنها، وإنما هو جزء لا يتجزأ من بنية القرآن باعتباره “خطابًا”، بل هو مايجعل هذا النص قادرًا على توليد المعاني من جديد عبر الأجيال، أو هذا ما وصلني من محاولته.

  1. “هل في القرآن آيات مُعطَلة، الأحكام بقيّت في المصحف للذكرى والتاريخ -كما يقولون- التماسًا للأجر، ويُنظر إليها كما ينظر إلى التحف الثمينة في دور الآثار؟ غاية ما يُرجى منها إثبات المرحلة التي أدتها في الماضي، أما الحاضر والمستقبل فلا شأن لها بهما؟!”
    ويُضيف: “من المسلمين من يرون هذا الرأي … وهم يلجأون إلى هذا الفهم دفعًا لما يتوهم من تناقض ظواهر الآي. ونحن لا نميل إلى المسير مع هذا الاتجاه. بل لا نرى ضرورة للأخذ به، وسنرى عند التحقيق أن التناقض المتوهم لا محل له، وأن التشريعات النازلة في أمر ما مرتبةً ترتيبًا دقيقًا بحيث تنفرد كل آية بالعمل في المجال المهيأ لها.”
    ——–
    نظرات فى القرآن للشيخ محمد الغزالي ↩︎

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات