٢٥ يناير… ثورة بلا ثوار… بقلم: عمرو عبد الرحمن
بقلم: عمرو عبد الرحمن

طوال الوقت، وبعد فشل ثورة يناير 2011 كان ما أتمناه هو أن يقوم كل من آمن بهذه الثورة بالنقاش حول أسباب الفشل، لاستخلاص العِبر، وكي يستفيد من سيقومون بحراك جديد بعد عمرٍ طويل إذا استمرت الطرق بالانسداد وتوافرت المحفزات من أخطاء من سبقوهم. أنا على يقين أنك لو سألت خمسة أفراد ممن جمعهم ميدان الثورة عن الأخطاء وما يمكن أن نفعله لتلافيها في حراك قادم، ستجد إجابات مختلفة جذرياً، وكأن كل شخص كان يدعم ثورته الخاصة إلى الآن وبعد أربعة عشر عاماً من بدايتها.
البعض يحلم بحراك جديد وموجة ثورية آخرى لتغيير الأوضاع، هب أنها حدثت. هل نحن مستعدون لها؟ هل سنتلافى الأخطاء التي أدت لفشل سابقتها؟ هل ندرك ما هي تلك الأخطاء من الأساس؟
لذا وجدت في كتاب (ثورة بلا ثوار : كي نفهم الربيع العربي) ما أريده من تحليل لشخص ربما استطاع تنحية عواطفه ولو قليلاً بفضل نظرته المحلقة من خارج الإطار للوضع برمته.

الربيع العربي وثورات السبعينيات
يحاول أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط، الإيراني الأمريكي آصف بيات المقارنة بين ثورات السبعينات وثورات الربيع العربي، خاصة الثورة الإيرانية التي شارك فيها شابًا. وهي مقارنة ينتج عنها قناعة أن ماحدث في الربيع العربي هو انتفاضة أكثر منها ثورة بالمقارنة مع ثورات السبعينيات الراديكالية، انتفاضة افتقدت للأيديولوچيا والقيادة والتنظير الفكري والنزعة الجذرية. كانت ثورات بهدف الإصلاح على ما يحويه هذا من تناقض. لم يكن سحر الميدان برومانسيته أمرًا جديدًا. تخيل الناس حياة الميادين تؤسس لنظام اجتماعي مختلف يمكن أن يكون مهدًا للديمقراطية، لكن الإنسان لا يمكن أن يعيش في المهد للأبد.كان هناك آثرًا واضحًا للنيوليبرالية في تحجيم النزوع إلى الراديكالية، فالتعامل معها على أنها الأصل، طبيعة الأشياء، يجعلها أقل عرضة للنقد عكس الشيوعية مثلاً.
ينبذ النموذج الليبرالي أي حديث عن توزيع الثروة والفرص العادلة باعتباره تراثا اشتراكيًا باليًا مناقضًا لحرية الفرد. أدى ذلك إلى تقويض الحديث عن العدالة الاجتماعية وتحويل أدواته إلى دعم الطبقات الأفقر الذي يقدمه النموذج الليبرالي على أنه منحة ينبغي التخفف منها بدلًا من أدوات راديكالية للمساواة وتوزيع الثروة.
التيار الإسلامي والامبريالية الغربية
يسلط الكاتب الضوء على التيار الإسلامي كجزء من المعارضة لأنظمة الحكم العربية نشأ لإحياء الأصالة الثقافية والقيم المحلية في مواجهة الامبريالية الغربية ومنتجاتها. صمد التيار الإسلامي في الشرق الأوسط لأنه يقدم حزمة أيديولوچية مليئة بما يبدو أنها إجابات واضحة ومعالجات بسيطة ترفض الشكوك الفلسفية وأي محاولات للتحقق ينتج عنها الشك.
ومع انهيار القيم الكبرى كالشيوعية والاشتراكية، أبرزت الأيديولوچيا الإسلامية نفسها كمخرج ثوري وتحريري وحيد. لكن على الرغم من هذه المقاومة الإسلامية للامبريالية في إيران ولبنان وفلسطين، فقد استفادت الإمبريالية أيضاً منها عبر تحالفات تكتيكية أثناء الحرب الباردة وبعدها. وقد انتهى الحال بالإسلاميين إلى اعتناق السلوك النيوليبرالي على حساب خطاب توزيع الثروة وحقوق الفقراء وقت الحرب الباردة، في إطار سعيهم لفرض فكر ونمط عيش على المجتمعات التي يحكمونها.
