هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 1.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل

أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

d8a7d986d8b7d988d986d98ad988d8b3-d986d8a8d98ad984-d8b4d8a7d8b9d8b1-d988d985d984d8add986 هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 1.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل

استفاقَ جارسون بول في سريره بالمستشفى، في الرابعةِ والرُّبعِ بعدَ الظُّهْرِ بتوقيتِ كوكبِ الأرضِ، فعرفَ أنَّه طريحُ الفراشِ في جناحٍ ذي ثلاثةُ أَسِرَةٍ وأدركَ إضافةً إلى ذلك أمرَيْنِ آخريَيْن: أولهما أنَّه فقدَ يَدَهُ اليمنى، وثانيهما أنَّه لا يَحُسُّ بألمٍ.

قالَ في نفسِهِ: لا بُدَّ أنَّهم قد أعطوني مُسَكِّنًا قويًّا للآلامِ، بينما كان يُحَدِّقُ في الجدارِ البعيدِ الذي تُظْهِرُ نافذتُهُ قلبَ مدينةِ نيويورك. كانت الشَّبكاتُ -التي تندفعُ فيها السياراتُ والمُشَاةُ كالسِّهَامِ المُنْطَلِقَةِ- تتلألأُ في شمسِ الأصيلِ، وسطوعُ الضِّياءِ -الذي أدركتْهُ الشيخوخةُ- قد مَنَحَهُ سرورًا؛ إذ قال في نفسه: لم يَمُتْ الضياءُ بَعْدُ، وهكذا أنا أيضًا.

كان هناك هاتفٌ للقيامِ بمكالماتٍ مصوَّرةٍ على الطَّاولةِ بجانب سريرِه، ترددَ جارسون بُرهةً ثُمَّ التقطَ الهاتف وطلبَ خطًّا خارجيًّا، وبعد لحظةٍ كان في مواجهة لويس دانسمان الذي كان قد توَّلى مسئولية الإشراف على أنشطةِ شركة تراي-بلان للإكترونيات عندما غابَ عنها جارسون.
قال له دانسمان فورَ رؤيتِهِ وقد انبسطتْ أساريرُ وجهِهِ اللَّحيمِ الشَّحيمِ الذي شابهَ سطحَ القمرِ في اكتظاظِهِ بندوبِ الجُدَرِيّ “الحمدُ للهِ أنَّك على قيدِ الحياةِ، لقد كنتُ على اتصالٍ متواصلٍ بكُلِّ-“
قاطعه بول قائلًا “إنِّني لا أملكُ يدًا يُمنى.”
“لكنَّك ستكون على ما يرام، أقصدُ، بمقدورهم أنْ يزرعوا لكَ يدًا أخرى.”
قال بول “كم من الوقتِ أمضيتُ هنا؟” متسائلًا: أين ذهب الأطباء والممرضون؟ لِمَ لَمْ يُحدثوا هَرَجًا ومَرَجًا فورَ إجرائِهِ للمكالمةِ المصوَّرةِ؟
قال دانسمان “أربعةَ أيامٍ. كُلُّ شيءٍ هنا في المصنع يُنْجَزُ على نحوٍ رائع، لقد تلقينا بالفعل طلباتٍ هائلةً مِن ثلاثةِ أنظمةٍ شُرَطيَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ، ثلاثتهما هنا على كوكبِ الأرض، اثنان منهما في ولايةِ أوهايو والثالث في ولاية وايومِنج. إنَّها طلباتٌ جيِّدَةٌ ومضمونةٌ، مع دَفْعِ الثُّلثِ مقدمًا وخيارِ الإيجارِ المعتادِ لمدة ثلاثِ سنوات.”
قال بول “أخرجني من هنا.”
“لا أستطيعُ أن أُخرجك، قبلَ أنْ يزرعوا يدًا جديدةً-“
“سأحصلُ عليها لاحقًا.” كان لديه رغبةٌ عارِمةٌ في العودةِ لبيئتِهِ المألوفةِ، كانت ذكرى السفينةِ التجاريَّةِ -وهي تلوحُ مُشَوَّهةً على شاشةِ الطيَّار- تجنحُ متقلقلةً في خلفيةِ ذهنِهِ، فكان إذا أغمض عينيه يشعرُ بأنَّهُ قد عادَ مجدَّدا إلى سفينتِهِ المعطوبة وهي تصطدمُ في سقوطها السَّادرِ بالمركبةِ تلو الأخرى مُعَانِقَةً في طريقِها الطائشِ حشدًا مِن الأضرارِ الهائلةِ. جعلته الأحاسيسُ الحركيَّةُ التي تضمنتها الذكرى يَجْفُلُ فورَ تذكُّرِها ويقول في نفسِهِ: ما أسعدني حظًّا!