يقارن الكاتب بين ذلك وبين لاهوت التحرير الذي ظهر في أمريكا اللاتينية والذي لم يكن خطاب هوية بقدر ما كان خطاب تحرير لمواطني الطبقة الدنيا. فبينما سعى الإسلاميون إلى أسلمة مجتمعاتهم ومؤسساتهم، كان لاهوت التحرير يسعى إلى انتشال المجتمع من حالة الحرمان، فوجد كثير من الأمور المشتركة مع النقابات العمالية والحركات الشعبية والهيئات الطلابية، بينما لم يكن في استطاعة الإسلاميون أن يشتركوا مع غيرهم إلا في المعارضة للأنظمة الحاكمة في طبقتها السطحية لكن باختلاف كبير في كل المحددات الأساسية كالحرية والعدالة الاجتماعية. ورغم اكتساب الحركات الإسلامية للتأييد الشعبي بفضل خطاب شعبوي ورعاية اجتماعية منظمة ومناهضة للأنظمة الفاسدة، لكنها نتيجة نظرتها الإقصائية الاستبدادية وافتقارها إلى مشروع اقتصادي حقيقي، أصبحت أداة في أيدي الامبريالية أدت لانتشار الإسلاموفوبيا.
النيوليبرالية وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
يبرز الكاتب تأثيرات النموذج النيوليبرالي على مدن الشرق الأوسط حيث أنتجت ما أسماه المدن المقلوب داخلها خارجها، الذي فيه كثير من الناس منتشرين في الشوارع بحثًا عن الرزق في أعمال غير رسمية دائمة ووقتية على السواء. حياة لم تعد حكرًا على الطبقات الدنيا لكنها استوعبت الطبقة الوسطى أيضاً مع مرور الوقت. هذا النمط من الحياة في الشارع أدى إلى نمط مضاد قائم على انغلاق الأغنياء في مدن مسوّرة ومؤمنة وأماكن حصرية لأصحاب مستوى اجتماعي معين بهدف منع حضور المحرومين ومخاطرهم الاجتماعية. نموذج نجده جلياً في ثنائية مصر و Egypt التي نحيا بداخلها.
يؤدي ذلك الاستبعاد إلى خلق نمط جديد من ديناميات الحياة في الأماكن العامة ينتج درجة من التجسيد السياسي والاجتماعي فيما أسماه الكاتب سياسة الشارع. يؤدي التجمع في نمط مشابه إلى نشوء تضامن بين الأطراف المهمشة والمحرومة والتي جمعها الشارع بحثاً عن الرزق أثناء صراعهم مع السلطة لإنشاء وضع جديد في الشارع يراه الكاتب يصلح نواة لما هو أبعد.
المشكلة في رأيي هنا أن اقتصاد الشارع يُنتج مجموعة من الناس تسطيع مراكمة بعض من رأس المال يجعلها تسيطر عليه تدريجياً بحيث لا يصبح هذا الاقتصاد حرًا بالشكل الذي قد يبدو عليه، ولكنه يتحول إلى مجموعة من الناس التي نجحت في جمع رأس مال يسمح لها بالتحكم في مساحات من الشارع وفي الناس المنتشرة به.
الميادين..القفص الذي حبس الثورات
يتحدث الكاتب عن ارتباط الربيع العربي بالميادين، حيث تم إنشاء مجتمعات أقرب للمثالية، تعطي لمحات عما ينتظرها في حال نجاح الثورة، وهو ما لم يحدث بكل تأكيد.

لحظة الميادين كانت لحظة استثنائية، كل البشر فيها طيبون، لكن بمجرد انتهائها كان لابد أن نرى الوجوه الآخرى لمن شاركوا فيها. هذه الميادين على روعتها وجمال لحظات الحياة فيها، كانت توفر الخلاص لأناس فقدوا الأمل في الحصول عليه أثناء حياتهم اليومية، فأصبحت الميادين هدفًا في ذاتها، لهذا تجد البعض يذكرون في معرض تحديد أسباب الفشل أن منها مغادرة الميادين سريعًا، وكأن البقاء فيها لم يكن شيئًا استثنائياً، والمشكلة الحقيقية كانت أن لا أحد مستعد لليوم التالي للرحيل عنه.