سأله دانسمان “هل سارة بنتون معك هناك؟”
“لا.” ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ سكرتيرتَهُ الشخصيَّةَ كانت لتحوم بالقُرْبِ منه وترعاه كأمٍّ بطريقتِها السَّاذَجةِ الطفوليَّةِ، حتَّى إنْ كان مبعثُ ذلك مُجَرَّدَ حيثياتِ وظيفتِها. كان جارسون يعتقدُ أنَّ كُلَّ النساءِ البديناتِ ينزعن إلى أنْ يصرن أمهاتٍ للآخرين، وأنَّهن خطيراتٌ؛ فإذا سقطن عليك قد يتسبَّبن في هلاكك.
قال بصوتٍ عالٍ “رُبَّما هذا ما حدثَ، رُبَّما سقطتْ سارة على سفينتي.”
“لا، لا؛ إنَّ عمودًا للربطِ في زعنفةِ التوجيهِ الخاصَّةِ بمركبتِك انشطرَ نصفَيْن حينما كانت حركةُ المرورِ في أشدِّ ساعاتِ ذورتِها فإذ بك-“
“إنَّني أتذكَّرُ.” استدارَ في سريرِه عندما انفتحَ بابُ الجناحِ، ظهرَ طبيبٌ في زيٍّ أبيضَ وممرضةٌ في زيٍّ أزرقَ، يشقَّانِ طريقهما إلى سريرِه. قال بول لدانسمان “سأتحدَّثُ معك لاحِقًا.” ثُمَّ أنهى المكالمةَ وأخذَ نَفَسًا عميقًا مُشَبَّعًا بالتَّرَقُّبِ.

“مِن المُبَكِّر جدًّا أنْ تستخدمَ الهاتف.” قالها الطبيبُ وهو يتفحَّصُ سجلَهُ الطِّبيّ. “السيِّدُ جارسون بول، مالكُ شركة تراي-بلان للإلكترونيَّات، مُبتكرُ السِّهَامِ العشوائيَّةِ لتحديدِ الهويَّةِ التي تتقصَّى أثرَ فرائسِها في دائرةٍ يبلغُ نصفُ قطرها ألفَ ميلٍ وذلك باستجابتِها لأنماطٍ مُمَيَّزَةٍ من الموجاتِ الدماغيَّةِ. إنَّك إنسانٌ ناجحٌ يا سيد بول. لكنَّك لست إنسانًا وإنما أنتَ نملةٌ كهربائيَّةٌ.”
قال بول مذهولًا “يا رَبِّي.”

“لن نستطيع حقًّا القيامَ بعلاجِك بعد أنْ اكتشفنا أنَّك نملةٌ كهربائية. لقد أدركنا الأمرَ قَطْعًا فورَ فحصِنا ليدك اليُمْنَى المُصَابة؛ لقد رأينا المُكَوِّنَاتِ الإلكترونيَّةَ ثُمَّ صَوَّرنا جذعَك بالأشعةِ السينيَّةِ التي أيَّدتْ فرضيَّتَنا تأييدًا قاطعًا لا يَشُوبُهُ أدنى شَكٍّ.”
قال بول “ما المقصود بنملة كهربائيَّة؟” ولكنَّه كان يعرفُ أنَّ في استطاعتِهِ أنْ يَكْتَنِهَ لُغْزَ هذا المصطلحِ وأنْ يَستخرجَ مُعَمَّى دلالتِهِ.
قالت ممرضةٌ “روبوت عضوي.”
قال بول “فهمتُ.” وكان عَرَقٌ قارِسٌ يتصبَّبُ من بَشَرَتِهِ ويتغَشَّى كاملَ جسدِهِ.
قال الطبيبُ “ألم تكن على علمٍ بهذا الأمرِ؟”
أجابه بول وهو يهزُّ رأسَهُ “بلى، لم أكن أعلمُ.”