هل حدث الربيع العربي فجأة؟
كان الحديث عن كون الربيع العربي مفاجئاً وهو لم يكن كذلك، ربما كانت المفاجأة في نجاحه ولو لبعض الوقت. لقد كان أشبه بانهيار الاتحاد السوڤيتي، متوقعًا طوال الوقت ومفاجئًا عند حدوثه.
فقد كانت الانتقادات للأنظمة موجودة دائمًا، لكن ولأن أشكال ممارسة المعارضة التقليدية كانت إما مُحجمة أو كرتونية، لجأ الناس لأشكال أخرى كالمجموعات الشبابية والحركات غير الرسمية. كانت المفاجأة أيضاً هو غياب الطابع الإسلامي عن انتفاضات الربيع العربي، فلم يكن من قيادة تستطيع رسم مسار معين للحركة التي عارضتها أغلب القوى الدينية عند اندلاع شرارتها وأحجمت عن المشاركة فيها بشكل رسمي قوى أخرى.
لماذا فشلت الثورة؟
في مصر ورغم حديث متحفظ من جماعة الإخوان يتعهد بعدم السيطرة على السلطة، اندفعوا إلى السيطرة على البرلمان ثم منصب الرئاسة. أدى ذلك إلى نشوء تيار ما بعد إسلامي بخطاب متجاوز للأيديولوچيا الإسلامية التقليدية المرتبطة بالهوية.
تم دفع مؤيدي الثورة من اليساريين والليبراليين والما بعد إسلاميين إلى الهامش. تمكنت الثورات من إزاحة الطغاة لكنها فشلت في إحداث أي تغييرات راديكالية، فتحولت إلى نصف ثورة. أحد أهم أسباب فشل ثورات الربيع العربي خاصة في مصر هو تناقضها في جمعها التعبئة الثورية للسير في مسار إصلاحي. أدت سرعة نجاح الحركة في إزالة رأس النظام وجزء من المؤسسات الداعمة له إلى توهم الثوار إمكانية قيام بقية المؤسسات بالإصلاح نيابة عنهم، وهو ما لا يمكن أن يحدث فأصبحت الثورات ثورات إصلاحية.
.سبب آخر مهم للفشل كان فصل السياسة عن الاقتصاد، وهو ما ظهر جلياً في التعامل مع الإضرابات العمالية والمطالبات برفع الأجور باعتبارها (مطالب فئوية) لا يتحملها الوطن الآن، ولابد من تأجيلها وكأنها تسير في مسار منفصل عما كانت الثورة تسير فيه. الأمر الذي أدى إلى تحييد قوة كبيرة من القوة الاستراتيچية للثورة. الافتقاد لقيادة واعتماد الثورة على شباب غير مُسيّٓس (الشباب الطاهر كما أطلق عليه الإعلام وقتها) أدى لعدم وجود استراتيچية واضحة. ماذا بعد؟
في حين أن الجماعات المسيسة وعلى رأسها الإخوان كانوا يميلون لأي رؤية إصلاحية يتم عرضها من جانب القوى الحاكمة. لقد فاجأت الثورة الجميع، وخصوصاً المشاركين فيها والداعين لها، ما أدى إلى أن تصبح ثورة بلا ثوار. كان للمناخ النيوليبرالي أثر مهم في ذلك الفشل. فقد نزعت النيوليبرالية الشرعية عن فكرة الثورة ومكوناتها الراديكالية، واستبدلتها بفكرة العمل المدني في المنظمات الأهلية المهتمة بحقوق الإنسان وتمكين النساء والأعمال الخيرية. هذا النموذج أدى للتعامل دائمًا مع قشور الأمور.
بالنسبة لتمكين المرأة فهناك كوتة للنساء في مجلس الشعب، لكننا سنتجاهل محنة النساء في الطبقات الدنيا. وبالنسبة للفقراء سنجمع لهم التبرعات لتسكين جزء بسيط من مشاكلهم، لكننا سنتجاهل ما يمكن فعله لإعادة توزيع الثروة وسندعم الخصخصة. لم يكن ممكنًا لمجتمع مدني متجرد من البعد الطبقي ومن البعد السياسي، أن يجد حلولًا لمشاكل جذورها طبقية وسياسية بالأساس.