قال الطبيبُ “إنَّنا نستقبلُ نملةً كهربائيةً كُلّ أسبوعٍ تقريبًا. إمَّا يُجلبُ إلى هنا مِن حادثةِ مَرْكَبَاتٍ كما حدث لكَ، أو يأتي راغبًا في الدخولِ الطَّوعيِّ للمستشفى… أحدٌ مثلك لم يعلمْ أنَّه نملةٌ كهربائيةٌ قَطُّ وظَلَّ يعيشُ وسطَ البشرِ معتقدًا أنَّه إنسانٌ. أمَّا فيما يتعلَّقُ بيدِكَ-” وانقطع الطبيبُ عن الكلامِ.
صاحَ بول وقد احتدمَ غيظًا “دَعْكَ مِنْ يَدِي.”
“هَدِّئْ مِنْ رَوْعِكَ.” صَغَا الطبيبُ بجذعِهِ فوقَ بول مُحَدِّقًا في وجهِهِ بإمعانٍ وصرامةٍ. “سوف نُرْسِلُكَ بقاربِ المستشفى إلى مَرْفِقٍ مِن مَرَافقِ الخدمةِ حيثُ يُمْكِنُ إصلاحُ يدِك أو استبدالِها بتكلفةٍ معقولةٍ لكَ إنْ كنتَ مالكًا لنفسِكَ أو لمُلَّاكِكَ إنْ كان لكَ مالكون. إنَّك في جميع الأحوال ستعودُ إلى مكتبِكَ في تراي-بلان لتقومَ بعملِكَ تمامًا كسابقِ عَهْدِك.”
قال بول “إلَّا أنني الآن أعلمُ.” تساءلَ عمَّا إذا كان دانسمان أو سارة أو أيٌّ مِنْ الآخرين في المكتبِ على عِلْمٍ بحقيقةِ أمرِهِ. هل تَمَّ شراؤهُ أو تصميمُهُ مِن قِبَلِهم أو مِن قِبَل أحدٍ منهم؟ قال لنفسه: لم أكن إلَّا رئيسًا صوريًّا. لا بُدَّ أنني لم أكن في الحقيقةِ أُديرُ الشركةَ قَطُّ وإنَّما كان الأمرُ مجرَّدَ وهمٍ غُرِسَ بداخلي حالما صُنِعْتُ… بجانب الوهم بأنِّي إنسانٌ وحيٌّ.

قال الطبيب “قبل أن تُغادرَ إلى مَرْفِقِ الإصلاحِ هل تتكرَّمُ علينا وتُسدِّدُ فاتورة التكاليف عند مكتب الاستقبال؟”
ردَّ بول بنبرةٍ لاذعةٍ “كيف يُعْقَلُ أَنْ يكونَ هناك فاتورةُ تكاليف، إذا كنتم هنا لا تعالجون النملَ أمثالي؟”
أجابتْ الممرضةُ “نظير خدماتنا إلى أنْ اكتشفنا حقيقةَ الأمرِ.”
قال بول بغضبٍ كظيمٍ يعتريه الإجهاد “فلترسلوا الفاتورة إلى الشَّركةِ. استطاع بجهدٍ جهيدٍ أن ينسلخَ من الاستلقاءِ إلى الجلوس والدُّوَارُ يُلِمُّ برأسِهِ، وأنزلَ رجلَيْه الواهنتين في تردُّدٍ مِن السَّريرِ إلى الأرضيَّةِ، ثُمَّ قال وهو ينهضُ واقفًا “إنني سعيدٌ بالرحيلِ عن هنا، شكرًا على ما قدَّمتموه لي مِن رعايةٍ إنسانيَّة.”
قال الطبيبُ “الشكر لك أيضًا يا سيد بول، أو بالأحرى يتوجَّبُ عليَّ أن أُخاطبك بلا لقبٍ وأقول يا بول فحسب.”

d981d98ad984d98ad8a8-d8afd98ad983 هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 1.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
فيليب ك. ديك Philip K. Dick
(16 ديسمبر 1928 -2 مارس 1982)

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

2 comments

اترك رد

ندوات