الثورة الإصلاحية.. وإخفاق الساسة
يناقش الكاتب ما عنته الثورة الإصلاحية للناس العاديين. ففي مقابل ظهور تيار سلفي حاول فرض نظامه الاجتماعي الإلهي، حاولت النساء التحرر من القيود المجتمعية بشكل أقوى. ظهرت في مصر موجة من خلع الحجاب، ورغبة قوية في الاستقلال وتحقيق الذات حيث قررن أن يعشن منفصلات عن أسرهن. كذلك عبّرت جماعات منبوذة كالمثليين والملحدين عن وجودها رغم المصاعب التي واجهتها. كان الكل جزءًا شكّل ميدانًا واحدًا، وأرادوا نقل هذه الصورة إلى أرض الواقع.
أحدثت الثورة شرخاً في مفهوم السلطة الدينية والاجتماعية، فأدرك الأبناء أنهم ليسوا ملكًا لآبائهم، والطلبة في المدارس والجامعات أن لهم حقوقًا في التعامل مع أساتذتهم، وأن الشيوخ يمكن مناقشتهم والاعتراض على كلامهم. الفقراء أيضًا كان لهم نصيب من آثر الثورة، فاقتحموا الشوارع بحثًا عن العمل، وبنوا على الأراضي رغبة في تأمين السكن. أنشأوا النقابات وقاوموا أوامر الإخلاء لكن تأثير ذلك لم يدم طويلًا. كما كان التحرير مركز قوة للثورة، فقد ظل مركزًا بما في ذلك من سلبيات. كان من الواجب أن توجد مراكز اجتماعية متعددة، ترفع مطالب الناس في المدن والقرى وتنشئ كيانات فعالة لتحقيقها، لكن ذلك لم يحدث بالقدر المطلوب ما أدى لسحق الفقراء في مناخ نيوليبرالي خانق.
كان للعوامل الچيوـسياسية تأثيرًا جعل الثورة أكثر هشاشة أمام قوى الثورة المضادة، لكن الهزيمة لم تكن حتمية.
كل ثورة تحمل معها بذور ثورة مضادة تريد الحفاظ على مكتسباتها السابقة، لكن المحاولات المضادة للثورة تفشل نتيجة عدم وجود دعم شعبي كافٍ لها.
افتقرت الثورة المصرية لوجود سلطة حاكمة جامعة لتحالف وطني يقودها قائد يفوز بثقة الناس. ومع الوقت انقلبت آمال الناس إلى خيبات أمل، ثم إلى ندم وتوقٍ لأيام من قامت الثورة ضده، لينتهي بهم الحال منتظرين قائدًا لإنقاذ البلد يملك من القوة ما يجعله قادرًا على حل المشكلات، لينهي في الواقع مشروع الثورة من أساسه.
للثورات الإصلاحية حدود. حدود تجعل أفرادها غير قادرين على انتزاع السلطة فيحتاجون إلى من يقوم بذلك نيابة عنهم. حدث ذلك في ٢٠١١ و٢٠١٣ وسيحدث في أي وقت تتوفر به نفس الظروف. الثورات الإصلاحية كذلك تعددية بطبيعتها، يمكن أن تمهد الطريق لديموقراطية انتخابية لكن بشرط وجود آليات قانونية ومؤسسية. واجتماعية كافية، وانتقال المعارضة الثورية من الشوارع والميادين، إلى ميادين الحياة اليومية، دعمًا للناس في معاركهم اليومية وبهذا تحافظ الثورة على ظهيرها الشعبي بدلا من تذمره لتعطيلها الحياة اليومية في الشوارع والميادين.
الثورة الطويلة
في النهاية يأبى الكاتب إلا أن يعطينا جرعة من الأمل رغم الفشل والردة ومن فقدناهم، فالثورة هي النوع الوحيد من الحرب الذي لا يمكن الانتصار فيه إلا بسلسة من الهزائم. أنتجت الثورة وعياً لم يكن موجودًا قبلها، أصبحت كل الاحتمالات مفتوحة بعدها مهما بدت صعبة أو مستحيلة.
يقدم ريموند ويليامز مفهومه عن (الثورة الطويلة) وهي عملية مرّكبة وعوامل التغيير فيها لا تقتصر على العامل السياسي والاقتصادي، ولكن عوامل التغير الاجتماعي والثقافي والإنساني التي تنطوي على أعمق ما في بُنى العلاقات والمشاعر. الثورة تستلزم إعادة تفكير جوهرية في السلطة. وإعادة تصور جذري لنظامنا الاجتماعي. والسعي إلى مجتمع تقوده روح المشاركة والمساواة والديموقراطية الجامعة.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد